برنامج تقويم الدعاة

منذ 2014-05-03

يحتاج المرء دائمًا إلى وقفة تقويم متكررة يراجع فيها جوانب تكوينه الشخصي وسلوكه وإنجازه، ويتأكد ذلك بشدة في حق الدعاة إلى الله الذين هم القدوة العملية المتحركة بتلك الدعوة أمام الناس، وهم الصف المتقدم للدفاع عن الدين وحماية عرض الأمة...

يحتاج المرء دائمًا إلى وقفة تقويم متكررة يراجع فيها جوانب تكوينه الشخصي وسلوكه وإنجازه، ويتأكد ذلك بشدة في حق الدعاة إلى الله الذين هم القدوة العملية المتحركة بتلك الدعوة أمام الناس، وهم الصف المتقدم للدفاع عن الدين وحماية عرض الأمة، ونشر البلاغ وأداء أمانة البذل لله والعطاء في سبيله، فالداعية إلى الله يجب أن يراجع خطته العملية والعلمية التي ينبغي أن يكون قد وضعها لنفسه ليحقق ما أراده من قرب إلى ربه وتصحيح لمسار عمله وتطوير لآليات دعوته مع تعديل لسلوكه الشخصي وتقويم لذاته ودواخلها وعلاج لأمراض نفسه وقلبه وتجديد العهد مع ربه وتجلية القلب من ران الذنب وتكاثف البخار الأسود لرغبات الدنيا الزائلة.. يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ‌ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ‌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
 إنها دعوة لتقويم الذات سلوكيًا ونفسيًا وتطبيقيًا وقد قسمتها إلى نقاط أساسية أحاول بيان المطلوب منها في إيجاز:

أولًا: التقويم النفسي:
وأعني به مراجعة وتقويم أمرين أساسيين:
أولهما دوافع السلوك والثاني تفاعلات القلب، فأما دوافع السلوك فهي تلك الدوافع الكامنة وراء كل سلوك تجتمع معه فتكون الفعل الظاهر العملي في الخارج، فلكل فعل دافعية تدفعه نحو الخروج إلى عالم التنفيذ وقد أمر الإسلام بمراجعة تلك الدوافع قال الله سبحانه: {وَمَا أُمِرُ‌وا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. فالعمل العبادي هنا لابد أن تدفعه دافعية الإخلاص الكامل لله وحده لاشريك له، ومن ثم فحديث النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن الحساب على ما وقر في القلب وخرج في الفعل لا ما ظهر من السلوك فحسب فيقول صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، فأصل التقويم هو تقويم ذلك الدافع الذي يجب أن يكون خالصًا لله سبحانه وابتغاء الدار الآخرة، والداعية إلى الله سبحانه إذا كانت دافعية سلوكه دومًا ابتغاء رضا ربه وامتثال لأمره فهو الناجح الذي سيظل في إنجازه وتقدمه وإذا سقط إلى هاوية رغبات الهوي وابتغاء رؤية الناس ومديحهم له أو افتخار لقدر نفسه أو أن يكون فعله عادة تعودها أو أن دعوته إلى الله واطأت رغبة محمومة في نفسه بالتقدير أو التوقير أو صحبة قوم بأعينهم أو مصلحة ذاتية معينة فعنذئذ قد خاب عمله وساء سعيه وفشل مراده فلن يجني من تعبه إلا الحنظل المر والشوك الدامي إذ إنه استحب العاجلة على الآجلة الخالدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أصحاب السنن «رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب» والأمر ههنا مطرد في كل عمل، وعمل الدعوة من باب أولى فهو نوع عبادة أيضًا فنستطيع أن نقول أيضًا أنه: رب داعية متحرك ليس له من دعوته ولا من حركته إلا الجهد والتعب...

وهناك أمر آخر خفي أحب أن أنبه إليه الدعاة إلى الله أن ينتبهوا له ويحذروا منه وهو أن بعض العاملين في ساحات العمل الدعوي يعتادون عملهم كعادة متعودة لهم، فيلقى ذلك في نفوسهم رضا وراحة حيث يدعوهم الناس بأسماء أهل العلم (كالشيخ والأستاذ والمعلم والداعية.. إلخ) ويسألونهم في مشكلاتهم، ويوقرونهم في مجالسهم ويدعونهم في مأدباتهم ويثنون عليهم، والناس بطبيعتهم يحبون الصالحين، فقد يجد ذلك استحسانًا في قلب بعض الدعاة فيكون عملهم رجاء تثبيت هذه المكانة والرفعة من ذلك القدر وتحصيل هذا المقام وليس ابتغاء رضوان الله الواحد القهار، فيتحول عمله إلى تجارة دنيوية نتاجها بوار وخسران، وربما يكون ذلك هو تفسير استمساك بعض الدعاة بكثرة عدد الحضور في مجالسهم وتغير وجوههم عند ذكر الآخرين من الدعاة الذين يكثر تلاميذهم، وربما يكون هو كذلك سبب استمساك البعض بتلك الأنماط المعروفة من الملبس وطريقة الحديث والمعاملة تشبها بالعلماء والدعاة الكبار، ولست أقصد أن أعيب التشبه بالصالحين فالتشبه بهم منقبة خير ولكنني أحذر الدعاة إلى الله أن يكون عملهم نمط ظاهر لا إخلاص فيه ولا إنابة منه ولا تحصيل لثواب في الآخرة، وقد كان العلماء الصالحون لا يحرصون على الخير من الدنيا بحال بل ولم يكونوا يستحبون كثرة الأتباع في الطرقات ولا أن يقال أنه صالح أو أنه عالم أو أنه كذا أو كذا: قال الشافعي رحمه الله:

أحب الصالحين ولست منهم *** عسى أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي *** وإن كنا سواء في البضاعة

وأنشد أحمد يومًا بعدما أغلق على نفسه بابه:

إذا ماقال لي ربي  *** أما استحييت تعصيني
تخفي الذنب عن خلقي
 *** وبالعصيان تأتيني

وأما الأمر الثاني: فهو تقويم تفاعلات القلب وعلاج أمراضه، فإن الله سبحانه قد أمر بتطهير القلب وتزكيته وتخليصه من درنه ومرضه، قال ابن القيم رحمه الله: في قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‌} [المدثر:4]. جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا هو القلب، بل قال سبحانه عن الفاسدين والمبعدين عن رحمته وفضله {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِ‌دِ اللَّـهُ أَن يُطَهِّرَ‌ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَ‌ةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة من الآية:41]. فجعل عدم تطهير تلك القلوب من أهم الأسباب الموجبة للعذاب،  قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ» (رواه البخاري ومسلم).
وقال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
[الجمعة:2]. فقدم التزكية على التعليم من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إليها، فالأصل هو: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد، وقد علمنا الشرع الحنيف أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خرج من قلب سليم فقال سبحانه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89،88].  والقلب السليم هو الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وخلص عمله له وهو السالم من كل شبهة وشهوة تخالف أمر الله وخبره سبحانه وتعالى،  ومن ظن أن أشد ابتلاء العبد هو ابتلاؤه في جسده فقد أخطأ إنما هو ابتلاء القلوب قال الله سبحانه {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِ‌كُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران من الآية:154]. وقال سبحانه {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ} [الحجرات:3].

 

وتفاعلات القلب هي صراعاته التي تحدث في داخله بين مراداته الصالحة وطغيان أمراضه الخبيثه، فأيهما ينتصر؟! ولذلك فإنك قد تجد أن بعض الدعاة قد تحسن له صفة وتسوء له أخرى، بل أنه في بعض الأحيان يظهر بصورة الحليم الكريم وفي بعضها الآخر يبدو في صورة العتل الغليظ الصاخب الغضوب البخيل، وماذلك إلا لغلبة مرض القلب في بعض الأحيان على مراده الصالح، ولذلك فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نهتم بتقويم ذلك الصراع وتلك التفاعلات القلبية فقال صلى الله عليه وسلم: «ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب» (صحيح البخاري)، وقال «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه ناداه الله على رؤس الخلائق يزوجه من الحور كيف يشاء» (حسنه الألباني) وعلّم أن من ترك المراء وهو محق فله بيت في ربض الجنة... إلى غير ذلك، بل في بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم قد شرح لنا وفصل جانبًا من ذلك التفاعل وكأننا نشاهده رأي العين فقال في حديث حذيفة عند مسلم «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكته سوداء وأيما قلب ردها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه وأبيض مثل الصفا لا يضره شىء ما دامت الأرض والسماء» وكل هذا التفاعل نحن عنه غائبون ولا ندري ما يحدث في ذلك القلب، ولكن صاحبه يدري به ويستشعر أثره فراقب ربك يأيها الداعية إلى الله واحرص أن يكون رجاء الله دائما هو الغالب وعالج قلبك واكبح جماح نفسك وعالج هواها من قبل أن يأتي يوم {لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة من الآية:254].

 

ثانيًا: التقويم السلوكي:
ونحب أن نؤكد فيه على أمرين أساسيين:
 أولهما: تقويم الأخلاق العامة وثانيهما تقويم أخلاق أهل العلم والدعاة، الإسلام دائمًا يحث المسلم على إتباع الخلق الحسن كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ‌ بِالْعُرْ‌فِ وَأَعْرِ‌ضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].  وأهم ما في السلوك أن نكون قدوة عملية تطبيقية للخلق، وخلق المسلم منبثق من شريعة الله عز وجل ومن أوامر الدين لأن الخلق عند الغربي هو خلق نفعي وخلق مؤقت أي أنه خلق يتوقف على الحالة التي يكون عليها الإنسان  فهذا إن لاق بالغربي النفعي فلا يمكن أن يليق بالدعاة إلى الله بحال، فلا ينبغي أن يكون سلوك الدعاة نفعيًا أو قريبًا من النفعية أو مُتعلقًا بمصلحة دنيوية زائلة .

 

ولا ينبغي أن ننظر إلى الأخلاق على أنها مجرد فضائل للتحلي فإن ذلك يعد نظرة ضيقة جدًا لحقيقة ما يجب أن يكون عليه خلق المسلم  وهناك قاعدة تبنى عليها قواعد التعامل الأخرى، وهي قاعدة حسن الخلق، ويبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه القاعدة بقوله «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (حسنه الألباني). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق»، فالخلق في الإسلام فرائض فرضها الله سبحانه وتعالى، وليست فضائل فحسب. كما أن الخلق يمثل أوامر ونواهي حيث نهى الله عن الغيبة، والكذب، وغش الناس، وشهادة الزور وهذه النواهي تعادل الأوامر حيث أمر الله بحسن التعامل مع الناس والأمانة، وكذلك الصدق معهم وبالتالي فإن خلق الإسلام عبارة عن أوامر ونواهي وهذا هو الجانب الذي تأخذه من إطار الإسلام العام، وأني لأتعجب من بعض الأدعياء عندما يهتمون بمظهرهم الخارجي مع اتصافهم بصفات السوء تلك فكيف يقبل الناس نصحا من داعية تاجر يغش تجارته ويحرص على الربح فيها بأي وسيلة ويكذب في بيعها؟ وكيف يقبل الناس نصحا من آخر يعمل يشهد زورا ليبرىء نفسه أو يحلف كذبا ليرفع قدره أو يسمح بأن يشتهر عنه قراءة كتب معينة أو حفظ متون معينة أو التعلم على يد شيوخ معينة وهو لم يفعل من ذلك شيئًا أبدًا.. إلا رجاء الشهرة البغيضة، ثم يكتشف الخلق الشينة فيهلك مرتين !!

 

 ولخص أحد الحكماء صفات حسن الخلق فيما يلي هو أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، برًا وصولًا، وقورًا صبورًا شكورًا رضيًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعانًا ولا سبابًا، ولا نمامًا، ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا، ولا بخيلًا ولا حسودًا، بشوش، يحب في الله، ويبغض في الله، يرضى في الله، ويغضب في الله" فمن عرض نفسه من الدعاة على ذلك فوجد نقصًا فليجهد نفسه للاتصاف به وتعلمه والتدرب عليه ومن وجد خيرًا فليثبت عليه وليحسنه وليلزمه مع الجميع..

 

 والعرف والتقاليد جزء من تكوين شخصية المسلم ولكنه ذلك العرف الذي لا يتعارض مع كتاب الله أو سنة نبيه، فالكتاب والسنة أولًا ثم تأتى الأعراف والتقاليد إذا اتفقت مع أوامر الله ونواهيه، وكذلك أوامر الرسول ونواهيه. أما إذا اختلفت مع ما في دين الله سبحانه وتعالى من كتاب وسنة فتلغى تمامًا ولا تكون و إلا كانت عصبية وجاهلية،  ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من كرائم الفضائل والخلال. واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب والعقول من القاصي والداني مع اختلاف تقاليدهم وتباين عاداتهم، قال على بن أبي طالب: "كان أجود الناس كفًا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من رآه بديهة هابة. ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده".

 

وأما الثاني فهو أخلاق أهل العلم والدعاة: وأخص بالذكر منها أداب الخلاف والعمل بمقتضى القول،  فهي التي استشرى أثر التخلي عنها وكثر القيل والقال بسبب غيابها، فقد يتحول الخلاف عند البعض إلى شحناء وبغضاء، وإلى تنافر وتباعد؛ بل قد يؤدي بهم إلى كبائر الآثام، إن السلف الصالح قد تربوا على آداب الإسلام وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلجوا باب الاختلاف؛ فلما اختلفوا ساد في أوساطهم الحب والتراحم والتناصح، لكن بعضنا تعلم الاختلاف قبل أن يتربى على آداب وأخلاق الإسلام؛ فأحس أن ثمة معركة تستخدم فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة من أجل الانتصار وإفحام المخالف، ونحن بحاجة إلى التأكيد على بعض الآداب الهامة وتقويم سلوكنا في ضوئها، حتى لا نصبح صياحين في كل واد وناد حول اختلافات العالم الفلاني أو اجتهادات العالم الآخر، ولنعلم أن المجتهد الذي استوفى شروط الاجتهاد مأجور على أي حال ؛ فهو مأجور أجرًا واحدًا إن أخطأ، ومأجور اجرين إن أصاب، وكذلك العامي الذي يقلد مجتهدًا كبيرًا استوفى شروط الاجتهاد العلمية والخلقية في مسألة معتبرة الخلاف، وما دام المجتهد قد استفرغ الجهد والطاقة في الاجتهاد، والعامي استفرغ الجهد والطاقة في البحث عن المجتهد المستوفي شروط الاجتهاد؛ فلا مكان أن يعيب على أحد منهما أو يسفه رأيه أو يغمزه في دينه أو عرضه، قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: "أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب".

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًا ولا جهرًا. وصلَّى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلَّى خلفه أبو يوسف ولم يُعِد... وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟"

 

فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، لا سيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، ولذلك فإن علماء السلف كثيرًا ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجًا من الخلاف والنزاع، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقًا لذلك.

 

كذلك فإن محاولة احتكار الصواب خطأ آخر يجب تقويمه، فقد رفض الإمام مالك عرض أبي جعفر المنصور عليه بجعل كتابه "الموطَّأ" مرجعًا وحيدًا للمسلمين، وقال للمنصور: "يا أمير المؤمنين، لا تفعل، إنَّك إن فعلتَ ذلك شققت على المسلمين"، وقال عمر بن عبد العزيز: "ما يسرُّني أنَّ أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنَّهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاّ، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا، كان في الأمر سَعة."


كذلك فإن التزام الدعاة بأقوالهم وتطبيقها عمليا هو لب دعوتهم وقلبها السلوكي النابض وأقصد بذلك أن يطابق قول الداعي عمله، وأن يتمثّل ما يقوله عملًا وسلوكًا ومنهاج حياة، وأن لا يخالف في عمله بالجوارح والمقاصد ما يقوله بلسانه، فقد قال الله تعالى على لسان شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود من الآية:88]. وعن  أسامة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (رواه البخاري ومسلم)، والداعية إلى الله يدعو بالبيان القولي والعملي لا يمكن أن ينفصلا بحال، والقدوة أبلغ من القول إقناعًا وأعمق تأثيرًا، ومن أهم ذلك استمرارية التطبيق وعدم الانقطاع عن الصالحات من الأعمال فإن المنقطع عن العمل قدور منبتة وصورة مشوهة للعمل الدعوي الفاضل َقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» (رواه البخاري ومسلم) .

 

ثالثًا: التقويم الدعوي وتقويم الإنجاز:
كذلك فإن الدعاة في حاجة ماسة إلى تقويم مستمر ومراجعة لعملهم الدعوي وبرامجهم الدعوية ويحتاجون إلى نظرة متفحصة لما أنجزوه خلال أيامهم السابقة، وهنا أحب أن أشير إلى مفهوم حديث ثابت صحيح قد اتشر الاستدلال به في غير موضعه  وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الرجل ومعه الرجل ويأتي الرجل وليس معه أحد» يعني من الأنبياء يوم القيامة، فمنهم من يقل أتباعه لهذه الدرجة، وهنا بيان لصورة من صور انتصار الدعاة إلى الله وهو الانتصار بالثبات على النهج الرباني والصلابة على الدعوة إلى الله مهما رغب عنها الناس وفروا منها، وليس في ذلك أبدا دعوة للكسل والتكاسل والتصرف بغير مراعاة لإنجاز الدعوة ولا للاهتمام بالمدعوين وصلاحهم، فالأنبياء جميعهم نحن نؤمن يقينًا أنهم أدوا الأمانة وبلغوا رسالتهم ويذلوا في سبيلها حياتهم كلها ونافحوا لأجلها وأعطوا وقدموا ما استطاعوا في سبيل ذلك واتخذوا كل سبيل وكل طريق لذلك.. فهل بعد ذلك مقارنة بين أحوالنا نحن الكسالى عن الدعوة إلى الله وهم المجتهدون الباذلون؟ بل انظر إلى ذلك النبي الكريم نوح عليه السلام وهو ممن يأتي وما آمن معه إلا قليل-  كيف يصف الله سبحانه عمله وبذله فيقول الله تعالي {قَالَ رَ‌بِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارً‌ا.فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَ‌ارً‌ا.وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ‌ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّ‌وا وَاسْتَكْبَرُ‌وا اسْتِكْبَارً‌ا.ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارً‌ا.ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَ‌رْ‌تُ لَهُمْ إِسْرَ‌ارً‌ا} [نوح:5-9].

 

فالداعية إلى الله يجب أن يراجع إنجازه على مستويين الأول رأسي وهو مدى تقدمه العلمي والثقافي وتقدم مواهبه وحصوله على المعلومات المتدفقة المختلفة التي أثرت فكره ورفعت مستواه العلمي والفقهي ولحديثي والواقعي، والثاني أفقي وهو مدى قدرته على إقناع الآخرين بدعوته ومدى الاستجابة له، ومدى قدرته على التأثير في مجتمعه، وبالعموم فعملية تقويم الداعية لموقفه الدعوى هي حكم كيفي على دوره وقيمته وأنشطته،  ومدى تحقيقه للأهداف المحددة له و قياس نوعية سلوكه بما يتناسب مع الأعمال المنوطة به، و كذلك قياس النتائج التي تحققت من تنفيذ الأساليب التي انتهجها طوال الفترة السابقة وهي لازمة له بشكل دوري ومنتظم.

 

  • 1
  • 0
  • 4,676

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً