بعض خصائص العقيدة ومكانة الإنسان فيها
إن الإسلام لا ينظر إلى الحياة على أنها صدفة فارغة عادية، ولا على أنها طيف خيال للآخرة، ولكن على أنها وحدة إيجابية تامة في نفسها، وعبادة الله في أوسع معانيها تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية.
لقد بدأ الصراع في أوروبا بين العقيدة المحرفة وبين الحقائق العلمية، ثم امتد الصراع إلى أرضنا وإلى أبنائنا، وأخذ أبناؤنا -خاصة الذين يتخرجون من المؤسسات العلمية الغربية، ومن الجامعات الأمريكية والأوروبية هناك أو فروعها هنا-؛ أخذوا يعادون الدين، ظانين أن عقيدتنا تعادي العلم، وأن ديننا كالدين الكنسي يصارع ويصطدم بالبحوث العلمية، ولكنها الصبغة التي اصطبغ بها العلم الغربي من جراء المعارك الطاحنة، صبغة الجفوة بين الدين والعلم والعداء بينهما، ونقله أبناؤنا دون تريث وبلا تفكير قليل في مصدر هذا النزاع وفي سبب هذا الشقاء، وأخذنا نتبع التفكير الأوروبي المادي حذو القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه.
لقد نسي أبناؤنا أن قرآننا يقول: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة من الآية:11].
وكأنهم لا يقرؤون: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر من الآية:9].
نسوا أن القرآن من عند الله، والله يعلم ما سيحدث، وما سيجد من الأجيال والاكتشافات والعلوم.
إن الاكتشافات هي عبارة عن معرفة سنن الله في هذا الكون، والله الذي خلق هذه السنن والنواميس والأنظمة في الكون هو الذي أنزل القرآن، وهو الذي أنطق رسوله صلى الله عليه وسلم بالسنة، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم الآيتين:3-4].
فلا يمكن أن يصطدم نظام الله في الكون ونظام الله في القرآن، "فالكون هو كتاب الله المنظور، والقرآن هو كتاب الله المسطور، فلا يمكن أن يصطدم الكتابان معًا"، هذا إذا كنا مسلمين، ونعتقد أن القرآن منزَّل من عند الله، وأنه قطعي الثبوت متواتر، ومَن شكَّ في حرف من القرآن؛ فقد كفر.
"لا يمكن لأية نظرية علمية أن تصطدم مع آية قرآنية أو حديث نبوي ثابت صحيح، وإن اصطدمت فإن هذا يعني أن النظرية لم تثبت بعدُ، وما أكثر النظريات العلمية التي كنا نعدها حقائق علمية مُسَلَّمة"، ثم تراجع عنها أصحابها في حياتهم أو أثبت خطأها من بعدهم.
ولا ننسى أن العلماء في ميادين الطب والفلك والجغرافيا وغيرها من العلوم التجريبية المحضة في هذا القرن -العشرين-؛ قد ألقوا السَّلَم وكفوا أيديهم عن محاربة الدين والغيب، وأخذوا يعترفون -تحت ضغط الحقائق العلمية- بوجود الله، الإرادة المدبِّرة لهذا الكون وما فيه. وأصبح العلم يثبت وجود الله، وأصبح العلم مرادفًا للغيب لا مناقضًا له ومصطدمًا معه.
ونحن عندما نقول: إن العلم يثبت وجود الله، وينفي الإلحاد؛ لا نعني به أننا نورده لتصديق نفوسنا، فلقد آمنَّا قبل أن يأتي العلم، آمنَّا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولًا، نعتقد بالله قبل أن يقول فلان وفلان...ولكننا نورد هذا لنحاكم الذين يدَّعون العلم ليثبتوا جحودهم وليعلنوا إلحادهم، لقد أصبح في هذا القرن مَن يدعي الإلحاد عن طريق العلم جاهلًا في نظر الذين فاقوه في ميدان أبحاثه -هذا إن كان باحثًا- إن لم يكن ببغاء تَلُوك ما تسمع، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
وإنْ أردت الاستزادة في هذا الموضوع؛ فاقرأ كتاب (الله يتجلى في عصر العلم)، ولتَسْمَعْ فيه قول (رسل أرنست) الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا: "إن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق، ولذا فإنني أؤمن بوجود الله إيمانًا راسخًا" [29].
واقرأ إن شئت (العلم يدعو إلى الإيمان) لـ(كريسي موريسون)، وإن استطردت فارجع إلى سلسلة كتب الأستاذ (عبد الرزاق نوفل): (الله والعلم الحديث)، (الإسلام والعلم الحديث)، (القرآن والعلم الحديث)، (طريق إلى الله)، (بين الدين والعلم).
والآنَ لنرجع إلى حديثنا عن عقيدتنا وديننا الذي تكفَّل الله بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ولنرى (مركز الإنسان في هذه العقيدة): إن الإنسان في العقيدة كريم، يحتل المكانة الأولى في هذا الكون، فقد سخَّر الله له ما في السموات وما في الأرض، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
والذي يسخر له السموات والأرض هو أثمن من السموات والأرض وأغلى منهما: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38-39].
ومن اللحظة الأولى التى أعلن فيها ميلاد الإنسان أمر الملائكة بالسجود له إيذانًا بكرامته عند الله، ولقد حرصت الآيات الكثيرة بتكريمه؛ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين الآيات:4-6].
وعلى هذا فالإنسان كريم في هذا الدين، وتكريمه من صلب هذه العقيدة، إذن لابد أن يكون له دور كبير، ولقد حددت الآية التي أعلنت عن خلقه وظيفة من وظائفه، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
وحدَّدت الآية الأخرى قصر وظيفته على العبادة؛ { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات الآيات:56-58].
(إلا ليعبدون) وإلا عندما تأتي بعد النفي تكون للحصر والقصر، فقد حصر الله وظيفته في العبادة التي تقول بأنه لعمارة الأرض وإصلاحها وبأنه خليفة في الأرض.
إذن لابد أن تكون خلافة الأرض وعمارتها جزء من العبادة، فالعبادة تشمل كل جوانب الحياة، فالصلاة عبادة، وزيارة الأرحام عبادة، وغض البصر عن المحارم عبادة، والعدل في الحكم عبادة، ولبس الجلباب الطويل للمرأة عبادة، والأمانة في البيع، والجهاد في سبيل الله عبادة، بل يصبح الطعام عبادة والمودة بين الزوجين عبادة. وتصبح كل كلمة وكل حركة وكل خالجة عبادة، بل النيه الطيبة عبادة، والبغض في الله عبادة.
هذا كله بشرط واحد أن تكون هذه الأعمال مرتبطة بالله، بحيث تكون متجهة إلى الله عز وجل، خالصة لوجهه الكريم.
ولذا فإن قيمة الأعمال في العقيدة الإسلامية مستمدة من بواعثها لا من نتائجها، لأن النتائج بيد الله، لأن جزاء الإنسان لا يتوقف على نتائجها، بل الجزاء من النية في عملها، ولذا فإن موقف الإنسان يتغير تغيرًا كاملًا تجاه الواجبات.
ومن ثَمَّ فإن جزاء الإنسان في الإسلام لا يتعلق بالنتائج، وتخلُّص نفسه من حظ نفسه، ولا يترقب ثمارًا لعمله -حتى انتصار هذا الدين على يديه-، ومن أجل هذا (فإن الغاية لا تبرر الواسطة في العقيدة الإسلامية)، فلا يمكن أن يستعمل المسلم ولا يجوز له استعمال الوسائل الخسيسة لتحقيق غاية كريمة، فلا يحق له الغش في الامتحان من أجل نيل الشهادة التي يظن أنه يخدم بها الإسلام، ولا يحق له السرقة من أموال الكافر للتصدُّق بها على المسلمين.
وهنا أريد أن أشير إلى قضية تتعلق بشمول العبادة للحياة، هذه القضية هي قضية الفصل بين (العبادات والمعاملات).
إن هذه القضية جاءت مؤخرًا عندما بدأ الفقهاء يؤلفون في الفقه، وذلك من ناحية علمية فنية لابد منها للتدريس، فهي للتسهيل على الطالب والمعلم، إلا أن هذا التقسيم ترك آثارًا سيئة في الحياة الإسلامية، إذ تعلَّق في أذهان الناس: أن العبادة فقط هي الشعائر التعبدية، أما المعاملات فقد ثبت في عقول الناس أنها ليست عبادة، ولقد رسخ في ذهن الكثيرين أن الصلاة عبادة، أما أداء الأمانة وصدق الحديث والأمر بالمعروف فإنهم لا يكادون يصدقون أنها عبادات.
إن تنفيد كل أمر جاء في الكتاب أو السنة واجتناب كل نهي ورد فيهما عبادة، إن كل تصرف في الحياة عبادة، إن العبادة تشمل كل نشاط للإنسان في هذه الحياة، هذا مع صدق النية وإخلاصها وتجرُّدها لله.
يقول الأستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس) وهو رجل له مكانته في النمسا، ترك النصرانية وأسلم: "إن الإسلام لا ينظر إلى الحياة على أنها صدفة فارغة عادية، ولا على أنها طيف خيال للآخرة، ولكن على أنها وحدة إيجابية تامة في نفسها، وعبادة الله في أوسع معانيها تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية، هذا الادراك وحده يُرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال في إطار حياته الدنيوية، إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية، ولا بعد سلسلة متلاحقة من تناسخ الأرواح، كما هو في الهندوكية، إن العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص كالصلاة والصيام مثلًا، ولكنها تتناول كل حياة الإنسان العملية" [30].
والآن دعنا نتعرف على خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها في حياة البشر:
1) إن أُولى خصائص هذه العقيدة أنها ربانية من عند الله، وأنها لم تتغير ولم تتبدل، وهذا يطمئن النفس أنها خير لأنفسنا، وأن السعادة تكمن في تنفيذها، وأن الشقاء يترتب على تركها:
أ) فالخير والبركة والسعادة ووفرة الإنتاج كلها من بركات تطبيق الشريعة المبنية على هذه العقيدة؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66].
ب) وما دامت ربانية من الله عز وجل، فإنها مبرأة من النقص، سالمة من العيب، بعيدة عن الحيف والظلم، لأن الله له المثل الأعلى في السموات والأرض {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82].
ج) وما دامت ربانية؛ فهي التي تشبع جوعة الفطرة للعبادة، لا يسدها إلا منهاج الله، ولا تملأها النظم الفلسفية، ولا السلطان السياسي، ولا الثراء المالي. وهذه الجوعة الفطرية للجوع إلى قوة عُليَا تبرز بادية للعيان أمام الأعاصير والكوارث والمحن، فهذا (ستالين) الذي كان يقول: "لا إله والحياة مادة، والدين علقة تمتص دماء الشعوب"؛ يضعف أمام هول الحرب العالمية الثانية، فإذا به يخرج القساوسة من السجن حتى يدعوا له بالنصر. ومرة ثانية أمام شدة المرض يرسل وراء القسيس حتى يصلي له ويستغفر.
د) وما دامت ربانية؛ فالناس أمامها سواء، لا فضل لعربي على عجمى إلا بالتقوى، فالله خالق الناس أجمعين، فكلهم عبيده، وهو لا يفضل لونًا على لون. الأبيض على الأسود -كما هو الحال في القانون الأمريكي-، ولا يفضل الرجال على النساء من باب قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، وليس من باب قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فتأمل الفرق. ولا يحابيهم سبحانه -لأن الرجل والمرأة كلهم خلقه-، ولا يفضل طبقة على طبقة كالأشراف على العبيد، ولا يفضل جنسًا على جنس، كتفضيل العرق الآري والجنس الأبيض على غيره (وألمانيا فوق الجميع)، ولذا فهي العقيدة الوحيدة التي تنصف الناس وتعدل بينهم، والناس يقفون فيها على قدم المساواة حاكمهم ومحكومهم سواء، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
2) ومن خصائص هذه العقيدة أنها ثابتة:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
أ) وثبات العقيدة ناتج عن أنها منزَّلة من عند الله، وقد انقطع الوحي بالتحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى من الجنة، وبقيت النصوص ثابتة إلى يوم الدين لا ينسخها ناسخ ولا يبدلها كافر.
والإنسان يتحرك ويتطور وينمو، ولكن داخل إطار العقيدة الثابت الذي يتسع لحركة الإنسان ونموه، وإذا خرج الإنسان من الإطار الثابت فإنه يسبح كالنجم الذي يفلت من مداره، ويسير إلى نهايته التي تؤدي إلى اصطدامه بكوكب آخر، فيتحطم ويحطم معه غيره.
ولابد من شيء ثابت يرجع الناس إليه، حتى يطمئنوا ويستريحوا ويكون عندهم مقياس يعرفون طول الأشياء وعرضها ووزنها، أما الذين يقولون بأن كل شيء متطور في الحياة حتى الدين والأخلاق والنظم، فهذا يؤدي إلى فوضى كبيرة، فلا نعرف الحكم على أي شيء، ولأضرب مثلًا: الزنا مثلًا ثابتة حرمته وبشاعته في الديانات التي نزلت من عند الله، فلا يختلف في هذه القضية اثنان. فإذا كان المقياس الذي حكمنا به على الزنا أنه قبيح ثابت، فإن الزنا يبقى بشعًا، ويستقر في ذهن الأجيال أن هذا الحكم ثابت لا يتغير، فتتربي قلوبهم على كراهية الزنا واحتقاره.
أما إذا كان القانون والدين غير ثابتين، وكانا متطورين، فإنه يعني أن الزنا كان بشعًا في فترة من الفترات، ولكن الزنا الآن في عُرْف الذين يقولون بتطور الأخلاق مثل (فرويد) ضرورة بيولوجية لابد منها.
وكذلك ستر العورات وتغطية اللحم باللباس -خاصة من قِبَل النساء- كان أمرًا طبيعيًّا وثابتًا في الأخلاق والأديان، ويبقى ثابتًا إلى يوم الدين، أما فى الأخلاق المتطورة فلقد كان ستر العورة مستحسنًا في عصر من العصور، ثم جاء القرن العشرين ورأى أن ستر العورة شيء مستقبح، وأصبح أصحابه ينادون بكشف العورة من أجهزة إعلامهم وأبواقهم التي تفوح منها رائحة الخبث والكيد والغدر بهذا الكائن الانساني الذي يريدون تحطيمه.
ب) وثبات العقيدة يضع ميزانًا ثابتًا يقيس الناس، فالميزان واحد، الكيلو في هذا الميزان تساوي (1000) جم، فإذا جئنا نزن شخصًا فإننا نضعه في هذا الميزان الواحد ونضع مقابله كيلوات حتى نعرف وزنه، وهنا يكون الحكم صحيحًا على وزن جميع الناس، لأن الوزن واحد والعيار واحد، فإذا جاء قوم وغيَّروا الميزان وقالوا عن الكيلو إنها قنطار، فإن الشخص الذي يزن سبعين كيلو غرامًا في الميزان الأول هو نفسه يزن سبعين قنطارًا في الميزان الثاني، والشخص هو الشخص.
وعندما يختلف الميزان لا يمكن أن يكون الحكم صحيحًا، ولذا فإن الرجل عند الناس يكون مبجلًا مطاعًا محترمًا؛ لأنه ثقيل في ميزانهم، ولكن عندما نضعه في ميزان الله الثابته فإنه قد لا يزن شيئًا، فمثلًا الوليد بن المغيرة كانت قريش تعتبره زعيمًا، وتقول: {لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
ولكن الله يقول عنه وعن أمثاله: (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) [القلم:10-11]، ويقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّـهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال:55]. فقريش لا تقطع أمرًا إلا بعد استشارته واستنصاحه، والله يسميه دابة، والمؤمنون يعتبرونه دابة بل أقل من الدابة: {أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
ج) وثبات العقيدة يجعل أصلًا يرجع الناس إليه حاكمهم ومحكومهم على السواء، والناس يستريحون ويسعدون، لأن الحاكم لا يستطيع أن يظلم الناس ويقول قبل أن يظلمهم غيَّرت القانون، ولا يستطيع المحكومون أن يقولوا للحاكم نحن لا نعرف القانون لأنه جديد.
ولكنه إذا كان ثابتًا فإن الناس يتربون منذ نعومة أظفارهم على معرفته، ويكون النظام حيًّا في نفوسهم ويعيش في حسهم. فلا يستطيع الحاكم في الدين الرباني أن يدعي أن الظروف طارئة، ولا أن يقول: أحكام عسكرية يوقف بها تطبيق دين الله، وتحت هذه الأسماء ووراء هذه الشعارات تسفك الدماء، وتداس الكرامة، وتنتهك الحرمة، وهذا هو شأن جميع الأنظمة الوضعية الأرضيه، أو بتعبير أدق (الأديان الأرضية) التي اخترعها البشر من عند أنفسهم، وأبرز ما تكون هذه الظاهرة في الأنظمة العسكرية والانقلابات الثورية، ففي كل انقلاب قانون جديد، وفي كل مرة تنصب المشانق وتعلق على أعواد في الأسواق، ودعك عن التحقيقات مع النساء في الظلام، والناس الذين يدفنون أحياء أو يوضعون في براميل النيتريك، حتى يذوبوا ثم يطالب أهلهم بهم لأنهم فروا من السجن!!
وفي كل مرة يغير فيها النظام تفقد البلد أعز أبنائها، وأقدر كفاءاتها، وأعلى طاقاتها، وأثمن ما لديها وهم العينات من الشباب والمفكرين والقادة وغيرهم.
د) وثبات العقيدة الربانية يجعل الناس جميعًا تحت ظل الدستور والحكم، وليس هنالك حاكم فوق القانون ومحكوم تحت القانون، ونظام يسري على الحاكم، ونظام يسري على المحكوم.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، أما الخليفة والأمير والحاكم فهم جميعًا خَلق الله، ويعبدون الله بتنفيذ هذا القانون الرباني، فماداموا من خَلْق الله فهم عبيد وليسوا آلهة لا يسألون.
وهذا الواقع التاريخي الإسلامي يدل على هذا، فهذا يهودي يشتكي عليه الخليفة عليّ رضي الله عنه إلى القاضي شريح بشأن درعه فيحكم شريح لليهودي بالدرع.
ورجل آخر يشتكي هارون الرشيد إلى القاضي أبي يوسف فيستشهد الرشيد بشهادة جعفر البرمكي فيردها أبو يوسف قائلًا: لقد سمعت جعفرًا يقول لك: أنت سيدي وأنا عبدك، فإن كان عبدك حقًّا فشهادة العبد لسيده لا تجوز، وإن كان كاذبًا فشهادة الكاذب لا تجوز.
ومن هنا فقد كانت الطمأنينة تلف المجتمع كله بردائها الحاكم والمحكوم سواء، وهم سعداء بهذا، لا يستطيع الحاكم أن يرفض دين الله فضلًا أن يغيره أو يبدله بدين جديد من عنده.
وعلى هذا فالتطور يؤدي إلى الاستبداد السياسي والظلم، ويعيش الناس في قلق دائم من تغيُّر القوانين وتبديل الدساتير، زيادة عن التعب النفسي وعدم الطمأنينة من قِبَل الناس، لأنهم يعلمون أن هذه الأنظمة ليست من عند الله، فإطاعتها ليست عبادة، بل تقديم أية مادة قانونية على ما ورد في القرآن مع الرضا القلبي كفر، لأنك تفضل كلام البشر على القرآن، أي على كلام رب العالمين، فأنت تفضل البشر على رب البشر، ومن فعل هذا فقد خرج من هذا الدين، أما دين الله ونظامه فإطاعته عبادة، ومقابل إطلاق يد الراعي في تغيير الأحكام كما يشاء، هو بدوره يطلق للرعية العنان في اقتناص الشهوات والانطلاق بالسعار الجنسي إلى أقصاه، وبالنزوات الحيوانية التي لا ترفع عن مستوى البهيمة.
فهذه نتيجة طبيعية ومنطقية وواقعية لتطور النظم والأفكار.
(انطلاق حيواني للشهوات من قِبَل الرعية، يقابله انطلاق استبدادي للسلطة).
--------------------------------------------------------------------
[1] انظر (في ظلال القرآن)، (7/ 332) ط/ الرابعة.
[2] (الإسلام على مفترق الطرق) لمحمد أسد.
- التصنيف: