كتاباتنا... القيمة والأثر..!

منذ 2014-04-29

إن أعظم ما يطمع فيه كل كاتب من أمور الدنيا -وخاصة الكتاب الذين يكتبون أفكارهم تحقيقًا لحب الكتابة والرغبة فيها لا من يكتبون ليتكسبوا أقواتهم فحسب- أن تنتشر كتابتهم وأن يطلع عليها اكبر عدد من الناس، ودائمًا ما يكون انتشار كتابته خارج حدود وطنه ودولته وترجمتها إلى لغات أخرى دليلًا على اتساع مجال تأثيرها ليكتسب جمهورًا اكبر.

إن أعظم ما يطمع فيه كل كاتب من أمور الدنيا -وخاصة الكتاب الذين يكتبون أفكارهم تحقيقًا لحب الكتابة والرغبة فيها لا من يكتبون ليتكسبوا أقواتهم فحسب- أن تنتشر كتابتهم وأن يطلع عليها اكبر عدد من الناس، ودائمًا ما يكون انتشار كتابته خارج حدود وطنه ودولته وترجمتها إلى لغات أخرى دليلًا على اتساع مجال تأثيرها ليكتسب جمهورًا اكبر.

 

ولكن الإحصاءات الدولية تقول بأن كتاباتنا العربية لكل كتابنا العرب المعاصرين على اختلاف توجهاتهم لا يترجم منها إلا النذر الضئيل جدًا وذلك بالمقارنة بالترجمة العكسية من الكتابات من اللغات الأخرى سواء في الكتب بكافة تصنيفاتها أو المقالات بكافة فروعها.

 

وتشير الإحصاءات أيضًا إلى أن ترجمة الكتب العربية إلى اللغات الأخرى في الكتب التي كتبها المسلمون والعرب القدامى أضعاف ما يترجم من كتب المعاصرين وهذا يدفعنا للتخلي عن فكرة المؤامرة لننظر إلى واقعنا بصدق ولندرك أن الكتابات العربية الحالية ضعيفة القيمة وقليلة الأثر، فكل الدول والثقافات كمشتري السلع تمامًا لن يقبل إلا على الجيد منها الذي يظن أنه سيستفيد منه في واقعه ومستقبله.

وكنتيجة لذلك حدثت هذه المفارقة، فاللغة العربية التي يتحدث بها أكثر من (480) مليون عربي وهم تقريبًا يزيدون عن (7%) من سكان العالم، وهي اللغة التي يطالب أكثر من مليار ونصف من البشر بتعلم ونطق عدد من مفرداتها كجزء من شعائر دينهم وهم يشكلون ما تزيد نسبته عن (21%) من سكان الأرض، ورغم ذلك لا نجد لها حضورًا على الشبكة العالمية (الإنترنت) كمحتوى عربي إلا بنسبة لا تزيد عن (3%) من محتوى الإنترنت، وما ذلك إلا تجسيد لقلة الكتابات العربية من جهة ولضعف قيمة محتواها من جهة أخرى.

 

وبتجربة شخصية أبرزت لي قلة وضعف قيمة كتاباتنا العربية أو على الأقل قلة وضعف قيمة المحتوى العربي على الإنترنت عندما كنت ابحث في موضوع يختص بمناقشة ومعالجة مشكلة تربوية سلوكية وجريمة كبرى وهي مشكلة اللواط، فبحثت كثيرًا ولم أجد كتابات إلا قليلة ولم أجد فيها محتوىً علميًا معقولًا يحدد أسباب المشكلة النفسية والاجتماعية وكيفية وقوع الفرد فيها وكيفية معالجته منه، وكان السبب الأول في ذلك أن معظم كتاب الغرب التربويين ينطلقون من عقائدهم وأفكار مجتمعاتهم ولا يعتبرونها مشكلة اجتماعية ولا سلوكية ولا أخلاقية بل لا يعتبرها معظمهم ذنبًا دينيًا فلم يتوجهوا إليها بدراساتهم وكتاباتهم، فظهر الضعف جليًا في كتاباتنا -في هذا الموضوع- التي تعتمد في معظمها على ترجمة وتعريب أفكار العلماء الغربيين وليس لنا بل لعلمائنا في كثير من العلوم إبداعات أو ابتكارات، بل والمشكلة الأكبر أن كثيرًا من كتابنا يلجأ إلى ترجمات لكتابات علماء الغرب ويعمد تجهيل مصادره حتى يبرز على الناس بأنه صاحب الفكرة والابتكار.

 

ولعل هناك أسبابا عدة -يحسن عرض بعض ما تيسر منها- هي التي أدت بنا إلى هذا الانحدار في الكتابات في ظل غياب كامل أو جزئي للابتكار والتجديد والإبداع، والأمر يحتاج إلى بحث أطول وكتابة أعمق ومشاركة أوسع، فما هذا إلا طرح لبعض الأسباب:

- ضعف أو انعدام القراءة على المستوى العام إن أول أسباب الضعف العام في الكتابة هو انخفاض مستوى المعرفة عند التلقي، فلا كتابة قوية بلا رصيد معرفي قوي، والسبيل الأول للتنمية المعرفية هو القراءة الحرة أو المقننة، العامة أو التخصصية، والضعف العربي ظاهر فيهما عامة، فقد كشف تقرير التنمية الثقافية السنوي الرابع [1] عن حالة ضعف شديدة في نسبة القراءة بين العرب، فالوقت الذي ينفقه الأوروبي في القراءة يقدر بنحو (200) ساعة سنويًا، بينما ينخفض هذا المعدل لدى العربي إلى ست دقائق سنويًا فقط مما يوحي بالتفاوت المعرفي الرهيب، وبالنسبة للناشئة العرب أوردت الدراسة أن عدد الكتب المؤلفة سنويًا للطفل العربي لا تزيد على (400) كتاب في الوطن العربي كله بينما يُكتب للطفل الأمريكي (13260) وللبريطاني (3837) وللفرنسي (2118) وللروسي (1458) كتابًا في السنة الواحدة.

ولهذا ورغم نيل الكثيرين لشهادات عليا وربما أكاديمية مرموقة إلا أن الضعف الثقافي واضح في أغلبهم، فكيف تخرج كتابات ناجحة ومتخصصة ومفيدة عالميًا ممن لم يحصلوا على القدر الكافي من المعلومات حول ما يكتبون فيه فضلًا عن ابتكارهم وإبداعهم بالجديد فيه؟

 

- احتكار كتاب التحليل السياسي للنجومية في عالمنا العربي وحيث لا توجد قواعد واضحة لأنظمة كثير من الدول العربية التي تعتمد على الأشخاص لا المؤسسات يصعب فهم القرارات السياسية من تحالفات أو تخالفات ويصبح من العسير جدًا التكهن بأي قرارات مستقبلية سياسية لكثير من الأنظمة إذ تحتاج الكتابة السياسية إلى نوع من التحليل النفسي لشخصية المسئول عن القرار ودراسة طبيعته وانفعالاته وتوجهاته.

ولهذا فالكتابة السياسية الصادقة تحليليًا وواقعيًا في عالمنا العربي في ظل المتغيرات الشديدة والتقلبات الحادة تعتبر من غرائب الكتابات، ومن يمتلك القدرة على الرؤية السياسية والتحليل المبني على اللاقواعد كاتب موهوب ولاشك ويستحق ان يتصدر في مقدمة النجوم وتسلط عليه وعلى كتاباته الأضواء.

ولكن الكتابة السياسية مهما كانت متقنة وبارعة تظل في النهاية وجبة دسمة ينتهي مفعولها بعد يوم أو أيام على أقصى تقدير، فعمرها دائمًا قصير وما يستفاد منها لا يطول أثره، فأين آلت الكتابات البارعة التي سلطت حولها الأضواء الباهرة لأشهر الكتاب السياسيين في العالم العربي التي شرحت مثلا مستقبل العلاقة بين عبد الناصر وإيدن وايزنهاور وقمة جنيف ومؤتمر عدم الانحياز وغيرها؟ لا وجود لها البتة حاليًا ولا أهمية لها تذكر إلا كرصد لحالة تاريخية يمكن الرجوع إليها كوثائق في الدراسات الأكاديمية.

ولكن الكُتاب الذين لا ينالون نفس درجة النجومية والشهرة الذين يهتمون بالإنسان، أصحاب الكتابات الاجتماعية التي تهتم بالإنسان ككيان عام، تناقش وتدرس مشاكله وأسبابها وحلولها، والتي تهتم بقواعد تربيته وأساليب تنشئته وتضع معايير الصواب والخطأ في تعاملاته التي تنفعه في دينه ودنياه تظل ذات فائدة متصلة، فطالما ظل الإنسان باقيًا بقي ببقائه كل ما يتعلق به من كتابات ونظريات وأفكار، ولهذا يمكن إعادة قراءة ما كُتب من كتابات اجتماعية وما اتفق عليه من نظريات سلوكية لعدة أجيال، وتحتمل هذه الكتابات بعد ذلك التصويب أو التطوير أو التأكيد أو المعارضة لكنها في النهاية ستبقى ولن تكون هباءً منثورًا كما الكتابات السابقة.

 

- قلة أو انعدام احترام التخصص تنتشر في غالب عالمنا العربي سمة من سمات عدم احترام التخصص، فنجد كثيرا من أصحاب الأعمدة الصحفية لا يحترمون ذلك التخصص، فربما تجد احدهم يرتدي ألوانا متضادة في كتابته، فتارة يكون ناقدًا رياضيًا وأخرى محللًا سياسيًا أو منظرًا تربويًا أو رجلًا اقتصاديًا وربما معالجًا طبيًا إذا احتاج لذلك ولم يكن لديه موضوع ليكتب فيه، وهكذا دون أن يتخصص في لون من الكتابة ينمي فيه معارفه ويصقل نفسه فيه بالقراءة والاطلاع وحضور الندوات والدورات، فهل يمكن أن تصل كتابته في أي لون من الألوان السابقة إلى درجة الإبداع الذي يترجمه الغير ليستفيد منه؟

 

- أسلوب المبالغة والتهويل في الكتابة. لدى الكثير من الكتاب العرب آفة في الكتابة وهي التهويل والمبالغة، فدائمًا ما تكون العلوم الإنسانية تجريبية فليست فيها نظريات قاطعة ولا حلول جذرية تصلح مع كل الناس كل الوقت، وبالتالي فيجب أن تكون الكتابات حولها كذلك، فالتهويل والمبالغة في طرح أي حل لأي مشكلة هو نوع من العبث الفكري بالقارئ الذي لن يضع هذه الكتابة موضع الاحترام والتقدير، ولن يسعى غيرنا إلى الاهتمام بكتاباتنا إلا إذا عرضنا كتاباتنا بمنطق وتحليل علمي وطرح خال من المبالغة لا في عرض المشكلة ولا في حلولها.

ونتساءل هل يقبل غيرنا على ترجمات السير الذاتية التي يكتبها العرب لأنفسهم أو لمن يوكلون بكتابتها لهم؟ بالطبع لا، على الرغم من إقبال القراء المنقطع النظير على كتب السير الذاتية في الغرب بصرف النظر حتى عن كونهم مشاهير أم لا وبصرف النظر عن تقييمهم لهم، لأنهم يجدون فيها فرصة لقراءة خبرة وتجربة إنسانية يتعلمون من صحيحها ويبتعدون عن سيئها لكننا في العالم العربي لا نكتب سير ذاتية لبشر، فمبالغة كل كاتب فيها يكتب حسناته ومميزاته ويعظمها ويترك سيئاته ومثالبه ويخفيها وأحيانًا يبررها إن بلغت حدًا لا يمكنه إخفاؤها، فيرفع قدر نفسه ويضع من أقدار أقرانه ونظرائه والمحيطين به، فهل هذه سير ذاتية تصلح للقراءة أو الترجمة؟

فالكيان البشري بأخص سماته بمميزاته وعيوبه منفصل عنها فلا استفادة للإنسان منها ولا جدوى من قراءتها.

 

- النسخ واللصق وإعادة الإنتاج آفة أخرى من آفات وكبيرة من كبائر الكثير من الكتابات العربية هي كثرة النسخ واللصق من دراسات وكتابات سابقة، بل ويمكن النقل حرفيًا لفصل أو عدة فصول من دراسات وكتابات أخرى غير مشهورة دون اتباع الأمانة العلمية في عزو الكلام إلى صاحب الحق الأصلي ودون أيما إشارة له، وتشهد الساحات الثقافية العربية حوادث كثيرة في هذا الشأن وترفع فيها قضايا تثير الرأي العام الثقافي العربي دون أن تؤثر كثيرًا في هذه المسيرة الخاطئة.

ولعل القارئ يكتشف بالبحث عن خبر أو موضوع عربي على الانترنت فيجد أن عشرات المواقع تتناقله حرفيًا كما هو بل بأخطائه الإملائية والنحوية وبصياغته التي كتبها الكاتب الأول حتى لو كان صاحب غرض في سوق الخبر بالكيفية التي تخدم أفكاره، فلا يكلف احدهم نفسه -إلا القليل النادر- بمراجعته أو ضبطه على النحو الذي يتفق مع رؤيته في مشهد يؤكد وجود الخلل والاستسهال في أعمالنا، فمتى تكون كتاباتنا مؤثرة والغالبية تنقل دون وعي ولا إدراك؟

 

- الثقافة رتبًا لا واقعًا حقيقيًا يعتمد الكثيرون في عالمنا العربي في كتابتهم على رتبهم الثقافية التي يحصلون عليها سواء بالحق أو بالباطل، فمن المعروف ان عددًا من المشهورين في الساحات الثقافية ينالون رتبهم بالتدليس، فمنهم من يحصل تزويرًا على درجة الماجستير أو الدكتوراه من جامعة وهمية لا وجود لها ومنهم من يعهد إلى طلبة علم فقراء فيعطيهم مالًا ليكتبوا له رسالة الماجستير أو الدكتوراه ليتسلمها وليناقشها ويحصل بها على الدرجة العلمية وهو أيضًا تدليس ولكن بطريقة أخرى، وهكذا حتى يصبح العلم والثقافة رتبًا ودرجات لا وجود لها ولا حقيقة، وبهذا تظل كتاباتهم وأحاديثهم بعيدة تمامًا عن الجودة العلمية المطلوبة في تخصصاتهم فضلًا عن كتاباتهم في غير تخصصاتهم، فهل يمكن أن تكون لهذه الكتابات قيمة تذكر ليترجمها غيرنا عنا ليستفيدوا بها؟.

وهناك أزمة أخرى عن أهل التخصص والعلم والثقافة الحقيقيين، إذ يعتبر كثيرون منهم أن درجاتهم العلمية ومكانتهم الثقافية مؤهلان كافيان لقبول أية كتابة منهم مهما كانت رداءتها أو قلة جودتها، ويعتمدون في كتابتهم -وخاصة في المقالات- على الاستسهال لتلقي الناس لكتاباتهم بالقبول اعتمادًا على أسمائهم العظيمة الشأن، فإذا كان هذا مقبولًا مستساغًا بين من يعرفهم من العرب فهل يقبل منهم على المستوى العالمي هذا المستوى من الكتابة فتنشره مراكز البحث العالمية أو المجلات المتخصصة التي لها معايير دقيقة في قبول الكتابات؟

 

- ضعف أو انعدام ثقافة الكتابة والتدوين للنشأة منذ الصغر عامل مهم جدًا في حياة الإنسان، وكثير منا لم ينشأ على القدرة على التعبير عن أفكاره ومشاعره وخططه المستقبلية وانفعالاته عن طريق الكتابة، وساهمت جهات عدة في هذا الهجران منها طريقة التعليم ومنها الممارسة العملية ومنها سطوة وسائل الإعلام في حجب الكثيرين عن التعبير عن آرائهم الشخصية بكتاباتهم.

ففي الوقت الذي يجب أن يربى الصغار على أن يكتبوا ويعبروا عن أنفسهم ويخرجوا مكنوناتها في صورة كتابة نجد أن الكثير من أبنائنا لا يعرف القلم إلا مضطرًا في أيام الدراسة ويلقيه بمجرد انتهائها، فلا يستطيع إنشاء جملة أو التعبير عن نفسه في موقف لبغضه للكتابة وممارستها، وحتى عندما دخل الانترنت حياتنًا وأصبح متاحًا لكل منا أن يكون له مدونة خاصة به يكتب فيها أفكاره الخاصة إذا بها تتحول إلى مواقع للأنشطة أو مواقع ربحية رغم أن هناك مدونات شخصية وصلت للعالمية لا لشيء إلا لأنهم عبروا فقط عن أنفسهم وعن آرائهم وأفكارهم التي يمكن أن تتفق معها أو تختلف في حين لم تصل أي من المدونات الأخرى لأي مستوى عالمي لخروجها عن الهدف المنشود منها.

ولأننا مطالبون بالبحث عما ينفعنا وترك ما لا يتلاءم مع عقائدنا وقيمنا وليس تحيزًا للغرب لكننا نجد فيهم الاهتمام الشديد والمتوارث بصفة التدوين والتسجيل لكل لحظة أو موقف يمر بهم بالصوت والصورة والكتابة، ومدوناتهم الشخصية شاهدة على ذلك فبها مادة ثرية جدًا من الخبرات الإنسانية والمواقف الحياتية التي يستفيد الكثيرون من الصالح فيها وبالطبع يتركون منها مالا يتلاءم معهم، فكم مدونة شخصية عربية وصل صيتها للعالمية وترجم محتواها إلى لغات أخرى ؟ [2].

 

- كتابة غير صاحب الشأن أو كتابة صاحب الشأن بعد الحدث نتج عن عدم قدرة الكثيرين عن التعبير عن آرائهم أن نقع في الكثير من كتاباتنا العربية لخطأين شديدين، أولهما كتابة غير صاحب الشأن في موضوع لم يجربه ولم يعرف عنه شيئًا ولا يمتلك فقط سوى موهبة الصياغة لما يسمعه أو ينقل له، فيكتب الحر الآمن عن معاناة السجين الخائف، ويكتب الجالس في المكاتب المكيفة عن معاناة العمال تحت الشمس الحارقة، ويكتب الغني الذي لم يتذوق مرارة الفقر والحاجة عن معاناة الجوعى والمشردين الذين لا يجدون مأوى يؤويهم ولا حانيًا يعطف عليهم، ويكتب المستقر ماليًا واسريًا عن الأسر المفككة التي تعاني من التصدع الاجتماعي، بل ويكتب الرجل عن نفسية المرأة ومعاناتها وآلامها وهو البعيد تماما -مهما أوتي من بيان- عن الفهم الكامل لنفسيتها فضلًا عن التعبير عنها، فهؤلاء يمكن أن يصوروا المشهد ببراعة شديدة تأخذ بلب العقول لكنها لا تحرك القلوب ولا تصل إليها، فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، وهذه الكتابة لا ترقى لمستوى عالمي، فأعظم قصائد الشعر عن الحرية كتبها سجناء داخل زنازينهم، وأكثر التفاسير تأثيرًا هي التي كتبها كاتبها وهو في خلوة مع الله بعيدًا عن شواغل الدنيا، وأكثر القصص العالمية كانت ناتجة عن قصص حياة أصحابها أو معاصريهم الحقيقيين.

 

أما الثانية أن يكتب صاحب الشأن في شانه الخاص بعد انتهاء الحدث، فالصحيح يكتب بعد شفائه عن معاناته في مرضه الذي كاد أن يقتله، والغريب يكتب عن رحلة غربته بعد عودته لوطنه واطمئنانه، والفقير يكتب عن معاناته في فقره بعد غناه واستقراره، والفاشل يكتب عن رحلة فشله ومعاناته معها بعد نجاحه، فلاشك أن هذه الكتابات قد فقدت بريقها ونضارتها وحيويتها، فما هي إلا ذكريات من عمر مضى وليست تسجيلًا وتدوينًا لمشاعر قائمة وتداخلات فكرية ومخاوف وبدائل وحلول، وبالتالي لا يستفيد القارئ شيئًا من الذكريات بقدر ما يستفيد من كيفية تعامل المريض مع المرض أثناء المرض وهكذا الغريب والفاشل والفقير، هذه الكتابة اللحظية التدوينية والتسجيلية هي أعظم الكتابات التي لا تحتاج لكثير خبرة ولا لكثير تحسين صياغة بقدر ما تحتاج إلى استرسال في ذكر الانفعالات النفسية للكاتب مع مجتمعه، وهذه الكتابات هي التي تفتح الأبواب العالمية أمام كاتبيها وكتاباتهم.

 

ويمكن في مقال آخر حتى يكون لهذه الكتابة قيمة أن نجتهد في وضع أفكار وحلول مناسبة لإعادة مفهوم التدوين وتسجيل الخواطر والأفكار لزيادة المساحة المكتوبة ومن ثم لتخريج جيل عربي جديد يكون لكتابته قيمة على المستوى المحلي والمستوى العالمي.

 

يحيى البوليني.

16/11/1434 هـ

________________________

[1] تقرير صادر عن المركز العربي للتنمية.

[2] وعلى سبيل المثال -للفكرة فقط- هناك مدونة شخصية لفتاة مصرية ذكرت فيها مذكراتها الشخصية مع الخاطبين الذين تقدموا للزواج منها فصدرت على هيئة كتاب في دار الشروق المصرية وترجمت للإيطالية والألمانية والإنجليزية والهولندية.

  • 0
  • 0
  • 18,805

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً