كن صحابيًا - (11) الصحابة والدعوة

منذ 2014-05-02

بغير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يفسد الأفراد، وتفسد الأمة، بل تفسد الأرض كلها، ولأجل هذا كانت الفتوحات الإسلامية التي انسابت في الأرض كلها شمالًا، وجنوبًا، شرقًا، وغربًا...

مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله عز وجل عملٌ من أشرف الأعمال التي يمكن أن يقوم بها كلُّ مؤمن ومؤمنة.
يقول الله عز وجل في كتابة الكريم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].

فمن كل الأقوال التي يمكن أن يقولها الإنسان، ومن كل الكلمات التي يمكن أن ينطق بها بشر، تظل كلمة الدعوة هي أحسن الأقوال، وأحسن الكلمات {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].


هذه الكلمة العظيمة (الدعوة) هي وظيفة الأنبياء، والمرسلين، فأنبياء الله سبحانه وتعالى وظيفتهم الأولى هي الدعوة إلى الله عز وجل يقول الله تعالى في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم:4].

فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، لا بد أن تصل الدعوة إلى العباد، فمن الذي يصل بالدعوة إلى العباد؟


الأنبياء، وبعد آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي يصل بالدعوة إلى الناس؟

إنهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤمنون بهذا الدين، المسلمون إسلامًا حقيقيًا صادقًا، هم الذين يتحركون بالدعوة، لقد ختم الأنبياء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم:4].

ويقول عز وجل: {بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
والآيات في هذا المعنى كثيرة.


إن من يبين للناس الحلال والحرام، ومن يعرف الناس بالمعروف، ويأمرهم به، ويبين للناس المنكر، وينهاهم عنه، إن من يفعل ذلك إنما يعمل بعمل الأنبياء والمرسلين.

لذلك جعل الله عز وجل هذه الصفة، صفة الدعوة، أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفة لازمة لمن حمل لقب (مؤمن) فما دمت مؤمنًا فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، إذا أردت أن تستكمل صفة الإيمان فلا بد من الدعوة إلى الله.

يقول الله عز وجل: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
وذكر الله عز وجل أن أول ما يتصفون به أنهم: {يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].


وتستطيع أن تلاحظ أن الله تعالى قدم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مع كونهما ركني الدين العظيمين، فالصلاة كما نعلم هي أعظم أركان الإسلام، وهي عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمرها.


كذلك الزكاة ركن من الأركان الإسلام الأساسية، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي على أمرها أيضًا.

الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على ألا يعيشوا لأنفسهم فقط، لا يقبل من المؤمن بحال أن يصلي، ويزكي، ويقوم بأعمال فردية، دون أن يدعو غيره إلى الله عز وجل.

إن الإنسان إذا شعر بعظمة هذه الرسالة أصبح مقتنعًا بأهمية نقلها إلى غيره من الناس، فهذه هي الغاية من هذه الرسالة، ومن هذه الأمة.
ولا يقبل من المؤمن أيضًا أن يأخذ هذه الرسالة، ويستوعبها فحسب، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن ينقل هذه الخير إلى من حوله من الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف الجميل في هذه الآيات: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة:71].
أي أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة:71].


ولم خصهم الله تعالى بالرحمة؟

لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء لما رأوا الناس يتجهون إلى هاوية سحيقة، ويتجهون إلى النيران، ويتجهون إلى البعد عن الله عز و جل، ويتجهون إلى المعيشة الضنك، لما رأوا هؤلاء يتجهون إلى هذا الطريق ما استراحوا إلا بعد أن وضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، طريق الله عز وجل، فقد رحموا عباد الله عز وجل، وأوضحوا لهم الطريق، فلا بد أن يرحمهم الله عز وجل، ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل.


ما من شك أن المسلمين جميعا يفقهون قيمة الدعوة إلى الله تعالى، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا في هذه السطور نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


كيف تكون صحابيا في دعوتك؟
كيف تكون صحابيا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟

وهي بلا شك قضية في غاية الأهمية، لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تبنى أمة من دون دعوة، ربما وجد أفراد قلائل وعظماء أيضًا، لكن أن تبنى أمة بكاملها من غير دعوة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم من غير المسلمين، هذا في الواقع أمر مستحيل تمامًا، لأن الأمة أفراد كثيرة، ومجتمع كبير وهائل من البشر، فلا بد إذن من أن تصل الدعوة إلى الناس جميعًا.


تعالوا بنا نرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفكرون في قضية الدعوة؟
وكيف كانت الدعوة هي القضية الأساسية في حياتهم؟

إنك إذا طالعت سيرة أي صحابي سوف تجد حتمًا أن الدعوة أحد الأركان الأساسية في حياته، ولن تجد في حياة أي من الصحابة رضي الله عنهم جميعا يومًا، أو يومين، أو شهرًا، أو شهرين، أو سنةً، أو سنتين من دون دعوة، فكل حياتهم موجهة إلى تعليم الآخرين، ودعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل وطاعته، وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

من المستفيد الأول من الدعوة؟

ومن الأشياء المهمة في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعرفون من هو المستفيد الأول من الدعوة إلى الله تعالى.
ترى من هو؟
هل هو الداعية أم أنه المدعو؟

في الحقيقة المستفيد الأول من الدعوة هو الداعية نفسه، هذا الرجل الذي يدعو الناس إلى الله هو المستفيد الأول، سواء استجاب الناس له، أو لم يستجيبوا، وسواء سمعوا له حال دعوته لهم، أو لم يسمعوا، فهو مستفيد على كل الأحوال.

فأنت كما تصلي، وتصوم، وتزكي، وتجاهد في سيل الله، وكما تقوم بأي عمل من أعمال الخير، وتطلب الأجر، والثواب من الله عز وجل، فكذلك الحال بالنسبة للدعوة إلى الله، فأنت عندما تدعو تأخذ الأجر من الله تعالى.
وإذا كان بإمكانك أن تتخيل حجم الثواب على الصلاة، والزكاة، والحج، والإنفاق في سبيل الله، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية بأجر هذه الأعمال، فإنه لا يمكن لعقل أن يتخيل ثواب الدعوة إلى الله عز وجل.


تعالوا بنا نطالع هذا الحديث، لنرى هذا الحجم الهائل من الحسنات،في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مَنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا».

فإذا أردت أن تحصي ما يحصل عليه الداعية من الأجر، سوف تجد كَمًّا هائلًا من الحسنات.
فعلى سبيل المثال إذا دعوت إنسانًا إلى الصلاة، ولم يكن يصلي مطلقًا، وأذن الله بهدايته على يديك، فإن كل الصلوات التي يصليها هذا الرجل، والتي ربما تخفى عليك تمامًا، هي في ميزان حسناتك، وقد يسافر هذا الرجل الذي علمته الصلاة من بلدك، ولا تراه بعد ذلك، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش عشرين سنة، أو خمسين، أو مائة، وتكتب كل صلواته الفرض منها، والنافلة، ما صلاه بالليل، أو النهار يكتب كله في ميزان حسناتك.

أيضا هذا الرجل إذا علم أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده تكتب في ميزان حسناتك أيضًا، وكذا إذا علم جيرانه، وإذا عمل بالدعوة إلى الله في أي مكان، أو أي زمان فكل من يدعوهم في ميزان حسناتك، ولا ينقص من أجورهم شيء.


ربما تظل هذه الدائرة تتسع حتى بعد موتك بسنين طويلة، بل ربما تظل تكتب لك الحسنات إلى يوم القيامة، وعن طريق أناس لم تعرفهم، ولم ترهم، ولم تعش في زمانهم، كما هو الحال بالنسبة لنا، فالأمة كلها تضيف الحسنات لمن دعوها، وأوصلوا إليها ما هي عليه من الخير، تضيف الحسنات في ميزان الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية الصحابة، وبقية التابعين، وبقية من حملوا هذه الرسالة، وأوصلوها إلينا.


كم هو كثير هذا الخير الذي يعود على الإنسان من الدعوة إلى الله عز وجل!
لأجل هذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يضحون بكل شيء في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، يبذلون العرق، والجهد، والمال، والنفس، وكل شيء في سبيل، هذه القضية العظيمة؛ قضية الدعوة إلى الله تعالى لما لها من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل.
ومن هنا نستطيع أن نفهم جيدا كلام ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].


لا أحد على الإطلاق، فإن الذاكر لله تعالى، والقائم يصلي، وقارئ القرآن، أعمالهم لا شك فاضلة، ولكن تبقى الدعوة إلى الله أفضل، وأعظم، وأعلى قيمة من هذا كله؛ لأن الداعية إلى الله لا يكتفي بهذه الأعمال من ذكر، وصلاة، وقراءة للقرآن، بل يدعو غيره إليها، وهذا فضل عظيم، وكبير.


عقوبة ترك الدعوة

وعلى الجانب الآخر فإن ترك أمر الدعوة إلى الله تعالى هو أمر في غاية الخطورة، ليس على العبد فحسب، بل على الأمة كلها.
روى أحمد في مسنده، والترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن.
عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ».

يقسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقسم إلا على أمر عظيم، لأننا نصدقه صلى الله عليه وسلم دون أن يقسم، ولكن عليه الصلاة والسلام يريد أن يعمق معنى الأمر بالمعروف في نفوس الصحابة، وفي نفوس الأمة كلها ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ».


فإذا وجدت نفسك في أزمات كثيرة، وتدعو الله عز وجل كثيرًا، وهو سبحانه لا يستجيب لك، فلتراجع نفسك في أمر الدعوة إلى الله جيدًا، فربما يكون تأخير استجابة الدعاء بسبب هذا الأمر.
في الواقع هذه مشكلة كبيرة، وهي أن كثيرًا منا يعبدون الله عز وجل، لكن دون أن يدعو الناس إليه سبحانه وتعالى، ربما يكون جاره بعيدًا عن الله، أو زميله في العمل، وربما زوجته، أو أولاده، أو أمه، أو أبوه، أو إخوته، ومع هذا كله لا يشغله كثيرًا هذا الأمر.


فلماذا يعيش الناس إذن؟
هل يعيشون لأنفسهم فحسب؟
ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.

صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعيشيون لأنفسهم، ولم يكونوا يعيشيون لأولادهم، وأهليهم، وإخوانهم، وعشيرتهم فحسب، بل إنهم كانوا يعيشون لأهل الأرض جميعًا، وسنرى تطبيق ذلك عمليًا في السطور القادمة.

روى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وحسنه الألباني عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء -أي أنه صلى الله عليه وسلم قد همه شيء- فتوضأ، ثم خرج، فلم يكلم أحدا، فدنوت من الحجرات، فسمعته يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرَوفِ وْانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُم وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ».

أليس من الجائز أن يكون السبب في الانهيار الذي نرى عليه الأمة الإسلامية هو التقصير الكبير في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟

أليس من الجائز أن يكون تأخير النصر عن الأمة، وما تتعرض له من أزمات طاحنة، ومشكلات كبيرة، إنما هو بسبب إهمالها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

ربما كنا نعمل وفي مرحلة إعداد، ولكن عندنا قصور في هذا الجانب، وهذا من الممكن أن يؤخر الأمة كلها، بل إنه من الممكن أن يكون سببًا في استئصال أمة كاملة.


ترى ما هي أول مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل؟
ألم يكن بينهم مؤمنون؟

في الواقع كان في بني إسرائيل مؤمنون، ولكنهم لم يقوموا بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت الهلكة لهم، لنرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل وكيف كان سقوطهم وهلاكهم:
روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولَ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فِإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ».

أي يجده على نفس المعصية التي نهاه عنها ولا يؤثر ذلك على العلاقة بينهما، وتنسى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ».


ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78-81].


ثم قال: «كَلَا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِي الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنِّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ».


إننا أمة الإسلام لا نملك كرامات معينة من عرق، أو نسب، وخيريتنا إنما هي لأسباب معروفة، ولصفات معروفة، ولنهج معروف، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسير عليه، ولو خالفناه، أو قصرنا فيه، فما من شك أن يحدث لنا ما حدث لبني إسرائيل، وغيرهم من الهلاك.


إننا لسنا قريبين من الله لأجل أننا من جنس العرب، أو لأننا من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اسما فقط، لا، بل لا بد من العمل، ولا بد أن أن نتصف بالصفات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم موضحا لنا السبب الذي لأجله كانت هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، فلو لم تتبع الأمة أمر ربها كان اللعن، والطرد كما حدث مع بني إسرائيل.


أمة الإسلام أمة باقية إلى يوم القيامة، ولن تهلك بكاملها على الإطلاق لأجل الرسالة الباقية التي تحملها إلى الخلق أجمعين، لكن من الممكن أن تستبدل، نعم يستبدل الله عز وجل الجيل الفاسد الذي لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر بجيل صالح يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقوم بأمر الله عز وجل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].


فالأمة التي لا تستوفي شروط الخيرية تستبدل بأمة أخرى غيرها، فكم من الأمم الإسلامية السابقة قد استبدلها الله بغيرها، دول إسلامية سقطت، وأخرى قامت قياما تحافظ فيه على شروط الخيرية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].


ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله، إلا أن الله عز وجل قدمهما لبيان أهميتهما، وعظم أمرهما، وأن المؤمن، وإن كان من أصحاب الأعمال الكثيرة الصالحة، لكنه لا يلزم هذين الأمرين، فلن يكون في الأمة خيرية، ولن تتصف الأمة بهذه الصفة العظيمة.

إن من أهم مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض كلها، ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل تعليم الناس جميعًا في كل مكان في الأرض، ولتعلم يقينًا أن عليك واجبًا لمن يعيشون في الصين، وفي روسيا، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي استراليا، وفي بريطانيا، ولمن يعيشون في الجزر النائية في المحيطات البعيدة، عليك أن تبلغهم هذه الرسالة العظيمة، وأن تعلمهم، وأن تصبر على آذاهم، ويحاربونك، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، ويرفضون، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، وأنت بهذا لا تتفضل عليهم، وإنما هو واجبك تجاههم.


هذه هي خيرية هذه الأمة، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فلا عليك، شرط أن تتخلى عن القول بأنك من خير أمة أخرجت للناس مع تركك لأمر الدعوة إلى الله.

الأمر في غاية الخطورة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري: خير الناس للناس -يصف رضي الله عنه أمة الإسلام- تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.

ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه بكلامه هذا الفتوحات الإسلامية، التي كانت مهمتها الأولى هي تعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ودخل كثير من الناس الإسلام، وهم كارهون في البداية لأمر هذه الجيوش الإسلامية التى دخلت بلادهم، وربما دخل بعضهم الإسلام؛ لأنه الدين العظيم والمهيمن على الأرض في ذلك الوقت، وله دولة قوية قاهرة، ولكنهم عرفوا بعد ذلك عظمة هذا الدين، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يكونوا من أهل النار لو ظلوا يعبدون النار طوال حياتهم، أو يعبدون المسيح، أو الشجر، أو الحشرات كما كان يحدث في الهند، فقد عبد الناس كل شيء إلا الله عز وجل، فكان من واجب المسلمين أن يعلموهم وأن يبلغوهم رسالة الله، وبعد أن كانوا كارهين أصبحوا من أهل الجنة، وهذا خير عظيم.

فهذه هي مهمة الأمة المسلمة أن تعلم الناس جميعًا الخير، وهذا هو سبب خيريتها، فهي أمة لا تقيم العدل في إطار دولتها فقط، أو في إطار حدودها فحسب، وتترك العالم من حولها يظلم كما يريد، ويسرق كما يحب، ويعصي الله عز وجل حسب ما يرى هواه.


روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ».

وهؤلاء هم من جاءوا بلاد المسلمين، وهم أسرى مع المسلمين العائدين من المعارك والفتوحات الإسلامية، فلما عرفوا حقيقة الإسلام وأحبوه دخلوا فيه، وحسن إسلامهم فصاروا من أهل الجنة مع أنهم كانوا لا يريدون، لكن أمة الإسلام الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير وعظيم.
ولأجل هذا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].


الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفهمون هذه الحقائق جيدًا ويعرفون ما الذي يمكن أن يحدث لو لم يكن هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.

حديث رائع ومثل عظيم يضربه النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الأمر جيدا: روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا».

فالسفينة كلها ستنجو بلا شك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لصحابته رضي الله عنهم جميعًا ولأمته كلها.

 

وقد استوعب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر جيدًا، وتحركوا به في حياتهم، وتولد عن هذه المشاعر التي دخلت في نفوس الصحابة إحساس عميق بالمسئولية الكبيرة في تبيلغ هذه الرسالة العظيمة، وأنه ما دمت مؤمنًا فلا بد أن تدعو غيرك إلى الخير، تدعو غيرك إلى الإسلام، إلى الله عز وجل، ليس لأجل تكثير الحسنات، وتثقيل الميزان، وإن كان هذا مهما، ولكن لأن هذه وظيفة إجبارية على كل مؤمن، فكما أن الإنسان لا يكون مؤمنًا إذا امتنع عن الصلاة، أو الزكاة، فكذلك الحال، فما دمت مؤمنًا لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


وبغير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يفسد الأفراد، وتفسد الأمة، بل تفسد الأرض كلها، ولأجل هذا كانت الفتوحات الإسلامية التي انسابت في الأرض كلها شمالًا، وجنوبًا، شرقًا، وغربًا، فتوح فارس، والروم، وشمال أفريقيا، وفتوح الأندلس، وفتوح الهند.

كل البلاد التي فتحت بالإسلام كان الهدف الأساسي من الفتح هو تعليم الناس دينهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرون هذا الأمر أحد واجباتهم الأساسية، وليس من نوافل الأعمال.


ربعي بن عامر رضي الله عنه، لنتدبر كلامه رضي الله عنه وأرضاه وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا بلاد فارس.
ماذا قال هذا الصحابي الجليل عندما دخل على رستم قائد الفرس؟
هذا القائد اسمه هكذا (رَسْتَمْ) وليس (رُسْتُم) كما هو مشهور بين الناس، وهو اسم فارسي.
لما قال لسيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه: ما جاء بكم؟
قال له ربعي رضي الله عنه بفهمه الدقيق العميق لمهمة المسلم في الحياة: لقد ابتعثنا الله.

تدبر كلامه رضي الله عنه، فإن البعث لا يكون إلا للأنبياء، والمرسلين، وقد ختموا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فتحملت الأمة هذه المسئولية إلى يوم القيامة، وأصبح أفراد هذه الأمة مبعوثين كالأنبياء، والمرسلين لتعليم الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل.
يقول رضي الله عنه: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد.

كل العباد في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف الأزمنة، والأمكنة مسؤولية في رقبة كل المسلمين.
لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.


ومن المعروف أن أهل فارس لم يكونوا يعبدون كسرى، كما أن أهل الروم لم يكونوا يعبدون قيصر، لكن هؤلاء الزعماء كسرى وقيصر، ومن على شاكلتهم كانوا يشرعون لأقوامهم، وشعوبهم، ويضعون لهم القوانين المخالفة لما أمر الله عز وجل به، وباتباع هذه الشعوب لهذا التشريع كأنهم يعبدونهم، فلما جاء الإسلام أمر الله المسلمين أن يذهبوا إلى هؤلاء ليعلموهم أن الأمر والحكم لله عز وجل، وأن الناس جميعًا لا بد، وأن يسيروا على منهج الله عز وجل، ولا يخالفوا أمره، وأن يبتعدوا عن كل ما نهى الله عز وجل عنه، وهذه هي العبادة الحقيقية، فالمسلمون لهم مهمة في منتهى الوضوح:

لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. سواء كانت هذه العبادة حسية، أو كانت طاعة مخالفة لما أمر الله عز وجل به.
ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.


هذه هي مهمة الأمة المسلمة، التي فهمها الصحابي الجليل ربعي بن عامر، وفهمها كل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم هو ما نريده أن نصل به إلى كل مسلم.


لا يأس مع الدعوة

شيء آخر من الأهمية بمكان في قضية الدعوة عند الصحابة رضوان الله عليهم:
اليأس لم يتطرق على الإطلاق إلى قلب أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الدعوة، إذا دعوت إنسانا إلى الله مرة، واثنتين، وثلاثة، وعشرين، ومائة، ولم يستجب، فلا تيأس لأنه لا يوجد في قضية الأجر على الدعوة ما يسمى بالجهد الضائع، ولا يصح أن يقال أن فلانًا بعينه لا رجاء فيه ولن يهتد أبدًا.

لماذا؟

لأن القلوب بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، وأجرك كداع إلى الله لن يضيع منه شيء، سواء استجاب المدعو، أو لم يستجب، أجرك واقع على الله عز وجل. {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص:56].


إذن فكل الناس يدعون إلى الله عز وجل، ندعو المسلمين البعيدين عن طريق الله ندعوهم إلى الله عز وجل، ندعو اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والهنود وكل الناس ندعوهم إلى الله عز وجل، هذه هي مهمة المسلمين الأساسية.


لنرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع قضية الدعوة، ونقتدي بهم.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه والدعوة إلى الله

كانت حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلها قائمة على قضية الدعوة، فمن أول يوم آمن فيه الصديق، وهو يتحرك لهذا الدين، ولهذه الدعوة، منذ أن شعر بحلاوة هذا الدين أراد أن ينقل هذا الإحساس إلى كل الناس، ومع أن عمره رضي الله عنه في الإسلام لم يتجاوز ساعات قليلة، إلا أنه كانت لديه حمية عظيمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحرك رضي الله عنه ليأتي بعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، هؤلاء الخمسة من أعاظم الصحابة والمسلمين والمجاهدين، هؤلاء هم من حملوا على أكتافهم أمانة الرسالة وأمانة الدعوة، وأمانة التبليغ، هؤلاء هم من علموا أهل الأرض جميعًا الإسلام.


جاء بهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه في أول يوم، وفي اليوم الثاني جاء بأبي عبيدة بن الجراح، وعثمان بن مظعون، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبي سلمة بن عبد الأسد.


أي جهد هذا وأي بذل هذا وأي خير هذا!

إن كل ما يفعله هؤلاء من الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجورهم، عندما يتبرع عثمان بن عفان بتجهيز جيش العسرة يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يبني عثمان رضي الله عنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يشتري بئر رومة من حر ماله يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، كَمّ من الحسنات لا يمكن تخيله بحال من الأحوال.


عندما يخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه مجاهدًا في سبيل الله محاربًا ومدافعًا عن دين الله في شمال مصر، وفي الشام وفي العراق، وهنا، وهناك يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يربي ابنه عبد الله بن الزبير على الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، عندما يربي ابنه عروة بن الزبير على الخير يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، وأي أمر من أمور الخير يفعله الزبير بن العوام رضي الله عنه يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره.


وتخيل معي أسماء من ذكرناهم قريبًا، وما لهم من الأعمال العظيمة، والتي يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجورهم عليها، ومع هذا كله أنفق ماله كله أيضًا على الدعوة إلى الله، فقد أعتق عبيدًا كثيرين من ماله، وكما أن هواية بعض الناس جمع الطوابع، أو التحف، كانت هواية الصديق رضي الله عنه وأرضاه هي جمع المؤمنين، كان رضي الله عنه وأرضاه يفهم جيدا طبيعة الدنيا، ويفهم رسالته في الحياة:

ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.


يرى بلال بن رباح يعبد غير الله، فيذهب إليه سريعًا، ويدعوه إلى عبادة الله، ويؤمن بلال، ويعذب في سبيل الله، ويدفع أبو بكر ماله ليعتقه، ويستنقذه من العذاب، لا يرجو منه جزاءً ولا شكورا، إلا مرضاة الله عز وجل.

أعتق رضي الله عنه عامر بن فهيرة، وأدخله في الإسلام، الزنيرة، وابنة الزنيرة، وكثير من المعذبين، والمعذبات من الصحابة، والصحابيات في أرض مكة، أدخلهم رضي الله عنه في دين الإسلام، وأعتقهم، أي خير هذا وأي عظمة هذه!


إنها الدعوة إلى الله عز وجل، أدخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه عائلته كلها في الإسلام، أم رومان زوجته رضي الله عنها، أولاده أسماء، وعبد الله، أما السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد ولدت في الإسلام، ثم دخلت أمه في الإسلام، ثم أكبر أبنائه عبد الرحمن، ثم دخل أبوه في الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا، خير عظيم، وأجر ضخم، وكبير في ميزان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

لأجل هذا لو وزنت إيمان الصديق بأي إيمان لا بد أن يرجح إيمان الصديق، بل لو وزنت إيمان الصديق بإيمان الأمة لرجح إيمان الصديق.

 

لماذا؟

لأن الأمة عندما تعمل إنما تضيف لحسنات الصديق، وأي مسلم يعمل خيرًا إنما يعمل عن طريق دعوة الصديق رضي الله عنه في بداية الدعوة، فلو قمت فصليت ركعتين يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجرك، لو أنفقت شيئًا في سبيل الله يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجرك، لو أن إنسانًا جاهد في فلسطين، أو العراق، أو الشيشان، يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره، لو كتب عالم كتابًا ينتفع الناس به، أو ألقى محاضرة وتناقلها الناس عبر شرائط الكاسيت، أو الفيديو، أو عبر الإنترنت، يأخذ الصديق رضي الله عنه مثل أجره.


هل تخيلت معي هذا الحجم الهائل الضخم الكبير من الحسنات؟
هذه هي الدعوة إلى الله، وهذا هو الصديق، وهؤلاء هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.


الطفيل بن عمرو الدوسي والدعوة إلى الله

بعدما أسلم، وقصة إسلامه من القصص الجميلة الرائعة لا يتسع المجال لذكرها، لكنه بعد أن أسلم بسماعه بعض الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعه بعض آيات من كتاب الله عز وجل، قال: فوالله ما سمعت قولا قط أحسن، ولا أمرا أعدل منه، قال:

فأسلمت وشهدت شهادة الحق ثم قال، وهو ليس من لأهل مكة، وإنما دوس قبيلة مشهورة من قبائل اليمن وهي بعيدة عن مكة بمئات الأميال، قال: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام.

أي شيء عرفه الطفيل رضي الله عنه عن الإسلام حتى يدعو قومه إليه؟!
إنني على يقين أن الكثير من المسلمين لديه من العلم، ومن المعرفة عن الإسلام أكثر مما لدى الطفيل في هذا الوقت، فهو رضي الله عنه لم يسلم إلا منذ دقائق قليلة جدًا، نحن قرأنا القرآن كله كثيرًا، وعرفنا أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا الصلاة، والصوم، والزكاة، وتفاصيل أخرى كثيرة عن هذا الدين، لم يكن الطفيل رضي الله عنه قد عرفها بعد، لكن هل تحركنا كما تحرك الطفيل لهذا الدين؟

فارق ضخم، وشاسع بين الطفيل رضي الله عنه بعلمه المحدود في ذلك الوقت، وبين من عنده العلم الكثير لكنه لا يتحرك لهذا الدين.

الطفيل بن عمرو الدوسي منذ أن شعر بحلاوة هذا الدين، أراد أن ينقله إلى أهله، وإلى أحبابه، وإلى عشيرته، وإلى قومه، وإلى الناس أجمعين، فهو لا يتحمل أن ينفرد بهذا الخير لنفسه فقط، بل لا بد من أن يدعو الآخرين، ويعلمهم، ويفيض عليهم من هذا الخير، ومع أنه لم يسلم إلا منذ دقائق، لكنه أصبح داعية يفقه معنى الدعوة، وحقيقة الدعوة، وقيمة الدعوة، وتعالوا بنا نذهب معه في هذه الرحلة إلى اليمن، لنرى هذه القصة الجميلة في دعوته لأهله وقومه، يقول الطفيل رضي الله عنه: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عني أبت، فلست منك، ولست مني.
قال: ولم أي بني؟!
قلت: إني أسلمت.
قال: أي بني فديني دينك.
فأسلم.


لا شك أن هذه الطريقة في الدعوة طريقة حادة وقاسية، ولكن على أي حال قد آتت ثمارها في هذا الموقف، ولذا استعمل الطفيل رضي الله عنه نفس الوسيلة مع زوجته يقول:
ثم أتتني صاحبتي -أي زوجته- فقلت لها مثل ذلك، فأسلمت، وقالت: أيخاف عليّ من ذي الشرى -صنم لهم- فقلت: لا، أنا ضامن لذلك.


إذن فهذه الوسيلة التي يستعملها في الدعوة مع حدتها، وقسوتها نجحت مرتين، فلا بأس إذن -من وجهة نظره رضي الله عنه- لا بأس أن يستعملها مع باقي القوم، ولكن في هذه المرة لم يكتب لوسيلته النجاح، يقول رضي الله عنه: ثم دعوت دوسا فأبطئوا عن الإسلام.

وظل يدعو الناس بهذه الحدة فلم يسلم أحد، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وقال له: يا رسول الله، إن دوسا قد عصت، وأبت، فادع الله عليها.


إن الإيمان وعدمه هو الذي يحدد الرابطة القلبية عند الطفيل رضي الله عنه، فقد كان يحب قومه كثيرًا، ويريد أن ينقل إليهم حلاوة هذا الدين، ولذة هذه الدعوة، ولكنهم عندما رفضوا الاستجابة لأمر الله انقطعت الرابطة بينه وبينهم، وأصبح يكرههم في الله عز وجل إلى درجة أنه يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن الناس أنه يدعو عليهم، وقيل: هلكت دوس.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والحريص على كل نفس، وعلى كل بشر رآه، أو لم يره، كان أحرص على قوم الطفيل، وعشيرته من الطفيل نفسه، رفع الحبيب صلى الله عليه وسلم يده وقال: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وائْتِ بِهِمْ».
ثم قال للطفيل: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكِ فَادْعُهُمْ».
وقال له كلمة في منتهى الروعة قال له: «وَارْفُقْ بِهِمْ».


ويبدو أن الطفيل رضي الله عنه قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث بينه وبين أبيه، زوجته، وما حدث مع قومه، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطريقة الحادة القاسية لا تجدي في الدعوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق، فالرفق بالناس، والرحمة بهم، ومحاولة لإيصال الخير لهم بألطف الطرق، وأيسرها هي الوسيلة المثلى في الدعوة إلى الله عز وجل.

يقول الطفيل رضي الله عنه وأرضاه: فرجعت، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم للإسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

فقد مرت الأيام، والشهور، والسنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، والطفيل رضي الله عنه في اليمن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الإسلام، ثم هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، يقول الطفيل رضي الله عنه: لم أزل بأرض دوس، أدعوها حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر، وأحد، والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين، أو ثمانين بيتًا من دوس، ثم لحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.


فهل كان الطفيل رضي الله عنه جالسًا في اليمن يضيع الوقت، في حال كان المسلمون يجاهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقومون بهذه المعارك الضخمة، إنه كان يقوم بمهمة من أعظم المهمات، إنها مهمة الدعوة إلى الله، وتعليم قبيلة دوس الإيمان والخير، وإذا كان رضي الله عنه قد ذهب إلى المدينة المنورة بمن أسلم معه من قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، أي في السنة السابعة للهجرة، يكون رضي الله عنه قد استمر في دعوته لقومه دوس ما لا يقل عن عشر سنوات.


دور في منتهى الخطورة وفي منتهى الأهمية، وبعد نجاحه في القيام بهذا الأمر الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل المدينة بمن معه، سبعين، أو ثمانين بيتًا، أو عائلة من دوس، فهم ليسوا سبعين أو ثمانين فردًا، وإنما هم عائلات.

وتخيل معي، هذا الكم الهائل من الحسنات التي تكتب في ميزان الطفيل رضي الله عنه وأرضاه، كلما صلى أحدهم صلاة، أو أنفق نفقة، أو جاهد في سبيل الله، أخذ الطفيل مثل أجره، بل لو استشهد أحد منهم في سبيل الله كتب للطفيل رضي الله عنه أجر الشهادة، حقق الطفيل رضي الله عنه هذا الخير العظيم في هذه السنين القليلة بعلمه القليل، فكم من السنين مرت علينا؟

وكم من العلم نعرف؟
فهل أدينا زكاة ما نعرف من العلم؟
هل أدينا زكاة العمر؟
هل أدينا زكاة الإسلام؟
هل أدينا زكاة الهداية إلى دين الله عز وجل؟
هل أدينا زكاة الإيمان بالله عز وجل؟
كم من الناس عرفنا لهم الإسلام؟
كم من الناس أوصلنا لهم هذا الدين؟
كم من الناس جعلناهم يحبون الإسلام؟


أتدرون من أتى به الطفيل ضمن هؤلاء السبعين عائلة الذين أتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

إنه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فكل ما جاء من الخير العظيم على يد أبي هريرة رضي الله عنه، يكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل كل الأحاديث التي نقلها أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من سبعة آلاف حديث، وبعض الأقاويل أنها أكثر من عشرة آلاف حديث نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى هذا الكم الهائل الضخم الذي جاء عن هذا الصحابي العظيم أبي هريرة، كل هذا العلم يكتب في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وتخيل أيضا حياة أبي هريرة رضي الله عنه، لو لم يوجه إليه الطفيل رضي الله عنه هذه الدعوة إلى الإسلام، فقد كان يعيش فقيرًا معدما في قبيلة بعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا كان سيفعل أبو هريرة لو لم تصله هذه الدعوة كان سيعيش -مهما عاش- حياة لا معنى لها، ولا هدف لها، ولا قيمة لها، ثم يموت، ولا يسمع به أحد، ولن ينتفع به أحد، ولن يحفر اسمه في أي صفحة من صفحات التاريخ، لكن بعد أن كلمه الطفيل في أمر الإسلام والإيمان وآمن بالله ورسوله، فلتفتح الآن ليس صفحة واحدة، بل صفحات، وصفحات من التاريخ.

افتح صحيح البخاري ومسلم، افتح سنن الترمذي، والنسائي، وأبي داود وابن ماجه، افتح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك، ومعجم الطبراني، افتح أي كتاب من كتب السيرة، أو من كتب السنة، قلما تجد صفحة تخلو من اسم أبي هريرة، كل هذا في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي، وما كان كل هذا ليحدث لولا الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه هي الدعوة إلى الله.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].

ومن ثم لم يترك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة في أي حال من الأحوال، ولا لأي ظرف من الظروف، بل في حروبهم، ومع أعدائهم لا ينسون قضية الدعوة إلى الله تعالى، ويكونون في حرص تام على دعوة أعدائهم إلى الله تعالى. وقد تعلموا هذا النهج الأخلاقي الرفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.


انظر ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في خيبر: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُّ عَلَيْهِمْ».

هذا الكلام في ميدان المعركة ومع من؟

مع اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، وبعد خيانات عظيمة من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».

وهي أبل عظيمة جدا كانت تتفاخر بها العرب، فلو أن واحدا فقط أسلم من هذا الحصن العظيم، وبه الآلاف من اليهود لكان خيرًا عظيمًا، وفي رواية: «خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ».

شيء في منتهى العظمة، أن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير من الدنيا، وما فيها، فما بالك إذا كانوا عشرة، أو عشرين، أو ألفًا، أو ملايين؟


لهذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يضيعون أي فرصة دون أن يدعوا إلى الله عز وجل.
الأمثلة كثيرة ويصعب حصرها، وهذا مثل أخير نختم به.


خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة اليرموك

كانت موقعة اليرموك -كما نعرف جميعًا- بقيادة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، وعن الصحابة أجمعين.

الجيوش مصطفة على الناحيتن، جيش الرومان، وأمامه جيش المسلمين، تقول الرواية: وخرج (جرجه) وهو أحد الأمراء الرومان الكبار من الصف -أي من صف المشركين في ميدان المعركة- واستدعى خالد بن الوليد، وكان من الممكن أن يقول سيدنا خالد، وهو قائد الجيش إن هذه مؤامرة أو مكيدة تدبر له، ويراد منها قتله، ولكنه رضي الله عنه ما كان يتردد على الإطلاق إذا طلب أحد لقاءه أو منازلته في ميدان الحرب، فجاء اليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، وقد أمن كل منهما صاحبه، فقال جرجه: يا خالد، أخبرني فاصدقنى، ولا تكذبني، فان الحر لا يكذب، ولا تخادعني، فان الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء، فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟


سؤال في منتهى الغرابة يقوله هذا القائد الروماني في تعجب شديد، وانتصارات سيدنا خالد رضي الله عنه بالفعل كثيرة جدًا، سواء في بلاد فارس، أو بلاد الروم، وبأعداد، وعُدد قليلة على أعداد من المشركين، وعُدد هائلة وضخمة.

هذا القائد الروماني في استغرابه الشديد يستحلف خالدا أن يصدقه القول، قال خالد: لا.
قال: فبم سميت سيف الله؟

ورد عليه سيدنا خالد ردًا في منتهى البراعة، وفي منتهى الحكمة، ومنتهى الفقه لقضية الدعوة فقد أحس أن جرجه الروماني هذا يتكلم بلسان غريب عن قومه، وفي قلبه نوع من الميل إلى الإسلام، في قلبه نوع من الشك فيما عليه الرومان من دين، نوع من التفاؤل، نوع من الطموح، والجيوش مصطفة على الناحيتين، جيش الرومان وأمامه جيش المسلمين، فبماذا رد سيدنا خالد رضي الله عنه؟

قال رضي الله عنه: إن الله بعث فينا نبيه، فدعانا، فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعًا، ثم إن بعضنا صدقه، وتابعه، وبعضنا كذبه، وباعده، فكنت فيمن كذبه، وباعده.

لماذا يقول سيدنا خالد هذا الكلام؟ ويذكر أنه كان ممن كذب وباعد رسول الله في بداية الأمر؟
إنه يريد أن يقول لهذا القائد إني كنت مثلك أحارب المسلمين، وأقاتلهم، ولكن هداني الله إلى الإسلام، وربما تكون أنت كذلك، ويكمل خالد رضي الله عنه يقول: ثم إن الله أخذ بقلوبنا، ونواصينا، فهدانا به، وبايعناه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ»، ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله، بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.


فقال جرجه: يا خالد إلام تدعون؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل.
قال: فمن لم يجبكم؟
قال: فالجزية ونمنعهم.
قال: فإن لم يعطها؟
قال: نؤذنه بالحرب، ثم نقاتله.
قال: فما منزلة من يجيبكم، ويدخل في هذا الأمر اليوم؟
قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا، ووضيعنا، وأولنا، وآخرنا.
قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر، والذخر؟
قال: نعم وأفضل.
قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا، وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب، والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة، ونية كان أفضل منا.
فقال جرجه: بالله، لقد صدقتني، ولم تخادعني، ولم تآلفني؟
قال: تالله لقد صدقتك، وإن الله وليّ ما سألت عنه.

فعند ذلك قلب جرجه الترس -فهو حتى هذه اللحظة على استعداد للقتال ولكنه بعد أن سمع هذا الكلام وبعد أن دعاه خالد إلى الإسلام- قلب الترس ومال مع خالد وقال: علمنى الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين وحملت الروم مع انقلابه مع خالد، فركب خالد وجرجه معه، فضرب فيهم خالد، وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، وصلى المسلمون صلاة الظهر، وصلاة العصر إيماء وأصيب جرجه رحمه الله.

وسبحان الله استشهد رحمه الله، ولم يصل إلا الركعتين اللتين صلاهما عندما أسلم.


هذه هي الدعوة بمفهوم الصحابة رضي الله عنهم، فليس هناك على الإطلاق ما يمنع من الدعوة، إن إيمان الأفراد أغلى عند الصحابة من كنوز الدنيا كلها، والعدو الكافر الذي يبغضونه ينقلب أحب الناس إلى قلوبهم، إذا آمن بالله تعالى، فهم رضي الله عنهم يحبون الخير لأهل الأرض جميعًا، ويعرفون مهمتهم بوضوح تام، وهي تعبيد الناس لرب العالمين، ووظيفتهم استنقاذ الناس من نار الجحيم.


ماذا لو قاتل جرجه في صفوف الرومان؟
ماذا لو لم يفرغ له خالد رضي الله عنه من وقته، وجهده، وفكره، ودعوته؟
ماذا تكون النتيجة؟

كان سيصبح من قتلى الرومان، مجرد واحد من قتلى الرومان في موقعة اليرموك، وتكون حياته قد انتهت على حرب ضد الإسلام والمسلمين.

هذا هو الفرق الشاسع بين الدعوة إلى الله تعالى، وبين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ماذا لو فقدت هذه الأمة هذه الصفة النبيلة؛ الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ماذا لو فقدت الأمة هذه الصفات الرائعة؟


هذا هو مفهوم الدعوة عند الصحابة، هذا هو فقه الدعوة إلى الله عز وجل وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى قدر هذا الفقه كان عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
لذلك سبق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.


نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداه مهديين، وأن يبصرنا بسنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 27
  • 5
  • 48,947
المقال السابق
(10) الصحابة والأخوة
المقال التالي
(12) الصحابة والتوبة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً