تجنيد المخبرين على النت

منذ 2014-05-06

ما يهمنا في الحقيقة هو التأكيد أن الإنترنت لم يعد نافذة على العالم فحسب، بل صار يشكل وسيلة خطيرة للدخول إلى خصوصيات الآخرين وبالتالي تم استغلاله لأغراض مخابراتية عسكرية محضة، هذا شيء لا يختلف عنه أحد اليوم أساساً.. الجاسوس أو العميل هو نفسه الخائن في كل اللغات، هو الشخص الذي يعي أنه يختار الجهة المضادة لأسباب مادية وأحيانا ثأرية، وهؤلاء يفعلون ذلك عن مغامرة وعن سقوط إرادي، لكن الذي يجري أن "العميل" الراهن لا يعرف الدور الذي يقوم به. لا يعرف أنه يخون ويبيع أسرار بلده. لا يعرف أنه ضحية حوار غير برئ، ولا يعرف أن كل كلمة يقولها تمر على عشرات المحللين النفسانيين وأنه هو في الأخير فأر تجارب في عالم متناقض ومشبوه...

وقائع غريبة نشرتها قبل مدة جريدة (لوسوار) البلجيكية، ربما كانت ستمر مرور الكرام لولا أن مجلة (لومجازين ديسراييل) -المجلة اليهودية الصادرة في فرنسا- نشرت قبل أيام فقط ملفاً عن "عملاء الإنترنت!" والذين في الحقيقة يشكلون اليوم إحدى أهم الركائز الإعلامية للمخابرات الإسرائيلية والأمريكية على حد سواء.

 

إنهم أشخاص لا يعرفون أنهم يفعلون شيئا خطيرا، يفتحون الإنترنت، وبالتحديد صفحات الدردشة الفورية لقضاء الساعات في الكلام عن أشياء قد تبدو من أول وهلة غير مهمة، وأحيانا تافهة أيضا، لكنها تشكل أهم المحاور التي تركّز عليها أجهزة استقطاب المعلومات في المخابرات الإسرائيلية و الأمريكية؛ لأنها ببساطة تساعدها على قراءة السلوك العربي، سلوك الفرد وبالخصوص الشباب الذين يشكلون على العموم أكثر من 70% من نبض الأمة العربية.


في سنة 1998م، حين اجتمع ضابط المخابرات الإسرائيلي (موشي أهارون) مع نظيره الأمريكي في مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لم يكن الأمر يعدو اجتماعاً روتينياً، كان فيه الجانب الأمريكي يسعى إلى الحصول على الحقائق اللوجستيكية التي من عادة المخابرات الإسرائيلية تقديمها للأمريكيين عن الدول المتهمة قبلا بـ "محور الشر"، بالخصوص التي تطلق عليها إدارة البيت الأبيض بالدول المارقة. 

 

لكن الجانب الإسرائيلي كان يبحث عن الدعم اللوجستيكي غير المعلوماتي، بل المادي لتأسيس مكتب ظل في الحقيقة بمثابة الأمل الكبير لـ "موشي أهارون" الذي كان من أبرز الوجوه الإسرائيلية المختصة في الشؤون الأمنية العربية.


كان وراء عمليات اغتيال طالت شخصيات فلسطينية في تركيا ونيروبي وساحل العاج وتونس ودول أخرى أوربية مثل يوغسلافيا سابقاً، وأسبانيا وإيطاليا. 

 

فكرة المكتب كانت تتأسس على نقاط مضبوطة مسبقاً، وبالتالي تبدو واضحة وسهلة: تأسيس مكتب مخابراتي متحرك/ثابت عبر الإنترنت. كان الأمر على غرابته أول الأمر يبدو مثيراً للاهتمام بالنسبة للأمريكيين الذين اشترطوا أن يكونوا ضمن " الشبكة".

 

مادياً، لم تكن إسرائيل قادرة على ضمان "نجاح" تجربة مخابراتية عبر الإنترنت من دون مساعدة أمريكية عبر الأقمار الصناعية وعبر المواقع البريدية الأمريكية التي تخدم بالخصوص " الشات" بكل مجالاته والتي يقع الإقبال عليها من قبل الشباب وبالخصوص من قبل شباب العالم الثالث في القارات الخمس.

 

بتاريخ 1 مايو 2002م تم الكشف لأول مرة في جريدة (التايمز) عن وجود شبكة مخابراتية تركز اهتماماتها على جمع أكبر عدد من " العملاء" أولاً، وبالتالي من المعلومات التي يعرف الكثير من الأخصائيين النفسانيين المنكبين على المشروع كيفية جمعها، وبالتالي كيفية استغلالها لتكون معلومة " ذات أهمية قصوى"!

 

كانت العملية أشبه بفيلم هوليودي ذو تأثيرات سينمائية محضة، ومبالغات كتلك التي تتكاثف عليها الأفلام الحركية الأمريكية، لكن الحقيقة كانت أن مكتب (المخابرات عبر الانترنت) تأسس فعلا في سنة 2001م، تحت قيادة ضباط من المخابرات الإسرائيلية وكان يترأسه "موشي أهارون" نفسه، بمعية ضباط من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والذي امتد إلى العالم من خلال جملة من المعطيات التي كانت تتركز على نفس الهدف الأول: جمع عملاء شباب لخدمة إسرائيل الكبرى!



ما نشرته مجلة (لوماجازين ديسراييل) الصادرة في فرنسا يبدو مثيرا للكثير من الدهشة، ربما لأنها نقلت عن "ملفات سرية" الكثير من التفاصيل التي استطاعت أن تجمعها عن مصادر موثوقة في إسرائيل، بحيث إنها كما تقول المجلة "أخذت السبق في نشرها" وهو ما أثار في النهاية سخط السفير الإسرائيلي في فرنسا ضد المجلة اليهودية التي اتهمتها الكثير من الجهات اليهودية بأنها "كشفت أسرار لا يحق لها كشفها للعدو" وهو ما تراه المجلة نفسها: الحق في المعرفة! بين هذا وذاك كانت القضية الأخطر.


بالنسبة إلينا، لأهمية وخطورة هذه الإشكالية قمنا بدعوة أستاذين مختصين في علم النفس وعلم الاجتماع للتعمق في الموضوع، وهم: جيرالد نيرو (أستاذ في كلية علم النفس بجامعة بروفانس الفرنسية)، والدكتورة ماري سيغال (أخصائية اجتماعية، مختصة في السلوك البشري في جامعة "لوروا" بلجيكية)..


ماذا تعني "المخابرات الإنترنتية" Renseignements Internet:
يقول جيرالد نيرو (أستاذ في كلية علم النفس بجامعة بروفانس الفرنسية، وصاحب كتاب: مخاطر الإنترنت): " هذه شبكة تم الكشف عنها سنة 2001م، بالتحديد في مايو 2001م. هي شبكات يديرها مختصون نفسانيون إسرائيليون مجندون لاستقطاب شباب العالم الثالث وبالتحديد الشباب المقيم في دول المحور (محور الصراع العربي الفلسطيني) من جهة ومن جهة أخرى دول المحور الجنوب أمريكي (فنزويلا، نيكاراغوا... الخ)،

 

المسألة أخذت منذ سنوات هذا المنحنى المخابراتي انطلاقاً من جملة من العناصر التي صارت تتحدد عليها شخصية "العميل" من حيث كونه في العادة شخصية معادية للنظام القائم، وأحياناً شخصية عادية ليس لها اهتمامات سياسية لكنها تستطيع أن تعطي معلومات جيدة عن المكان والوضع، وهذا شيء مهم أيضاً...



يضيف جيرالد نيرو قائلاً: " في الحقيقة أن كل من له قدرة على استعمال الإنترنت لسد فراغ أو حاجة نفسية يعد "عميلاً مميزاً"؛ لأن المواقع التي تثير الشباب هي التي تمنحهم مساحة من الحوار ربما يفتقدونها في حياتهم اليومية، ناهيك على أن استعمال الإنترنت يضمن خصوصية معينة، بحيث أن المتكلم يحتفظ عادة بسرية شخصه، كأن يستعمل اسماً مستعاراً، وبالتالي يكون إحساسه (الرمزي) بالحرية أكثر انطلاقاً، ناهيك على أن تركيز الشباب لا يكون على الموقع نفسه، بل على من سيلتقيه للحديث معه (بالخصوص البحث عن الجنس اللطيف للحوار).

 

المسألة تبدو سهلة بالنسبة لضباط المخابرات الذين ينشطون بشكل مكثف داخل مواقع الدردشة، بالخصوص في المناطق الأكثر حساسية في العالم، ولعل أكبر خاصية يمكن اكتشافها في مستعملي الإنترنت في العالم الثالث هو الحاجة إلى الحوار، فعادة ما يكون مستعمل مواقع "الشات" شخصاً يعاني من البطالة اجتماعياً وفكرياً، وبالتالي يسعى إلى سد وقت الفراغ بالبحث عن " أشخاص آخرين" يشاركونه أفكاره.



ربما يعتقد بعض المستعملين للإنترنت أن الكلام عن "الجنس" مثلاً ضماناً يبعد الشبهة السياسية عن المتكلم، بينما الحقيقة أن الحوار الجنسي هو في الحقيقة وسيلة خطيرة لكشف الأغوار النفسية، وبالتالي لكشف نقاط ضعف من الصعب اكتشافها في الحوارات العادية الأخرى، لهذا يسهل "تجنيد" العملاء انطلاقاً من تلك الحوارات الخاصة جداً، والتي تشمل في العادة غرف النوم والصور الإباحية وما إلى ذلك، بحيث إنها السبيل الأسهل للإيقاع بالشخص ودمجه في عالم يسعى رجل المخابرات إلى جعله عالم العميل، أي أفيونه الشخصي!"
 

 

الدكتورة ماري سيغال التي تشارك معنا الحوار ترى شيئاً آخر، تقول: " عبارة المخابرات الإنترنتية (Renseignements Internet) مصطلح جديد على مسامع الآخرين، برغم من حقيقة وجوده. الأمريكيون اعتبروا قبل غزو العراق أنهم (يسعون إلى قراءة الشخصية العراقية) من خلال الإنترنت. أي استقطاب أكبر عدد من العراقيين بمختلف مستوياتهم لدراسة شخصيتهم وكان ذلك المشروع قيد البدء فعلاً، قبل أن تتسارع الأحداث بغزو العراق بتلك الطريقة.

 

من وجهة النظر العلمية فإن استقطاب المعلومات لم يعد أمراً معقداً، بل صار أسهل من السابق بكثير. ربما في السنوات العشرين السابقة، كان "العميل" شخصاً يتوجب تجنيده بشكل مباشر، بينما الآن يبدو "العميل" شخصاً جاهزاً، يمكن إيجاده على الخط، وبالتالي تبادل الآراء معه ونبش أسراره الخاصة أحياناً، وأسراره العامة بشكل غير مباشر.

 

هنالك حادثة غريبة نشرها ضابط المخابرات الإسرائيلي/ الأمريكي (وليام سميث) الذي اشتغل إبان الحرب الباردة ضمن فرقة (المخابرات المعلوماتية)، نشر في جريدة الواشنطن بوست قبل عامين أجزاء من كتابه (أسرار غير خاصة) عن تجنيد شباب عاطلين عن العمل من أمريكا اللاتينية، كان دورهم في غاية البساطة والخطورة عبارة كتابة تقرير عن الأوضاع السائدة في بلدانهم.

 

في الفصل السادس من الكتاب ذكر (وليام سميث) أن أحد الشباب الناقمين على النظام في إحدى دول جنوب أمريكا ذكر في إحدى اللقاءات على الشات لضابطة مخابرات كانت على الخط معه (عبر الشات) أن ثمة إشاعات مثيرة تدور بين الناس أن سعر البنزين وبعض المواد الغذائية سوف يرتفع في الأيام القادمة. فسألته الضابطة " وماذا يعني ذلك؟ كل يوم ترتفع الأسعار في العالم"، فرد عليها الشاب: أنت تمزحين، سيثور الناس هذه المرة ويقومون بثورة ضد النظام. كانت تلك المعلومة البسيطة والمهمة لا تعني أن الأسعار سترتفع، بل إن تسارع جهات من الخارج إلى رفعها وإلى إثارة الناس بشكل حقيقي عملية الفوضى عبرها، وهو الشيء الذي تم تنظيمه في جمهورية جورجيا حين تم الكشف عن شبكة تنشط عبر الإنترنت قامت بحشد مجموعة من النشطاء الذين استطاعوا أن يقوموا بعمليات كثيرة ضمن (الثورة الملونة) مؤخراً. 

 

ما يهمنا في الحقيقة هو التأكيد أن الإنترنت لم يعد نافذة على العالم فحسب، بل صار يشكل وسيلة خطيرة للدخول إلى خصوصيات الآخرين وبالتالي تم استغلاله لأغراض مخابراتية عسكرية محضة، هذا شيء لا يختلف عنه أحد اليوم أساساً.. تضيف الدكتورة ماري سيغال: "نحن نتساءل عمن يستعمل الإنترنت عادة؟ من الصعب الرد على السؤال؛ لأن الذين يستعملون الإنترنت تتراوح أعمارهم من السادسة إلى الثمانين عاماً، ولهذا يصعب تحديد أسباب الاستعمال خارج ما نسميه أساساً بالرغبة في كسر حاجز المسافة أولاً، وبالتالي في الحوار.


ما يثير اهتمامنا في المعهد البلجيكي للخدمات الإنترنت هو أن نركز على نقطة مهمة، وهي: لماذا نستعمل الإنترنت؟ هل لتصفح البريد أم لتصفح العالم؟ في هذه النقطة يجب القول: إن العالم لم يعد واسعاً طالما الإنسان الجالس في مقعده يمكنه زيارة واشنطن ونيودلهي في برهة عين، من دون أن يغادر مقعده. 

 

هذا شيء عظيم تم إنجازه، إلا أن النتائج كانت فادحة؛ لأن استغلال هذه الشبكة الضخمة تم تعريضه لعوامل خارجية على أساسها تحول الانترنت إلى "سد فراغ" أو تسلية سرعان ما انقلبت إلى مأساة حين عجز الإنسان عن فعل شيء سوى الدخول إلى مواقع الدردشة التي لن يخرج منها إلا بإحساس أنه أضاع وقتاً عليه تداركه بالدخول إلى دردشة أخرى من دون أن يسأل نفسه عن ماذا يجب أن يتكلم أساساً!

 


يتدخل الدكتور جيرالد نيرو معلقاً: "دعونا نتكلم عن الوضع السائد دولياً، لا يمكننا بأي حال من الأحوال فصله عن الوضع الشخصي للفرد، وهو الإحساس بالإحباط والضغط أيضاً. هذه عوامل خارجية في غاية الخطورة ساهمت فيها العديد من الجهات دولياً وإقليمياً وداخلياً، لهذا يعتقد الفرد أن هروبه إلى " السرية" في الحوار عن كل شيء بمثابة التخفيف عن ضغط حقيقي يصيبه يومياً، والتخفيف يتم في غرف الدردشة التي يوجد فيها من هم هناك لأجل الاستماع!

 

كل شخص يحتاج اليوم إلى من يصغي إليه. غرف الدردشة و" أبواب التعارف عبر الشات" عبارة عن عوالم أعطت للشخص احتياجات كثيرة منها أنه مسموع، لأول مرة في حياته يجد من يتحاور معه ويصغي إليه، ولهذا فأدق معلومة تبدو مهمة، بحيث إن جمع أكبر معلومات عن نفسية الأشخاص المستعملين لتلك الغرف.

 

هذا نجده بشكل كامل في كتاب  (غرف الشات المزدوجة)، والتي يعرض فيها الصحفي و ضابط المخابرات الإسرائيلي (دان شستاسكي) أن التركيز على فئة الشباب هي المهمة؛ لأن الشباب مندفع في الكلام، وبالتالي التعرف على الجنس اللطيف هو في الأساس ما جعل مكتب " المخابرات الإنترنتية يلجأ إلى تجنيد ضباط نساء من الشبكة، بحيث إن الطلب عليهن أكبر في العالم الثالث وفي الشرق الأوسط عموماً!

رؤية الحرب عبر الانترنت:
لم يقتصر الإنترنت على مجرد مواقع الشات والتحرشات الغريبة والتي يعتقد كل طرف أنه يحقق من خلالها حريته الشخصية أو ما صار يصطلح عليه "ديمقراطية" الفرد في الجماعة، وهو المصطلح الذي يعني أن الفرد في النهاية يؤسس بداية تكوين المجموعة، وهو في الحقيقة المعنى التروتسكي القديم الذي أدى في النهاية إلى إحداث الخلل في العديد من التركيبات الطبيعية لماهية الحرية نفسها، وماهية الإنسان.

 


ربما في عالم الانترنت، صارت المؤشرات الرقمية هي الأهم، بحيث لم يعد ممكناً الكلام سوى عن ذلك العالم الكبير الذي حولته الشبكة المعلوماتية والرقمية إلى قرية صغيرة، بيد أن عبارة القرية الصغيرة "اخترعها" الغرب لاختزال كل السياسات غير المتساوية وغير العادلة التي ترتكبها الدول القوية على الدول الضيعة التي تشكل أكثر من نصف سكان العالم.

 

القرية الصغيرة هي الانعكاس الثاني لعالم الإنترنت، بكل ما منحه ذلك العالم من إيجابيات حقيقية وسلبيات جمة؛ لأن الشبكة المفتوحة على "الديمقراطية الفردية" أغرقت شعوباً كثيرة في الفقر والمآزق السياسية وقادت الأفراد إلى خيانة أوطانهم أيضاً.

 


بتاريخ 27 مايو 2002م نشرت جريدة (اللوموند) الفرنسية ملفاً عن حرب الإنترنت، وهي الحرب التي فعلاً انطلقت منذ أثر من عشرين سنة، وتوسعت منذ أحداث 11 سبتمبر2001م، بحيث تحولت من حرب معلوماتية إلى حرب تدميرية كان الهدف الأساسي منها احتكار "سوق الإنترنت" عبر مجموعة من المواقع التي رأت النور بعد ذلك التاريخ الأسود من أيلول 2001م، بحيث إن أكثر من 58% من المواقع التي ظهرت كانت في الحقيقة فروعاً مؤكدة من أجهزة الاستخبارات للعديد من الدول أهمها الولايات الأمريكية وإسرائيل، تليهما بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا...

 

لم يكن المغزى من المواقع (ذات الوجهة الشبابية) اكتشاف العالم من جديد، ولا اختصار المسافة بين الشمال والجنوب لتقريب الدول والمسافات، بل كان الهدف منها قراءة أخرى لواقع الحرب الجديدة التي تفجرت والتي يسميها أكثر من 90% بالحرب على الإرهاب.

 


ربما من الصيغة الأحادية المصدر فإن الإرهاب ارتبط  -للأسف الشديد- بجملة من التشويهات الإعلامية التي مورست ضد دول العالم، لإغراقها في الفقر ولإلصاق تهمة الإرهاب بها مرتين؛ مرة لأنها ضعيفة وفقيرة ومرة لأنها فعلاً تحمل رؤى مختلفة عن رؤى الاستغلال الرأسمالي الغربي، ونمط الفكر الغربي الاستهلاكي، لهذا كان الإعلام الأمريكي في السبعينات ينظر إلى دول الجنوب نظرة حربية مازالت مستمرة إلى اليوم، وإن توسعت لتشمل دول وأعراق أخرى.


 

ما تحقق على مستوى الشبكة المعلوماتية لم تحققه ربما أكبر الحروب المباشرة. لقد تغير العالم فعلاً يقول الكاتب الأمريكي رونالد ماكرو في كتابه (عشرة أعوام لكسب الرهان) والذي يتناول فيه وبشكل مباشر الدور الرهيب الذي لعبه الإنترنت في الكثير من المواقع الترفيهية التي كانت تخفي خلفها أسماء عسكرية رهيبة. مجلة (لاتريبون) الفرنسية عرضت في عدد213 أن ضابط الاستخبارات الإسرائيلي (أدون وردان) المعروف في الوسط المخابراتي داخل وخارج إسرائيل هو نفسه (دانيال دوميليو) الذي أطلق موقع (شباب حر) (jeunesse_libre) الذي استقطب أكثر من 10 مليون زائر في سنة انطلاقته عام 2003م.



وكان هذا الموقع -الذي توقف فجأة بعد أن كشفت صحيفة الصنداي شخصية مؤسسه- كان هذا الموقع من أهم مواقع التعارف والكتابة الحرة التي كان يعبر فيها ملايين الشباب عن "غضبهم" من حكوماتهم، وبالتالي كان ثمة ضباط من العديد من الدول الذين "اعتقدوا" أنهم يؤدون مهمة إنسانية بالكشف عن أسرار عسكرية في غاية الخطورة، منها ضباط من كوت ديفوار نشروا وثائق خطيرة عن الوضع الأمني الذي تم استغلاله من قبل المخابرات الإسرائيلية في السنة الماضية لـ "معاقبة فرنسا" على موقفها " السلبي" من الحرب على العراق، 

 

يقول دونالد ماكرو بالحرف الواحد.. لقد لعب الإنترنت المهمة الأخطر على المستوى العسكري، إذ إن مجرد السؤال في حوار عادي عن الوضع السائد في البلد الفلاني لم يعد بريئاً، لكن ثمة أخصائيون يجيدون طرح الأسئلة بتفادي طرحها بشكل مباشر، ولإجبار الطرف الآخر على طرحها.. فقد كانت دولة مثل إسرائيل في الستينات والسبعينات تصرف الملايين من الدولارات كرواتب لعملاء تعمل على تدريبهم وبالتالي على تهيئتهم للأعمال المطلوبة منهم.


كان عالم الجواسيس دائماً محاطاً بنفس الهالة الرهيبة والمخاطر التي نجحت السينما الأمريكية في صياغتها.

لجاسوس أو العميل هو نفسه الخائن في كل اللغات، هو الشخص الذي يعي أنه يختار الجهة المضادة لأسباب مادية وأحيانا ثأرية، وهؤلاء يفعلون ذلك عن مغامرة وعن سقوط إرادي، لكن الذي يجري أن "العميل" الراهن لا يعرف الدور الذي يقوم به. لا يعرف أنه يخون ويبيع أسرار بلده. لا يعرف أنه ضحية حوار غير برئ، ولا يعرف أن كل كلمة يقولها تمر على عشرات المحللين النفسانيين وأنه هو في الأخير فأر تجارب في عالم متناقض ومشبوه.

 

لهذا من الصعب جدا تفادي "كارثة الإنترنت" يقول أكثر من رأي، من الصعب تفادي "كارثة الشات"؛ لأنه يبقى هو العالم المغري لملايين من الشباب بالخصوص الذين يبلغون أقل من عشرين سنة، ولهم ثقافة حياتية وفكرية جد محدودة، بحيث إنهم لا يهمهم سوى الكلام في أشياء "محظورة" مع شخص يعتقدونه جنساً لطيفاً! 

 

يقول مايكل هيجل في مجلة (بون) الألمانية. ما يبدو حقيقياً جداً، وباعتراف ضباط سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مثل (جون دلتون) وضابط الاستخبارات البريطانية المتقاعد (هنري سرلوب) صاحب كتاب (واجهة شاحبة)، وضابط الاستخبارات الإسرائيلية (ميخائيل ماتان)، هؤلاء كتبوا بأنفسهم عن الدور الذي لعبوه في استقطاب عملاء بطرق لم يكونوا ليحلموا بها، أي بجرهم إلى الحوار عبر الإنترنت.

 

الغريب في الأمر، يقول هنري سرلوب أن مواقع التعارف عبر النت هي التي تستقطب الملايين من الناس عبر العالم. ركن التعارف جلب أطباء وصحافيين مثلما جلب رجال أعمل وموظفين عاديين وأشخاص عسكريين أيضاً، لهذا كانت المواقع المعنية بالتعارف من أكثر المواقع زيارة في أوروبا وطبعاً مفتوحة لاستقطاب شباب من العالم العربي، ومن أمريكا اللاتينية. الطريقة في غاية السهولة نجدها ببساطة في كتاب (العميل البريء) للكاتب الإنجليزي (ادوارد ريتشارسون) قائلاً: العميل المثالي هو الأكثر حنقاً على نفسه، هو الكاره لذاته، الذي لا يحمل أي هدف محدد، فتلتقيه في حالة شرود، لتقوده إلى عالمك، ولتصقل شخصيته كما تشاء. بأن تصنع منه عميلاً مثالياً و"بريئاً" لمجرد أنه لا يعرف أنه يقدم لك خدمات كبيرة مقابل أن تكون صديقه!!!!

 

  • 5
  • 0
  • 3,538

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً