مثل عيسى عند الله
هذه الآية تفيد إبطال عقيدة النصارى في تألِيهِ عيسى، وردِّ مطاعنهم على الإسلام، وهي تفيد هذا بطريق الإلزام؛ لأنهم قالوا بألوهية عيسى من أجل أنه خُلق بكلمة من الله، وليس له أب، فقالوا: "هو ابن الله"، فأراهم الله أن آدم أولى بأن يُدّعَى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلهاً مع أنه خُلق بدون أبوين، فـعيسى أولى بالمخلوقية من آدم.
أجمع المفسرون على أن قوله تعالى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، نزل عند حضور وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من جملة شبههم أن قالوا: "يا محمد! لما سلَّمت أن عيسى لا أب له من البشر، وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى"! فأنزل الله الآية. والروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية هي وفق التالي:
الرواية الأولى: روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "إن رهطاً من نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا، قال: من هو؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله، فقال: « »، فقالوا: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل، فقال: « {إنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ} {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ}» [آل عمران:60].
الرواية الثانية: روى الواحدي عن الحسن، قال: "جاء راهبا نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهما الإسلام، فقال أحدهما: إنا قد أسلمنا قبلك، فقال: « »، قالا: من أبو عيسى؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه، فأنزل الله تعالى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}".
الرواية الثالثة: روى البيهقي في (الدلائل): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه {طس} [النمل:1]، سليمان يريد قبل أن تنزل عليه آية البسملة التي في سورة النمل: « »، الحديث، وفيه: فبعثوا إليه جماعة منهم، فانطلقوا، فأتوه، فسألهم وسألوه، فلم يزل به وبهم المسألة، حتى قالوا: ما تقول في عيسى، « »، فأصبح الغد، وقد أنزل الله هذه الآيات: {إنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ} إلى قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}" [آل عمران:61].
الرواية الرابعة: أخرج ابن سعد في (الطبقات) عن الأزرق بن قيس، قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أسقف نجران والعاقب، فعرض عليهما الإسلام، فقالا: إنا كنا مسلمين قبلك، قال: « {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا} [البقرة:116]، »، قالا: فمن أبو عيسى؟ فما درى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرد عليهما، حتى أنزل الله: {إنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ} إلى قوله: {وَإِنَّ اللَّـهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:62]. فدعاهما إلى الملاعنة، فأبيا، وأقرا بالجزية، ورجعا".
الرواية الخامسة: وروى الطبري عن ابن جريج، قال: "بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! فيم تشتم صاحبنا؟ قال: « » قالوا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}» [النساء:171]، فغضبوا، وقالوا: إن كنت صادقاً، فأرنا عبداً يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، لكنه الله، فسكت حتى أتاه جبريل، فقال: « {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}» [المائدة:17]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « {إنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}».
الرواية السادسة: ذكر القرطبي في سبب نزول هذه الآية رواية لا تخرج عن مضمون ما تقدم من روايات، لكن فيها زيادة تقول: "فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض: إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً، فقالوا: أما تعرض علينا سوى هذا؟ فقال: «
وليس يخفى أن مضمون هذه الروايات واحد، لا خلاف يذكر بينها سوى في بعض ألفاظها، وآخر ما نزل معها من آيات، ومن ثم لا تعارض في أحداثها. وقد ذكر الشوكاني أن هذه القصة قد رويت على وجوه، عن جماعة من التابعين.
وهذه الآية التي أوضحنا سبب نزولها تفيد إبطال عقيدة النصارى في تألِيهِ عيسى، وردِّ مطاعنهم على الإسلام، وهي تفيد هذا بطريق الإلزام؛ لأنهم قالوا بألوهية عيسى من أجل أنه خُلق بكلمة من الله، وليس له أب، فقالوا: "هو ابن الله"، فأراهم الله أن آدم أولى بأن يُدّعَى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلهاً مع أنه خُلق بدون أبوين، فـعيسى أولى بالمخلوقية من آدم.
- التصنيف:
- المصدر: