ضمير مستتر

منذ 2014-05-16

كنت صادقًا، فالضمير هو المحكمة الشخصية والبوصلة التي تشير دائمًا إلى الوجهة، وما أجمل أن نعيش الحياة بضمير وأن ندير قضايانا بضمير، وأن نعبر عن قناعاتنا الحقيقية بضمير، فأقبح جرائم الإنسانية تسويغ الباطل وتلبيس البريء ثوب المتهم، والمظلوم ثوب الظالم، وتحويل العدو المتربص إلى شريك، وابن الدين والنسب والوطن إلى غريب مشبوه.

ماذا دهاك يا صديقي؟ حين أعبر لك عن الصداقة فأنا لا أمثّل، "فالحر من راعى وداد لحظة"! لو لقيتك صدفة لم أطوِ بشري عنك ولأخذتك بالأحضان، ولا أراك تلقاني إلا بمثل هذا وأفضل.

دع عنك الاختلاف والاتفاق في موقف فكري أو سياسي، فالمعول على الأخلاق والآدمية والإنسانية، نبلاء كثيرون في التاريخ اختلفت بهم السبل وظل الوفاء يطبع علاقاتهم الرائعة حتى آخر لحظة. تُكسبنا الأيام مناعة ضد الصدمات حتى لو كانت ممن بادلناهم مشاعر حميمية ذات حين.

كنت تعاتبني طويلًا، وتريد أن يكون صوتي أرفع وأقوى، وحرفي أصدع وأبدع، وكنت أقول لنفسي: سيكمل هؤلاء الشباب الطامحون فراغنا ويحسمون ترددنا وينجحون فيما أخفقنا فيه، ويتخلصون من حساباتنا الطويلة العريضة. كنت تقول لي "يا شين الرغاء عقب الهدير"، وتذكرني باتّباع صوت الضمير.

كنت صادقًا! فالضمير هو المحكمة الشخصية والبوصلة التي تشير دائمًا إلى الوجهة، وما أجمل أن نعيش الحياة بضمير وأن ندير قضايانا بضمير وأن نعبر عن قناعاتنا الحقيقية بضمير، فأقبح جرائم الإنسانية تسويغ الباطل وتلبيس البريء ثوب المتهم، والمظلوم ثوب الظالم، وتحويل العدو المتربص إلى شريك، وابن الدين والنسب والوطن إلى غريب مشبوه.

خلقنا الله أقوياء لنواجه صعاب الحياة ونتسلق جبالها واثقين بعاقبة الصبر، موعودين بحسن المصير شريطة ألا نشعر بالضعف إلا له، ولا نطأطئ رؤوسنا لغيره، ولا نمد أيدينا لسواه، ولم يجعل رزقنا رهنًا لإرضاء زيد أو عبيد، {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، ويكفي القليل عن الكثير لمن رزق القناعة، وكان في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كفَافاً» (متفق عليه).

كنت صادقًا، وأنت تحدثني عن فساد في بلدك يفيض الناس في الحديث عنه، في مجالسهم الخاصة وتهب رياحه حين تفتح نوافذهم ويصب عليهم ماءًا ملوثًا إذا فتحوا أنابيبهم.

كنت صادقًا، وأنت تقول لي إن الفساد ليس نباتًا فطريًا كالفقع، ولكنه شجرة شريرة تسقى بماء التزلف والزيف والصمت.

لعلك تذكر أستاذ النحو الذي كان ضليعًا في مادته، وطالما حاول أن يلقننا درس الضمير بما يكفي، وحدثنا عن ضمائر مجرورة ومنصوبة وغائبة، وأخرى مرفوعة لا تقبل إلا حالة واحدة مثل ضمير: أنا وأنت!

وأستاذ التفسير هو الآخر الذي توقف طويلًا عند قول الحق سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وتحدث عن ملائكة يدوّنون كل شيء ولكن النص يعوّل على القول، لأنه قاعدة العمل.

وأستاذ التاريخ الذي حدّثنا عن محكمة عادلة تعيد قراءة الأحداث بعد برودها وهدوئها، ولكنه استدرك قائلًا إنها ستضرب صفحًا وتطوي الكثير مما لا يستحق أن يحفظ أو يروى إلا على نطاق محدود، وتنظر في القضايا الكبير والمؤثرة لتعرضها على اللاحقين بعدما يكون أطرافها قد أودعوا التراب.

أستاذ الفقه شرح كتاب البيع ولم يعول على بيع الضمير بالدفع الفوري أو بالتقسيط المريح، ولا شرح كثرة العرض وقلة الطلب، بينما كان الطلبة في وادٍ آخر، مشغولون بالعبث يقول أحدهم لزميله: "بيعْ الضمير وْجامل الناسْ تنحب".

طبيب المدرسة كان يعمل تحليلًا للدم كل فصل، لم نعرف طبيبًا أو متطببًا يحلل الدم بعد كل مقالة أو تغريدة أو حدث صغير أو كبير، ويُعيّش الناس في رعب من أوهام الآفات الحقيقية والكاذبة ويلح على التصنيف، ليحوج الناس إلى أن يثبتوا براءتهم في كل مناسبة، ويزيد في قائمة محددات الانتماء الوطني كلما اقتضت الحاجة!

هناك من فقدوا كامل قواهم الشخصية ولست أنت بحمد الله منهم، فالضمير الآثم لا يحتاج إلى إصبع يشير إليه، وقد علمتُ أنك لم تسكن قصرًا ولم تقتنِ سيارات فارهة، فأنت إذاً لست ممن هبت رياحهم فاغتنموها! ولا ممن عالجوا تأنيب الضمير بمنظومة من القناعات العابرة المسكنة للألم!

ليس مطلوبًا منك التضحية بأكثر مما تستطيع، ولكن إذا لم تقل كل الحق فقل بعضه، وإذا لم تقل الحق فلا تقل الباطل، ورحم الله امرءًا قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم.

عم صباحًا أيها الضمير وأرجو أن يصلك هتافي هذا وأنت بحالة جيدة ولست خارج نطاق التغطية!

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-

  • 2
  • 0
  • 2,504

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً