كن صحابيًا - (6) الصحابة والعمل

منذ 2014-05-02

وكن فطنا، فطالما أن الأمر مرتبط بالله فليس لدينا أي اختيار، طالما عرفنا أن هذا أمر لله سبحانه وتعالى أوأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذن لابد من تنفيذ أوامر الله، سواء كانت هذه الأوامر مع رغبتنا أو عكس تفكيرنا، أم لا، أو عكس تفكير الشرق والغرب أو عكس القانون الدولي أو عكس التقاليد أو عكس أي شيء.

نحن مع موضوع على جانب كبير من الأهمية، وهو الصحابة، والعمل، وقد تكلمنا عن علامتين هامتين جدا من علامات طريق الصحابة، وأنا أعتبر طريق الصحابة قائم على مثلث له ثلاثة أضلاع، الضلع الأول هو الإخلاص، وهذا تكلمنا عليه في درس سابق، والضلع الثاني هو العلم، وهذا تكلمنا عليه في درس سابق أيضا، والضلع الثالث هو مجال حديثنا الآن. وسوف نقلب بإذن الله صفحات الصحابة رضوان الله عليهم، حتى نرى ماذا كان يمثل العمل في حياتهم.

نظرة الصحابة إلى العمل
من الوهلة الأولى نرى الفارق الكبير بين نظرة الصحابة إلى العمل، وبين نظرتنا نحن إليه، فارق هائل جدا بين جيل الصحابة، وبين من لحق بهم، فقد كان تلقى الصحابة رضوان الله عليهم للكتاب والسنة بهدف التطبيق، كانوا يسمعون بهدف الطاعة، إنه مبدأ جميل جدا عند الصحابة، مبدأ السماع للطاعة: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة:285].

كان الصحابة رضوان الله عليهم مثل المريض الذي يتلقى الدواء من الطبيب، والطبيب ينصحه بإجراء عملية جراحية، والطبيب يقول للمريض، أنا سوف أجري لك عملية جراحية، حتى تشفى من هذا المرض الموجود في بطنك، سوف تفتح بطنك، وتترك عملك، وسوف تدفع أموالا كثيرة تصل إلى ألف، أو عدة آلاف، والمريض يسمع ويطيع، ويتحمل الألم، ويضحي بالمال، ويضحي بالوقت، وتجري له العملية، لأنه يدرك أن هذه العملية في مصلحته، ويأمل أن يشفى من مرضه، وعند المريض ثقة كبيرة في طبيبه.

وإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أهمية الثقة في إنجاح المهمة، الصحابة كانوا مثل الجنود في ميدان المعركة، بل الجندي في أرض العدو، ينتظر أمرا من الأوامر ليوضح له كيف يتحرك؟
فهو لا يستطيع التحرك بغير هذا الأمر، يخشى أن يقع في مهلكة، أو يدخل في كارثة، أو تصبه مصيبة من مصائب الزمان والمكان.

هل الجندي في هذه الظروف يتلقى الأوامر على التراخي؟
بالطبع لا، فالجندي في ميدان المعركة لا يدري أين يتوجه، وما هي الناحية التي يكون فيها طوق النجاة، فيسلكها حتى تكتب له السلامة، ويتلهف الجندي على سماع أمر القائد حتى يسير عليه لأنه يثق في قائده، ولذلك يسمع منه دون جدل، ولا نقاش؛ لأنه يدرك أن القائد يريد مصلحته هو وإخوانه، كذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، وكل مؤمن فطن ذكي يتلهف على أمر الله عز وجل في أي قضية من القضايا في أي أمر من الأمور، ويعلم أن الله عز وجل يريد به الخير، فيريد أن يعلم ماذا يريد الله عز وجل منه في هذه النقطة؟

إن علم أن الله عز وجل راضيا عن ذلك فعله، وهو مطمئن، بل سارع بفعله، وإن علم أن الله لا يرضى عنه تركه، بل بالغ في الابتعاد عنه.

يا ترى أنت فعلا مطمئن إلى أن الحق سبحانه وتعالى ما أمر به هو فعلا الخير لك وللأرض؟ أم عندك شك في هذا؟

لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون إلى كل أمر من أوامر الله عز وجل، وهذا من أهم الأشياء التي ميزت جيل الصحابة، فقد فقهوا الحقيقة القرآنية الكبرى التي تقول: {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف:54].

إننا نجد فعلا فارقا هائلا بين جيل الصحابة، وبين الأجيال التالية.
إن الأمر لمن خلق، والحكم لمن خلق، هو الذي خلق النفس البشرية، ويعلم ما يصلح شأنها، ولذلك يقول رب العزة تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً} [الأحزاب:36].

وكن فطنا، فطالما أن الأمر مرتبط بالله فليس لدينا أي اختيار، طالما عرفنا أن هذا أمر لله سبحانه وتعالى أوأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذن لابد من تنفيذ أوامر الله، سواء كانت هذه الأوامر مع رغبتنا أو عكس تفكيرنا، أم لا، أو عكس تفكير الشرق والغرب أو عكس القانون الدولي أو عكس التقاليد أو عكس أي شيء.

نحن ليس لدينا اختيار، وفي بعض الأوقات يجد الإنسان أن تنفيذ الأمر يكون صعبا على النفس، ويكون فتنة، لذلك يقول الله عز وجل يقول إن من ينفذ أوامر الله بنفس راضية هو المؤمن والمؤمنة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً} [الأحزاب:36].

المؤمن والمؤمنة هم الذين يُقْبِلون على تنفيذ أوامر الله بنفس راضية، واثقة من ربها. ومؤمنة برسولها صلى الله عليه وسلم، ومن سوف يخالف أوامر الله سوف يضل في هذه الدنيا، ويكون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً} {الأحزاب:36}.

لذلك بعد هذا الفهم لهذه الآيات، وغيرها فإنه من المستحيل أن يصلح العلم بغير عمل يصدقه، انظر إلى الحسن البصري رحمه الله يقول: "إن الإيمان ليس بالتحلي، ولا بالتمني، إن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل".

لا بد أن تعرف أولا ما وقر في القلب، فلا بد من الإخلاص لله عز وجل في القلب الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، ولكن الأهم وصدقه العمل، فالإيمان بغير العمل كشجرة بلا ثمر، وواهم من يظن أنه يصل إلى الجنة بدون العمل، فهذا ضد النواميس العادلة التي وضعها رب العزة سبحانه وتعالى.

روى الترمذي، وابن ماجه، وأحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: قال رسول الله: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».

يعمل كل الآثام، والشرور، ثم يتمنى على الله، يقول: إن الله غفور رحيم.

إن هذا الكلام نسمعه كثيرا، يعمل الإنسان كل المعاصي، ويقول: ربنا غفور رحيم.
سبحان الله، لماذا يتذكر الإنسان آيات الرحمة، ولا يتذكر آيات العذاب: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50].

وإننا نجد من يقول: إن الله ينظر إلى القلوب، وما دام القلب نظيفا فلا يضر الإنسان شيئا.
إن القلب النظيف يأتي عليه الوقت الذي يعصي فيه الله عز وجل، ويكسل القلب النظيف، ولا يسمع كلام مَنْ خلقه، هذا كلام حق يُرَاد به باطل، إن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم، ونظافة القلب شيء من الأهمية بمكان، ولكن لا بد من العمل مع الإيمان.

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا *** إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ

وهناك من يقول بمنتهى الاستهتار: لن يضرنا شيء، ولن يصيبنا شيء، إن الله غفور رحيم.
لو أحسن هؤلاء الظن بالله لأحسنوا العمل، فلا بد من العمل، والإنسان عليه أن يأخذ بالأسباب، فهل يعقل أن ينجب الإنسان الأولاد بغير زواج، وهل يعقل أن ينبت الزرع بدون أن يزرعه الإنسان، وهل تسير السفينة في الصحراء، وتقول: إن الله سوف ينزل المطر من السماء، وسوف ينزل طوفان من السماء مثل طوفان نوح عليه السلام.
هذا ضد السنن الكونية، والله عز وجل لا يخالف سننه إلا في ظروف خاصة جدا، والإنسان مأمور بالسير في ضوء السنن الكونية، إن الله عز وجل يقف بجوار من يأخذ بالأسباب، ويسعى في الأرض منفذا قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].

وعلى المرء أن يسعى، وليس عليه إدراك النتائج، والإنسان مأمور إذا قامت القيامة، وفي يده فسيلة، وهي النخلة الصغيرة أن يزرع هذه الفسيلة، رغم أن القيامة قد جاءت، وسوف يقوم الناس للبعث، والنشور، ولكن الإنسان مأمور بالعمل، أما النتائج فهي في علم الله عز وجل، فكيف يدخل الإنسان الجنة بدون العمل، أوقاته يقضيها في اللهو واللعب، والإعراض عن ذكر الله، وعن أوامر الله، فمن الطبيعي بعد كل هذا هو عدم دخول الجنة.

فلا بد أن تسير في السنة الكونية، وسنة الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة:7-8].

وعلى قدر العمل يأتي الثواب، والجزاء من جنس العمل، إنما التواكل على الله عز وجل، واعتقاد النجاة بدون عمل، هذا ليس مسلك الصالحين، وهذا لم يكن أبدا مسلك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا المسلك سلكه الضالون من أهل الأرض.

هذا المسلك الخاطئ كان ثمة مميزة لبني إسرائيل، على سبيل المثال بنو إسرائيل قال الله عز وجل في حقهم: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:70-71].

كان بنو إسرائيل يعلمون هذه الحقائق، ولكنهم أعرضوا عنها، فلم يتمسكوا بها، ولم يطبقونها، إنهم علموا، ولكنهم لم يعملوا، فكانت النتيجة ضلال، وكفر، ولعنة، وجهنم، انظر إلى حيي بن أخطب، يقول لأخيه، وحيي بن أخطب من أكابر اليهود أيام الرسول فلما ذهب إلى الرسول سأله أخوه عن هذا الرجل، عن رسول الله: "أهو هو؟"
هل هذا هو الرسول الذي جاءت به كتبنا؟
قال: "نعم".
قال: "وما تفعل معه".
انظر إلى كلام حيي بن أخطب، وهو يعرف أنه هو رسول الله، قال: "عداوته ما بقيت".
أحارب هذا الرسول إلى أن أموت، علم ولا عمل، عجز، وحماقة، وغباء، حقا حتى تاريخ اليهود يشهد بهذه الصفة دائما علم بلا عمل.

روى البخاري، ومسلم، وغيرهما، وهذه الرواية للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَسْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ» .

فبدلا من السجود، دخلوا بالزحف، وقالوا: «حبة في شعرة» .
يعني بدل ما يقولون: حطة. قالوا: حبة في شعرة.
في رواية قالوا: حنطة.

سبحان الله، لا يريدون أن يطبقوا، وهم يدركون الحقيقة، ويعرفونها، فإنهم كانوا علماء في دينهم، كما قال الحق سبحانه وتعالى في حقهم: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197].
لكن أين العمل؟
لا عمل.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} [البقرة:67].
انظر كيف يردون على النبي: "أتتخذنا هزوا".

سوء أدب، ومجادلة، وعناد، وحماقة، وعدم رغبة في التطبيق، يسمعون نعم، يسمعون، ولكن لا يطيعون، ولكن لكي يعصوا، سبحان الله يسمعون حتى يعصوا، انظر إلى كلام الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:46].

كل هذا العناد من بني إسرائيل يلخصه الله عز وجل في وصفهم الذي وصفهم فيه في سورة الجمعة، قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].

إن الله عز وجل ساعدهم مرة، والثانية، والثالثة أن يقوموا بهذه المهمة المكلفين بها، وهي حمل التوراة، لكنهم عصوا مرة، والثانية، والثالثة. اختارهم وأرسل لهم الرسول الواحد تلو الآخر، رفضوا، وأراهم الآيات الواضحة واحدة وراء الثانية، ولكنهم أصروا على رفض مهمة الإنسان، وعملوا مهمة ثانية، وقبلوا مهمة الحمار، الحمار يحمل الأشياء بصرف النظر عن قيمتها، ومحتواها، يحمل الكتب مثلما يحمل الأكل، مثلما يحمل البرسيم، مثلما يحمل الحجارة، فهو لا يستفيد مما يحمله، وهذا ليس عيبا في الحمار، لأنه مخلوق لوظيفة الحمل، ولكن العيب هو عيب الإنسان الذي خلق من أجل العمل والعبادة، ولكنه لا يعمل وظيفته الرئيسية.

إن الله عز وجل أعطاهم التوراة حتى يعملوا بها، ويعلموها لغيرهم، هم قاموا بوظيفة الحمار، وهي حمل التوراة دون أن يفقهوا ما بداخلها، ولا أن يعلموا بمحتواها، كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وعلى الجانب الآخر المسلم الذي سوف يحتفظ بكتاب ربنا سبحانه وتعالى وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يحتفظ بها في البيت، أو في السيارة، أو غيرها من الأماكن، ولا يعمل بها واقع تحت نفس الوصف، كمثل الحمار يحمل أسفارا.

من يقرأ آيات الربا، ويتعامل بها، ومن يقرأ آيات الرفق واللين والدعوة وما زال يتعامل بالعنف.
ومن يقرأ آيات حفظ اللسان، ويطلق لسانه، ومن يقرأ عن بر الوالدين، وصلة الرحم، ومن يقرأ آيات الإنفاق، والجهاد وهو ما زال بخيلا بالمال، والنفس كمثل الحمار يحمل أسفارا، وسبحان الله، عندما يكون الإنسان من خارجه مسلم، واسمه مسلم، وأبوه وأمه مسلمين، ويخالف أوامر الله باستمرار يأخذ اسم قبيح جدا في الإسلام يأخذ اسم منافق، سبحان الله إنه شيء خطير، انظر إلى الحق سبحانه وتعالى يصف المنافقين في كتابه ويقول: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلً} [النساء:81].

يسمعون الدرس ويقرؤون الأحاديث، يقولون: إن شاء الله سوف نطيع، وهو لا ينوي تنفيذ الأمر، وربما يأمر الناس بالخير وهو لا يعمله، ولا يريد أن يعلمه، بل من الممكن أن يكون منهم الذين يعظون الناس، ويقوم بدور المصلح بين الناس، وممن يعتلون المنبر، ويذهل العقول بحسن بيانه ولباقته، وهو على النقيض من هذا تماما، يقف وسط الناس خطيبا، يأمر الناس بعدم الحقد، وعدم الكذب، وعدم التعرض للحرام، وعدم الظلم، ومن الممكن أن يكون حافظا لآيات، وحافظا لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أين العمل؟

هؤلاء يوم القيامة في موقف في غاية الخطورة.

روى البخاري، ومسلم، واللفظ للبخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم اسمع الحديث جيدا لأننا نقع في نفس الموقف هذا، يقول صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابَهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ» .

وانظر إلى تشبيهه بالحمار؛ لأنه كان في الدنيا مثل {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
فهذا الرجل «يُجَاءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابَهَ فَي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟»

أَنْت كنت رجلا عظيما جدا في الدنيا، كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، كنت خطيبا، كنت تعطي دروسا، وتعطي نصائح، ماذا حدث لك؟ أين كل الخير الذي كنت تأمر به؟
يَقُولُونَ: «أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟»
قَالَ: «كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» .

أمر خطير أن يكثر الإنسان من القول ولا عمل، الأمر خطير، ويحتاج إلى وقفات، ونجد بعض المسلمين مصاب بما أسميه التخمة العلمية، عنده تخمة علمية فعلا، معلومات هائلة، ولكن لا تدفع إلى عمل، وهذا ليس سلوك الصحابة، وليس سلوك الصالحين بصفة عامة.

وقالوا سمعنا وأطعنا

تعالوا نرى مواقف الصحابة، فلنشاهد رد فعل الصحابة لنزول الآيات، ولسماع الأوامر من رب العالمين سبحانه وتعالى من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، تعالوا معا نتعلم مبدأ التلقي للتطبيق، ومبدأ السماع للطاعة، تعالوا نرى ماذا تعني كلمة سمعنا وأطعنا؟

ونرى مثلا قضية الإنفاق، الإنفاق في سبيل الله المال، حب المال مغروس في قلب الإنسان، {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20].

يقول سبحانه وتعالى في حق المال وحب الإنسان له: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، أي المال، يحب المال حبا جما جدا، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه على هذه الصورة، وسوف يطلب منه إنفاق ماله، وسوف يطلب منه أن يدفع هذا المال في سبيل الله عز وجل، ولو كان حب المال بسيطا، لم يكن اختبارا، ولكن الله سبحانه وتعالى يزرع في النفس حب المال، حتى عندما يطلبه منك وتدفعه تكون مؤمنا بالله عز وجل.

العلم والعمل شيء واحد عند أبي الدحداح
انظروا إلى هذا الموقف اللطيف، يروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما نزل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].

لما نزل هذا القول سمع أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه هذه الآية، وكأنها وقعت في قلبه، لا في أذنه، يروي عبد الله بن مسعود، فيقول: أسرع أبو الدحداح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- إنها أول مرة يسمع الآية، فكم مرة سمعنا الآية- قال:
يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض.
هل الله سبحانه وتعالى يحتاج إلى قرض، يقول أبو الدحداح:
«يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟»
هل يريد منا القرض؟
هل يريد منا المال؟
قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ» .

وانظر إلى إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد فيها تفصيلات، ولا محاورات، ولا جدالات، ولا مناقشات، ولا ندوات، «نَعَمْ يَاَ أَبَا الدَّحْدَاحِ» .

هكذا في بساطة هنا أبو الدحداح لم يسأل بعدها، لقد أدرك أبو الدحداح ما يريده الله سبحانه وتعالي، يريد القرض، ولم يشغل أبو الدحداح إطلاق لفظ القرض، وإنما شغله هو العمل، شُغِل بالعمل، سمعنا وأطعنا، شغل بالطَّاعَة، قال أبو الدحداح في نفس المجلس، وهو مازال قاعدا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قال أبو الدحداح رضي الله عنه:
«أرني يدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
قال عبد الله بن مسعود راوي الحديث قال: فناوله يده.
قال أبو الدحداح: «فإني أقرضت ربي حائطي» .
وهي حديقة كبيرة وضخمة عنده، قال: «فإني أقرضت ربي حائطي» .
تصدقت بكل الحائط يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يقول: "وحائط أبي الدحداح فيه ستمائة نخلة"، إنه لموقف عظيم من أبي الدحداح. سمع آية واحدة من آيات الله عز وجل دفع ستمائة نخلة.

أم الدحداح داخل الحديقة هي وأولادها، فجاء أبو الدحداح، فناداها: "يا أم الدحداح".
قالت: "لبيك".
قال: "اخرجي، فإني أقرضته ربي عز وجل"، سبحان الله، انظر إلى سرعة تلبية أبي الدحداح لتنفيذ أوامر الله عز وجل، لا تسويف، ولا تأجيل، ولا تأويل، منهج السماع للطاعة، يا ليتنا نتعلم هذا المنهج من أبي الدحداح، ومن غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، السماع للطاعة {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة:285] .

انظر على النقيض من هذا الكلام رد فعل اليهود لنفس الآية لما نزلت هذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245].

قالت اليهود كلام في قمة الكفر والفسق قالوا: "ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير".
سبحان الله، يقول اليهود بأن الله فقير، وهم أغنياء، وأن الله هو الذي يحتاج إليهم، كلام كله ضلال، ضياع، وكفر، ثم يكملون ويقولونن: وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، يطلب منا أن نرجع له ونتوب إليه، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم صلى الله عليه وسلم، ينهاكم عن الربا، ويعطيناه.

ما معنى هذه الكلمة هذا يعني أنه ينهاكم عن الربا، ويعطيناه، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا، يقولون إن ربنا سبحانه وتعالى يطلب منكم القرض، وسوف يرده لكم أضعافا كثيرة، هذا هو الربا؛ لأن الله سوف يأخذ حسنة، ويأتيكم عشرة، سبحان الله انظر إلى هذا الفهم الموجود عند اليهود، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان غنيا ما أعطانا الربا، سبحان الله هؤلاء هم اليهود، فعندما نرى فعل أي منهم لا نستغرب؛ لأن أجدادهم كانوا يفعلون هذا في وجود النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالأحفاد، وفي غير وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، أرأيتم كيف كان الصحابي يتعامل مع الآية التي تنزل في قضية الإنفاق.

حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه والجهاد

تعالوا نرى مثلا قضية الجهاد في سبيل الله موقف كلنا نعرفه، هو موقف حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه وأرضاه (غَسيل الملائكة)، وغَسيل على وزن فَعِيل بمعنى مفعول، يعني الرجل الذي غسلته الملائكة، سمع حنظلة النداء يوم أحد، وهو كان حديث عهد بالزواج، وبعض الروايات تقول إنه تزوج قبل يوم واحد من استشهاده، وكان جنبا، وسمع داعي الجهاد يطلب الناس للخروج للجهاد في سبيل الله، في غزوة أحد، لم يصبر حنظلة حتى يغتسل، بل خرج مسرعا للجيش، انظر الاستجابة، إنه لم يخرج مكرها، إنه خرج مشتاقا، خرج متلهفا على تنفيذ أوامر ربنا سبحانه وتعالى، حقا سمعنا وأطعنا، وذهب إلى أحد، واستشهد، وهو جنب، فغسلته الملائكة، فأصبح حنظلة غسيل الملائكة، ليس هناك معنى لكلمة الظروف عند الصحابة، وليس هناك ما يسمى بالظروف، لا يهمهم شيء إلا وجه الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم قال، إذاً لا بد من تنفيذ الأمر.

هل حنظلة قد خسر؟
أبدا حنظلة لو ظل في بيته، ولم يخرج للجهاد، كان سيموت في نفس الساعة التي مات فيها، لكن بد لا من أن يكون في أرض الجهاد، كان سيموت على فراشه، وبدلا من الموت مقبلا، مجاهدا كان سيموت معتذرا متخلفا.

الموت لا يؤجل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].
إذن حنظلة وإن لم يكن يعرف ميعاد الموت، إلا أنه اختار طريقته، هذا هو الذكاء، هذه هي الفطنة، هذا هو المطلوب من المؤمن العملي، لو عاش المؤمن لله، فسوف يموت لله سبحانه وتعالى، ولو عاش المؤمن مجاهدا لله، مات مجاهدا، ولو عاش حياته في سبيل الله، مات في سبيل الله. وإذا لم يكن بيد الإنسان أن يختار ميعاد موته، فبيده اختيار طريقة الموت، ويبعث المرء على ما مات عليه، فإذا مات الإنسان وهو يصلى، يبعث وهو يصلي، ومن مات وهو يلبي في الحج يبعث وهو يلبي، ومن مات وهو يجاهد يبعث على هيئته وقت الجهاد، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ونحن الذين نختار.

أبو بكر الصديق والتطبيق العملي للعفو

تعالوا نرى رد فعل الصحابة لبعض آيات القرآن الكريم التي تخاطب قلوب الصحابة، إن القلب وأحواله على درجة كبيرة من الغرابة والعجب، هناك في بعض الأوقات يكون الإنسان غاضبا من أحد الناس، وربما لا يستطيع أن يرفع هذا الغضب من قلبه، ويحقد على إنسان، ولا يستطيع أن يرفع الحقد من قلبه، أما إذا نظرنا إلى الصحابة، فقد كانت قلوبهم بأيدهم، لا يحملون حقدا لأحد، ولا يكنون ضغينة لأحد، وكأن قلبهم يحملونه في يدهم ينظفونه في أي وقت يريدون.

تعالوا نرى هذه القصة اللطيفة، والتي فيها الكثير من الدروس، والعبر العميقة، هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة رضي الله عنه وأرضاه، فإذا بمسطح يتكلم في عِرض السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، كارثة ضخمة، مسطح لا يتكلم عن مشكلة بسيطة، إنه لا يقول إن السيدة عائشة مثلا بخيلة، أو ليس لها حق، في رأي في مسألة. ولكن الأمر أخطر من ذلك، إنه يطعن في عرض السيدة عائشة، ويطعن في شرفها، وكان رد الفعل الطبيعي جدا للأب المجروح الذي طُعن في شرفه، وشرف ابنته الطاهرة الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: "والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال".
وفي رواية قال: "والله لا أنفعه بنافعة أبدا".

المهم أنه قرر ألا ينفق عليه مرة أخرى، وأبو بكر لا يمنعه حقا، ولكن أبا بكر كان يتفضل على مسطح، فقد كان يتصدق عليه، والصدقة كما نعلم ليست كالزكاة، فالصدقة اختيارية، ومع كل هذا الأمر، ينزل قول الله عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].

لا يأتل، يعني لا يقسم؛ لأن أبا بكر أقسم أنه لن يعطي ثانية لمسطح، وهنا نجد موقفا عظيما لأبي بكر، وهو من أعظم مناقب الصديق، إن الله سبحانه وتعالى يصفه بأنه من أولي الفضل والسعة، هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى على سبيل الاختيار، أي تستطيع أن ترجع عن الانفاق، وتستطيع ألا ترجع عن النفقة لمسطح، ففي هذه الآيات الله سبحانه وتعالى لا يذكر أن مسطحا له حق عند أبي بكر، ولكن يطلب بمنتهى الرفق من أبي بكر أن يعفو وأن يصفح، ثم يتودد إليه سبحانه وتعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] لأن الجزاء من جنس العمل، إن غفرت للناس، فإن الله غفور رحيم، فقال أبو بكر في رد فعل عجيب، استجابة سريعة جدا، دون تردد، قال: "بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله ليط.

بمجرد أن سمع أبو بكر هذه الآية انطلق رد الفعل مباشرة، لم يفكر طويلا رغم أن الموقف خطير وكبير، ولكن ما عند الله خير وأبقي، فتغلب أبو بكر على ما كان في قلبه من الغل، والحقد، والحزن، تجاه مسطح بن أثاثة رضي الله عنه، قال أبو بكر: "بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي".

فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، بل أقسم ألا يقطعها بعد ذلك، وعزم ألا يعود مرة أخري إلى القطع.
هذا هو الصديق، وهؤلاء هم الصحابة، إن أبا بكر لم يكن ملزما هنا بالإنفاق على مسطح، وموقفه في المنع مفهوم، ولا يلومه أحد عليه أبدا، لكن النداء واضح، إن كنت تريد مغفرة الله عز وجل، فاغفر للعباد، لقد وصلت الرسالة لقلب الصديق، فلم يفكر كثيرا، فهل يا ترى كم منا من هو غاضب من جاره؟
ومن صاحبه؟
وفي بعض الأوقات من أبيه وأمه؟
ويقاطعهم يوما، والثاني، والثالث، وشهرا، والثاني، وهو لا يتذكر قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].

إنه دأب المؤمنين دائما؛ المسارعة في الاستجابة لأوامر الله عز وجل.

المنافقون قول بلا عمل

والضد يظهر حسنه الضد، فأما المنافقون فهم الذين لا ينقادون إلى أحكام الدين، إلا عند تحقق فوائد ملموسة لهم في الدنيا، وإن لم يكن هناك فائدة مباشرة لا طاعة لكلام الله عز وجل، الله عز وجل يصف هذه الفئة المريضة في الكتاب: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
الله عز وجل يصفهم أنهم ينطقون كلام الإيمان، ولكنهم لا يعملون به، قول بلا عمل، القول جميل، ولكن المشكلة في العمل، لقد قالوا كلمة الإيمان، وقالوا: أطعنا. ولكن بغير عمل {وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ} [النور:47].

ثم يخبر الحق تبارك وتعالى عنهم عندما يدعون إلي كتاب الله فيقول: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] يعرض المنافقون عندما يدعون إلى كتاب الله عز وجل، ولا يطلبون تحكيم الكتاب إلا في حالة واحدة فقط {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إذا كان الحق لهم يأتوا بسرعة، يسمعون الكلام: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} [النور:50]، والمقصود بالمرض هنا، يعني ليس عندهم عيب في الشريان التاجي، ولكن عندهم عيب النفاق، أم ارتابوا، أي شكوا في كلامه، وحكمه، ومنهج الله عز وجل، ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم.

المؤمنون وتطابق القول مع العمل والأخذ بشمولية الإسلام

يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور:51].

ليس الكلام فقط، ولكن الكلام والفعل معا، وهذا هو ما نسعى إليه، هناك إنسان زوجته لا تسمع كلامه، فيقول: هل هذا كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ويقول: إن الله قد أمر الزوجة بالطاعة، وكذا وكذا.

يذهب إلى حكم الدين، وقد تخرج زوجته من غير حجاب، وليس عنده مانع، يتمسك بجانب من الشرع، ويترك الجانب اللآخر، يقرأ علينا قول الله عز وجل الداعي إلى لزوم الطاعة، ويتغافل عن أمر الله لعباده بأن ترتدي المرأة الحجاب، ويقول: إن الله غفور رحيم، المهم القلب النظيف، أنا أعرف قلب زوجتي، وأنا أعرف قلبي، وأعرف قلب بناتي.

سبحان الله! لماذا سمعت كلام الله عز وجل عندما كنت سوف تستفيد وكان الحق لك؟
وعندما يكون الحق عليك، أو الواجب عليك لم تسمعه؟

كن على حذر، فهذا من علامات النفاق، ونسأل الله عز وجل أن يقينا جميعا شر النفاق.

تحويل القبلة

تعالوا نرى استجابة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضية من قضايا العبادات انظروا إلى قضية تحويل القبلة، فعندما أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يغيروا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وهذه قضية ليست سهلة؛ لأن الصحابة ظلوا فترة طويلة جدا سبعة عشر شهرا في المدينة المنورة يُصَلون في اتجاه بيت المقدس، وفجأة تغيرت القبلة إلى البيت الحرام، فقال اليهود والمنافقون: "إن المسلمين لا يعرفون قبلتهم، يصلون مرة ناحية بيت المقدس، ومرة ناحية البيت الحرام".

ولم يفهم اليهود الغرض والعبرة من تحويل القبلة، لقد كان الغرض من تحويل القبلة هو اختبار المسلمين ومعرفة مدى تنفيذهم لأوامر الله عز وجل يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].

هذا الكلام ليس في موضوع القبلة، هذا الكلام في كل أمر من أوامر الدين، قال المؤمنون: سمعنا وأطعنا. تلقى المسلمون الأمر بكل رضا وارتياح، طالما أن الأمر جاء من رب العالمين سبحانه وتعالى، نصلي ناحية البيت المقدس، أو نصلي ناحية الكعبة، سمعنا وأطعنا، القضية واضحة جدا عند الصحابة رضوان الله عليهم، حتى أن المسلمين الذين كانوا يصلون في مسجد آخر عندما وصلهم الأمر، لم ينتظروا الانتهاء من صلاتهم، لم ينتظروا حتى ينتهوا من الصلاة، ويجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألوه، ويناقشوه، ويقولوا لماذا كنا نصلي ناحية بيت المقدس، ثم تحولنا ناحية المسجد الحرام، هذا الكلام لم يشغلهم، وإنما كان يشغلهم تنفيذ أمر الله عز وجل بالتوجه ناحية المسجد الحرام، وفي نفس الصلاة غَيّر المسلمون اتجاههم، صلوا ركعتين ناحية البيت المقدس، وركعتين ناحية الكعبة، هذا هو التطبيق العملي لكلمة سمعنا وأطعنا، وهو الفهم الحقيقي لمعنى العبادة لله عز وجل.
ولننظر إلى رد فعل المنافقين واليهود، هؤلاء كان تفكيرهم ينطلق من الجدل والنقاش: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]
وانظر إلى المنطق الإلهي في الرد على هؤلاء، لم يخبرهم عن الحكمة من الأمر، وإنما أخبرهم أن الكون بيده سبحانه وتعالى {قُلْ للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] ما يأمر به الله عز وجل افعلوه، ولا تكثروا من الكلام.

لو كان يقيم الليل

تعالوا نسمع القصة الجميلة، قصة من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما روى البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا، فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأنّ ملكيْن أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر (مطوية أي مبنية، إذا كانت مبنية حولها سور سميت مطوية، وإذا لم تكن مبينة سمية قليب، مثل قليب بدر، فالبئر التي رآها في الحلم مطوية) وإذا لها قرنان (أي عارضتان من الخشب مثل البئر) وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: "أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار".
قال: "فلقينا ملك آخر فقال لي لم ترع".

يعني اطمأنوا، واستيقظ عبد الله بن عمر، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خجل من أن يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان صغيرا في السن، فذهب لأخته السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وأرضاها، طبعا أخته الكبيرة، وكانت متزوجة من الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة عبد الله بن عمر في هذا الوقت، كان عنده اثنا عشر عاما، والسيدة حفصة كان عمرها عشرين سنة تقريبا، فذهب للسيدة حفصة، وقص عليها الرؤيا، فذهبت السيدة حفصة وقصت الرؤيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا بكلمات بسيطة، ولكنها تحمل الكثير من المعاني، وكان لها أثر ضخم في حياة ابن عمر رضي الله عنهما، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» .

وكلمة لو هنا في هذا الحديث ليست للشرط إنما هنا للتمني كما يقول ابن حجر، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يعلق خيرية عبد الله بن عمر على قيام الليل، بل قال: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ. الجملة انتهت هنا، وهو يثني ويمدح عبد الله بن عمر، ثم قال: «لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» .

يا ليته يجمل عبادته بقيام الليل، إذن سترتفع قيمته، وطبعا هذه إشارة واضحة إلى أن قيام الليل يقي الإنسان من عذاب النار الذي رآه عبد الله بن عمر في الرؤيا.

يقول نافع مولى عبد الله بن عمر: "كان عبد الله بن عمر بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام من الليل إلا قليلا".

ظل طوال عمره يقيم الليل، لأنه سمع حديثا واحدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث مدح في عبد الله بن عمر، ولم يركن عبد الله بن عمر على هذا المدح، وهذا الثناء من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كان دافعا له على زيادة الطاعة، وقيام الليل، ومات عبد الله بن عمر سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وكان عمره ست وثمانين سنة، سبحان الله! ظل مواظبا على قيام الليل الطويل، كان لا ينام من الليل إلا قليلا، ظل أكثر من ستين سنة، وهو لا يترك قيام الليل.

إنه منهج واضح جدا، منهج السماع للطاعة، سمعت حديثا تعمل به، وسمعت آية تعمل بها مهما كان علمك قليلا، المهم أن تعمل بما عرفته.

انظروا إلى المسيء في صلاته، روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فدخل رجل، فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد الرسول عليه الصلاة والسلام عليه السلام، فقال: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» .

هذا الرجل قد أدى الصلاة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمره بإعادة الصلاة، فبادر الرجل بإعادة الصلاة، ولم يناقش النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلن أنه قد أدى الصلاة، فكيف يعيدها، ولكن الأمر قد جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقاش، ولا حوار، ولا جدال، فأعاد الرجل الصلاة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة ثانية، فأعادها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدها ثالثة، والرجل يسمع ويطيع في رضا وارتياح، وفي المرة الرابعة قال الرجل المرة الرابعة: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي».

هذه هي المشكلة عند هذا الصحابي، المشكلة أنه لا يعرف، وعندما يعلم سوف يكون أول المبادرين إلى العمل، فقال له صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقًرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» .
لقد كانت مشكلة الرجل في الصلاة عدم الاطمئنان في الصلاة.

الشاهد هنا يا إخواني أن الرجل ذهب الأولى، والثانية، والثالثة ليعيد الصلاة بكل صبر، يسمع ليطيع، ما دام الرسول قال، فلا بد أن أنفذ، وفي النهاية يسأل بأدب جم: "والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره". لم يغضب، ولم يثر، ولم يترك المسجد، إن الجانب السلبي عند هذا الرجل هو عدم الاطمئنان في الصلاة، ولكن الناس لا يعطون للجانب الإيجابي اهتماما كبيرا، وهو الحرص على التعلم، والعمل، والصبر على ذلك مرة، والثانية، والثالثة، لو رأيت إنسانا يصلي، ولكنه لا يطمئن في صلاته، أو لا يسجد باطمئنان، وقلت له: أعد صلاتك لأنك لا تطمئن فيها. فسوف يقول لك: إن الله غفور رحيم إن شاء الله في الصلوات القادمة سوف أحسن الصلاة.

ومن الممكن أن يغلظ لك القول، ومن الممكن أن يترك المسجد، ولكن سبحان الله! هذا هو فهم الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، السمع للطاعة، يسمع كي يطع، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].

أهل المدينة وسرعة الاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم

تعالوا إلى قصة، الكثير منكم يعلمها، لكننا نريد التعليق على جانب معين، وهو استجابة المسلمين لمقاطعة الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، مَثَلٌ رائع للجانب العملي عند الصحابة، تخلف ثلاث من الصحابة الكرام عن غزوة تبوك، نزوة من نزوات الشيطان تخلف كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومراره بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين، ونزل الوحي بعقابهم عن طريق المقاطعة، عقاب صعب جدا، ولم يحصل في حياة الصحابة إلا في هذه المرة، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أحد الذين قُوطِعوا في هذه المقاطعة، يقول كما جاء في البخاري ومسلم: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا".

فحدثت استجابة سريعة، وكاملة، وعجيبة جدا من أهل المدينة جميعا، لا جدال، ولا نقاش، ولا مبررات، ولا تعليلات، ولا استثناءات، ولا وساطة، لم يأت أحد ويقول: هذا الرجل من السابقين، ومن أهل العقبة.
لم يحدث هذا أبدا، سبحان الله، قطعت مصالح كثيرة، ولكن هذا لا يهم، المهم هو تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، المهم هو الطاعة لله عز وجل، والطاعة لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم لم ينفع رحم، ولم تنفع صداقة، لكن أَمَر الله، وأَمَر الرسول، وهذا يكفي، فنفذت المقاطعة بشكلها الواسع العجيب في المدينة المنورة، كل أهل المدينة قاطعوا الثلاثة، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: "فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرفها".

حتى المدينة المنورة، كأنها ليست المدينة المنورة، فكل الناس في المدينة سمعوا وأطاعوا شيء عجيب جدا، هو الصحابة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً} [الأحزاب:36] .

ليس لهم اختيار، هل ظل ذلك يوما أو يومين؟

لا، بل ظل ذلك خمسين ليلة، فترة طويلة جدا في داخل مجتمع صغير مثل المدينة، ومجتمع اجتماعي ليس كمجتمعاتنا هذا الزمان، الآن في أيامنا تلك من الممكن ألا يعرف الجار جاره، ولكن في هذه البيئة، وفي هذا المجتمع كان الجميع كأسرة واحدة، فالمقاطعة بهذه الصورة صعبة جدا، تفاقم الأمر مع كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول: "حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد على السلام".

سبحان الله! إن رد السلام فرض، لو قال لك إنسان:السلام عليكم. فرض عليك أنك تقول له: وعليكم السلام.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ألغى هذا الأمر في هذه الحالة الاستثنائية فقط، منع الناس من الكلام، والرجل قد اجتهد حتى السلام لن أرده عليك، يقول كعب: "فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟"
يعني أنت تظن أني أخطأت، لأني منافق، وبداخلي كراهية لله وللرسول، ولكن هذه غلطة عابرة، وأنا أحب الله ورسوله، فيقول: "فسكت، فعدت له، فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته"، فقال أبو قتادة: "الله ورسوله أعلم".

أي أنه لا يعلم إيمان كعب، يشك في إيمانه، ليس واثقا منه، وهذا أشد على كعب بن مالك من السكوت، يا ليته ظل ساكتا، أراد أبو قتادة أن يبعد كعبا عنه تماما، قال: "الله ورسوله أعلم".

سبحان الله! استجابة شديدة لأوامر الله، وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذه الدرجة، وهو أحب الناس في المدينة إلى كعب بن مالك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول كعب: "ففاضت عيناي".

قمة الألم، والحزن، والاكتئاب، هذا الوضع استمر خمسين ليلة، وبعد خمسين ليلة من المقاطعة، صدر الأمر الإلهي بالعفو عن الثلاثة الذين خلفوا، وهنا رفع الحظر عنهم، وسمح لأهل المدينة بالحديث معهم، تعالوا نرى ما حدث، فقد تحول كل ما ذكرناه من قطيعة، وصمت، وتجاهل، تحول كلية إلى وصال، وإلى حب، وإلى اهتمام، سبحان الله! قلوبهم وكأنها في أيديهم، يفعلون بها ما يشاءون، لقد أمر الله عز وجل برفع الحظر عنهم، فليكن ما أراد الله عز وجل، وانكشف الموقف، ولا توجد بقايا في النفس، أو رواسب في القلب، شيء عجيب، واستمِع إلى تصوير كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه لأمر فك المقاطعة.

يقول كعب: "فلما صليت صلاة الفجر، صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوتَ صارخٍ ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر يا كعب بن مالك، أبشر".

يقول كعب: "فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر".

يقول كعب: "فذهب الناس يبشروننا، وذهب إلى صاحبيَّ مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، ووقف رجل على الجبل ينادي عليه من بعيد، وكان الصوت أسرع من الفرس، وكان من يتكلم من فوق الجبل قد سمعته قبل أن يأتي الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ، فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومها، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل الناس فوجا فوجا كل أهل المدينة، يهنئوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك".

احتفال مهيب، وكأنه لم يكن مقاطعا منذ دقائق، منذ دقائق فقط، ولمدة خمسين يوما، يقول كعب: "حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبرق وجهه من السرور: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ»".
هذا يوم التوبة من الله عز وجل، أفضل يوم مع أن هذا اليوم قد سبقه مقاطعة خمسين ليلة بعد التخلف عن الجهاد، و سبحان الله، كل شيء اختلف، انقلاب عظيم، تغير كامل لكل شيء، كلمة واحدة من الله عز وجل، ومن رسوله الكريم أحدثت المقاطعة الصارمة، وكلمة من الله عز وجل، ومن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أحدثت هذه المظاهرة الإيمانية الأخوية التي تعظم من كعب بن مالك، نسي الناس أنه قد تخلف منذ شهرين عن غزوة كبرى، وما عادوا يذكرون إلا أنه رجل تائب، قد تقبل الله عز وجل توبته، هذا هو ما تذكره الناس بعد ذلك، فهذا هو المجتمع الإسلامي، هذا هو المجتمع الذي يُحَكِّم الله سبحانه وتعالى، ويُحَكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، هذا هو المجتمع العملي في الإسلام، وهذا هو جيل الصحابة، وهذا هو الجيل المنصور، وهذا هو الجيل الذي رضي الله عنه، كان هذا هو الجانب العملي في حياة الصحابة، وانظروا إلى كلام معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: "تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن يأجركم الله حتى تعملوا".

لا قبول للإيمان من غير عمل، الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. تعالوا نختم حديثنا بكلام رائع لعبد الله بن عمر رضي الله عنه كما رواه البيهقي في الكبرى: "لقد عشنا برهة من دهرنا، وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن".
وهذه البرهة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى الإيمان قبل القرآن، أي قبل أن يحفظ القرآن، أو يقرأ القرآن، هو يعرف أن هذا الكتاب قد جاءه من أين، ويعرف ما ينبغي أن يعمله، فهذا الكتاب هو رسالة من الله عز وجل، فيه أوامر تطاع، ونواهٍ تجتنب، من هذا المنطلق، يقرأ القرآن الكريم.

وأحدنا يؤتى الإيمان- بالله عز وجل وبحكمته وقانونه- قبل القرآن، وتنزل السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها، وحرامها، وآمرها، وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن، قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره، وما زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل.

الدقل رديء التمر، أي تصبح قيمته عنده مثل قيمة رديء التمر، نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، كثير منا يقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، ولا يعمل بكل كلمة، هذا لم يكن حال الصحابة، وهذا فارق ضخم جدا من جيل الصحابة، وبين الأجيال التي تلت بعد ذلك.

نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بطريق الصحابة، وأن يرزقنا حسن العمل، وحسن القول، وحسن العلم، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 19
  • 3
  • 39,507
المقال السابق
(5) الصحابة والعلم
المقال التالي
(7) الصحابة والدنيا

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً