وصية مُوَدِّع: إيَّاكم..!

منذ 2014-05-10

فارقوا الرعاع، وإياكم والغوغاء. قال سيدنا عليّ في حديث كميل بن زياد: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق".

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله  وصحبه أجمعين، أما بعد،

إخوتي في الله:
أولا أنا أحبكم في الله، وأسأل الله أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل. ولأنني الآن على سفر، ولعل الوجوه لا تلتقي -أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة-، فهذه وصية مُوَدِّع:

أولا: إياكم وهيشات الأسواق.. والزموا المساجد:
إياكم وهيشات الأسواق: هيشات الأسواق هي الضوضاء والجلبة التي تحدث في السوق؛ الكل ينادي على سلعته، والكل لا يسمع غير نفسه. فهو حريص على أن لا يسمع غير نفسه، ويظن أن الناس لا تسمع أحدًا غيره.

إياكم وهيشات الأسواق: أن تعيش في وسط هذه الفتن المتلاطمة هذه الأيام في كل المسائل وفي كل الأحوال. الكل يتكلم ولا يسمع، والكل يظن أن الناس يسمعونه، وفي الحقيقة لا أحد يسمع أحدًا.

العلاج: الزموا المساجد (اللهم اجعلنا أوتادا لبيوتك، اللهم اجعلنا من أهل المساجد الذين تفتقدهم الملائكة، اللهم حبّب إلينا المكث في المساجد).

ثانيا : إياكم والجدل في الدين.. والزموا الصمت:
إياكم والجدل الكثير واللَّجاجة، فما غضب الله من قوم إلا رزقهم الجدل، ومنعهم العمل. وهذه القضية سمة من سمات غضب الله على القوم. قال حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم: «ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًا مُطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام» (رواه أبو داود والترمذي، وقال عنه الأخير: حسن غريب).

إن هذه الأمراض التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وصحبه وسلم:
• شُح مطاع.
• هوى متبع.
• دنيا مؤثرة.
• إعجاب كل ذي رأي برأيه.

هذه يسيرة بالنسبة لما نحن فيه اليوم؛ فعليك بخاصة نفسك، ودَعْ عنك العوام (اللهم اهد الناس، وأصلح الناس).

والحل: في لزوم الصمت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك لسانك، وليَسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك» (صحيح الترغيب وغيره، صحيح).

إذن الأولى: إياكم وهيشات الأسواق، والزموا المساجد.
الثانية: إياكم والجدل، والزموا الصمت.

ثم..

ثالثا: إياكم والدنيا.. والزموا الآخرة:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همه فَرّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (إسناده جيد ورجاله ثقات، السلسلة الصحيحة). وقال الحسن: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فألقِها في نحره، وإذا رأيت الرجل ينافسك في الآخرة فنافسه فيها".

الله أكبر..! في زمن غلاء الأسعار.. ونَهَم الناس.. وظلم الناس.. وطمع الناس.. رأيت بالأمس في أحد الأسواق شيئًا عجيبًا؛ رأيت الناس يشترون بنهمٍ  كما لو كانوا في أول ليلة من رمضان. سبحان الله! أين الفقر؟!! وأين الغلاء؟!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بعدًا» ( إسناده صحيح، السلسلة الصحيحة). فكلما ارتفعت الأسعار ازداد الناس حرصًا على الدنيا، وتضاعف طمعهم فيها، وكبرت رغبتهم في الاستزادة منها. وسبحان الله العظيم!!

فإياكم والدنيا. (اللهم اكفنا شر الدنيا، اللهم اصرف عنا همّ الدنيا)

وأؤكد هنا -وأنتم خاصتي، فلا ينبغي لي في الأصل أن أوضح لأنكم تفهمون المنهج- أن كلامي هذا ليس نهيًا عن التملك، بل لا بأس أن تملك ملايين بل ملايين الملايين.. امتلك دون أن يشغلك هذا عن الله.. دون أن يشغل هذا قلبك.

إذن فعندما أقول: "إياك والدنيا" فالمقصود:
* إياك أن يشتغل قلبك بالدنيا.
* إياك أن تفرح بالدنيا.
* إياك أن تحزن على الدنيا.
* إياك أن تنافس في الدنيا.
* إياك أن تكون حريصًا على الدنيا.
* إياك  أن تحرص على زيادة الدنيا.
* إياك.. إياك.. إياك والدنيا، والزم الآخرة (اللهم اجعلنا من أهل الآخرة).

يقول ابن الجوزي: "علامات الإدبار عن الآخرة لا تخفى عليك؛ ندخل بيتك فنرى ملعقة ولا نرى مصحفًا، ونرى وسادة ولا نرى سجادة". وهذا صحيح؛ فكل واحد يظهر عليه: من هو؟ فإن كان من أهل الدنيا تظهر عليه علامات ذلك، وإن كان من أهل الآخرة يتضح عليه ذلك (فاللهم اجعلنا من أهل الآخرة).

رابعًا: الزموا الجماعة.. وفارقوا العامة:
فارقوا الرعاع، وإياكم والغوغاء. قال سيدنا عليّ في حديث كميل بن زياد: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق".

إخوتي..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» (متفق عليه). قال أنس رضي الله عنه: "فما فرحنا بعد الإسلام بشيء مثل فرحنا بهذا الحديث، لأنني أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأحب أن أحشر معهم".

فهذه هي القضية: الذي تحبه وترجو أن تكون معه في الآخرة؟؟  مع من تعيش؟ ومع من تتعامل؟ 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم». فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله؛ كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟" قال: «يُخسف بأوّلهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم» (رواه البخاري، الجامع الصحيح).

مثلا: وأنت تعمل في القصر قد يُخسف به وبك معهم، ثم تبعثون على نياتكم.. فما نيتك في وجودك في هذا المكان؟ وما هي نيتك وأنت تتعامل مع هذه الأشكال؟

قد يكون في "الميكروباص" -مثلًا- خمسة عشر شخصًا، فإذا ماتوا فيه بُعثوا على نياتهم. وإني قد رأيت اليوم حادثة عجيبة على الطريق؛ لقد أتت سيارة من الجهة الأخرى، فاصطدمت بمقدمة سيارة أخرى، ومات رجل. فقلت: "هذا الرجل المسكين كان يسير وفق القانون على اليمين، وبهدوء، ويربط حزام الأمان، أي أنه كان يسوق بشكل صحيح.. ولكن من أين أتاه البلاء؟

لذلك؛ فالقضية ليست فقط أن تسير بشكل صحيح، ولكن القضية هي: ما نيتك؟

إذن.. الزموا الجماعة -أي الصحبة الصالحة والصالحين من المسلمين-، وإياكم والرعاع.

هذه وصيتي،  وبقيت الأخيرة:

خامسًا: إياكم والرخص.. والزموا المنهج

إني أجعلها كلمة باقية في عقبي، أحتسبها عند الله، وأسأل الله أن ألقاه بها:
المنهج هو: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
الله.. الله في المنهج؛ كل الناس يقولون: "كتاب وسنة"، ويبقى التمايز في: "بفهم سلف الأمة"

فإياك وعقلك.. إياك وآراء الناس..  عليك بالمنهج بفهم السلف، أي الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.

أحبكم في الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد حسين يعقوب

داعية إسلامي مصري، حاصل على إجازتين في الكتب الستة وله العديد من المؤلفات

  • 14
  • 0
  • 17,176

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً