حديث عن التطوير

منذ 2014-05-06

إطلالة عام هجري جديد يرتدي فيها (المسلم) ثوب التطوير، وهو يرى في تقلب الأيام والسنين فرصة للمراجعة والاستدراك في العمل، والتحسين قدر الإمكان في عصر يولد فيه في كل صباح يولد عالم جديد يطرح عنا كثيرًا مما كان بالأمس، ويستقبل غده بأمل بقفزة جديدة في العلم.. في التقنية.. في الاكتشافات..

إطلالة عام هجري جديد يرتدي فيها (المسلم) ثوب التطوير، وهو يرى في تقلب الأيام والسنين فرصة للمراجعة والاستدراك في العمل، والتحسين قدر الإمكان في عصر  يولد فيه في كل صباح يولد عالم جديد يطرح عنا كثيرًا مما كان بالأمس، ويستقبل غده بأمل بقفزة جديدة في العلم.. في التقنية.. في الاكتشافات.. دون أن يوازيه في إدراك الحقيقة جهود موازية تسعى إلى هداية الناس سبيل ربهم وطريق سعادتهم.. ومن هنا كان للتطوير دوره في اللحاق بهذا العالم الذي يمضى تمضي به مركبة التطوير إلى عالم المجهول دون بصيرة، بعد أن أضحى التطوير هو هواء العالم الذي يتنفسه، دون أن يكون هذا الهواء نقيًا أو تنيره قبسات شمس الرسالة..

التطور سنة الحياة على هذه الأرض، وهو حقيقة السبق في زمن بات التطور فيه يقاس بدقيق الوقت، أما التطوير فهو ميدان السباق في عالم لا يرحم فيه متردد، فضلًا عن مُتخلف أو متقاعس، والتطوير في حس المسلم اجتهاد في حق شكر الواهب جل وعلا على ما أنعم به على عباده المؤمنين، والقيام بأمانة الدعوة والسعي في صيانة الحرمات.. التطوير هو الانتقال بالأمر من طور إلى طور، ومن طبق إلى طبق، ومن كمال إلى ما هو أكمل، ومن تمكن إلى تمكن أعلى وأقوى، وقد عرف عصرنا تطورًا هائلًا في مختلف الفنون والعلوم أسهم فيه المسلمون بحظ وافر سُجل منه ما سُجل، وسرق منه من الجهود الكثير الكثير، شأن ذلك شأن سرقة مفهوم التطوير ذاته وصبه في قالب منسلخ عن الشرائع والقيم حتى من قيم الفطرة.. ومنذ أن دخل نابليون مصر والعالم الإسلامي يشهد جريمة مزدوجة جريمة تعويق التطوير، وجريمة رمي المسلمين بالتخلف، وفي هذا لبس للحق بالباطل لا زال يلوكه بعض بني جلدتنا.. رغم أنها أصبحت موضة قديمة..

فلو ترك المجال للمسلمين لرأينا حضارة تسعد بها البشرية أجمع.. ولكن يحال بينهم وبين البحث والعلم والنفاذ إلى سر العلوم، ويستأصل نبوغاتهم المستمرة حينًا بالتصفية الجسدية وحينًا باجتذاب الطاقات، وحينًا بممارسة شتى الضغوط من أجل إيقاف التطوير في مجالات مختلفة، ومع هذا فالمسلمون مطالبون بالاستباق.. وروح التطوير متى ما هبت ووافقت عودة إلى دين الله حصلت الطفرة -إن شاء الله- والتطوير في حسنا درجة راقية من النصح في الدين وعبور آمن نحو المستقبل.. لا شك أن العالم كله بانتظار مثل هذه اللحظة، خاصة وهو يقف اليوم على أعتاب مرحلة مجهولة لا يمكن لأحد بناء رؤية حول طبيعتها.. والمشكلة أننا كمسلمين لا نملك أحيانًا إرادة التطوير، ولا نملك جملة مؤسسات لصناعة التطوير.. اللهم إلا جهودًا فردية أو تجارب ضيقة.
والأمر باختصار لأن البعض يرى في التطوير اشتغالًا بالمفضول عن الفاضل، أو شكلًا من أشكال الترف، بينما ينغمس آخرون في تغيير سطحي لا ينال العمق، ولا يبلغ به القصد.. ولعل هذا الذي يجعل منه ترفا في عين الأولين..

وقد كان العذر من قبل مقبولًا في بعضه، حين مر عهد بنا رأينا بعض المخلصين ينفرون من لفظ التطوير، لمجرد أن الذي يحمل رايته بحق أو بباطل بعض من يخلطون الحق بالباطل عن قصد أو عن غير قصد.. ولهذا وقف كثير من المخلصين حينا مترددين من التطوير خشية الخطأ، مع أن المخطئ في قبيل الاجتهاد وإرادة الخير مأجور.. والإقدام في مظنة الخير خير من الإحجام في كثير من الأحيان، لأن الخيرات تستبق.. والمسلمون مندوبون إلى استباق الخيرات، وإتقان العمل، والسير في الأرض والاعتبار بما فيها ، والنظر في ملكوت السماوات والأرض.. ثم استخلاص العبر في ترشيد الجهد، بتسديده وتقليل المهدر منه..

ولهذا إذا فشا الالتباس ضاقت أحوال الناس حتى يخرج لهم علماء ربانيون يعرفون وينكرون، ويستهدي الناس بعلمهم، فلزوم الحق يهب الإنسان بصيرة والاجتهاد والسعي يعطيه قوة فإذا اجتمعت القوة إلى البصيرة، حصل الخير الكثير ونعم العباد، وجلا الحق، ودحض كثير من الباطل..
واليوم نحن في عصر تسري فيه مقولة: من لا يتطور سيندثر.. أو ربما ينزوي.. وهذه المقولة فيها وعليها وأبلغ رد عليها أن يتنادى المخلصون، وتتكاتف الجهود لنهضة وتطوير دائب دائم يدفع الضرورة ويلبي الحاجة، وينهض بفروض الوقت بل والمستقبل..
والتطوير هو جملة من الجهود التي تستند إلى جملة من المعطيات، فإذا استندت إلى حقائق الشهود والوجود كانت في الطريق الصحيح.. لطالما رمي الدعاة والعلماء بالتخلف لرفضهم أن يركبوا قطار التغيير باسم التطوير، فلما مارسوا التطوير في بعض جوانبهم ورأوا الناس ثمرة ذلك استقر في خلد كثير منهم قيمة هؤلاء وقدر ما معهم من الحق، واستبان عوار شانئيهم، خاصة بعد أن جنوا بمسالكهم الهزيمة والضعف والتخلف لتجاربهم.

إن التفريق بين الأصالة والمعاصرة شرك ينصب للشغب على المخلصين، وشغلهم في معارك هامشية بعيدًا عن طبيعة دعوتهم ومقتضاها، ولا سبيل إلا بانطلاق المعاصرة من الأصالة، فالناس في حقيقتهم لا يحترمون من يتخلى عن أصله، ولن يكون له ذكر ما لم ير الناس أن أصالته تستحق البقاء والحياة، ومن الظلم لدين الله وهو الدين الحق، ألا ننهض بذلك من بين ما ننهض به.. وقد رأينا كيف أكسب التقدم والتطوير الدعاة احترامًا وقبولًا لدي شرائح كانت ترى في مسلكهم تخلفا عن العصر.. وأظهرت حسن ما عندهم من حق وخير، وفكت التلازم المصطنع بين التحديث وبين التخلي عن أصالتنا، وقد رأينا بين من يحمل هم هذا الدين أصحاب الأطروحات الشهيرة والنظريات الحديثة والإنجازات الضخمة التي يقف أمامها العالم باحترام بينما يتسول أدعياء التطوير أفكارًا بالية أو قضايا تافهة، يشغلون بها الشباب..
لا ينغي لمثل هذه  الإثارات الهامشية أن تعطل الجهود عن حديث النهضة، لأنها استعارات المتسولة من التجربة الغربية، والأصل أنه لامعاصرة بالفعل إلا بأصالة، لأن من يفقد أصله لا خير فيه لنفسه ولا يصلح لأن يكرر غيره إذ هو عملة مزيفة والعملة المزيفة منفية بكل أدوات النفي..

كانت الهجرة لونًا من التغيير والتطوير في دعوة الإسلام، من مختلف الوجوه، ولهذا عدت لونًا من التمكين رغم ما قابل حملتها من أهوال.. لكن بقيت نقلة فريدة في عمر الدعوة وفي سيرها وأدائها.. واليوم ونحن نتلمس حكمة الهجرة ودروسها، يحسن أن نرى هذا التطوير الذي يحتاج بلا شك إلى مواصلة للجهود، لتحقيق ما هو أكبر.. وأعمق..
والتطوير هو رسالة المسلم في هذه الحياة.. يسعى بكلمة الله إلى خلق الله على ما يحب الله تعالى.. بكل وسعه وبالغ جهده واجتهاده، وهو ثمرة للتأمل والتدبر والمحاسبة وأخذ النفس بالاجتهاد، واتقان العمل، وعدم الركون إلى المتحقق العمل ولهذا لا يتحقق التطوير الحقيقي إلا من مخلص لفكرة تملأ عليه نفسه وتقتات على فكره وجهده..

وما أبدع الاقتباس من كلام ابن القيم رحمه الله وهو يحقق لنا معنى شديد الصلة بالتطوير حين يقول: في تحقيق مفهوم الفرار إلى الله: وأبعد الفرار: الفرار من الرسوم إلى الأصول، ومن الحظوظ إلى التجريد، فإن أرباب العزائم لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها، ولا يعتدون إلا بأرواحها وحقائقها، وهذا القدر الذي فات الزنادقة وقطاع الطريق، فإنهم لما علموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة أرواحها، لا صورها وأشباحها ورسومها وظواهرها، بل الاشتغال برسومها اشتغال عن الغاية بالوسيلة وعن المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره، وغرهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها. فرأوا نفوسهم أشرف من نفوس أولئك، وهممهم أعلى، وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر. فتركب من تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل.

وجملة الأمر: أن هؤلاء عطلوا سره ومقصوده وحقيقته وهؤلاء عطلوا رسمه وصورته. فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته، من غير رسمه وظاهره... والقائمون بهذا وهذا هم الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم. وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح... فهؤلاء أهل الإيمان وأهل العلم والعرفان..
وهكذا حال كل من فرق بين ظاهر العمل وباطنه تفريق من يأخذ بعضًا ويترك بعضًا رغم ما بينهما من تلازم.. وهو فحوى حديثنا عن التطوير..

  • 0
  • 0
  • 2,248

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً