مسائل في الدعاء القرآني - (4) هل تجاب دعوة الكافر؟
إن إجابة الله تعالى لدعاء عباده لا تكون تكريمًا على الدوام، بل قد تكون تكريمًا، أو ابتلاء، أو عقوبة؛ فالرجل إذا دعا على أهله أو ولده أو ماله وهو غضبان فاستجيب له فيهم؛ كان ذلك ابتلاء أو عقوبة، والداعي لا يريد الإجابة، ومع ذلك أجيب؛ ولذا ورد النهي عن الدعاء على الأهل والمال والولد؛ لئلا يوافق ساعة إجابة فيستجاب.
أكفر الخلق (إبليس) المطرود من رحمة الله تعالى، وكل كفر في الجن والإنس فبسبب إغوائه وإضلاله ووسوسته وصده عن دين الله تعالى، ومع ذلك دعا الله تعالى بعد أن طرد من رحمته عز وجل فأعطاه بعض ما سأل: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ . إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ} [الحجر:36-38].
وكثيرًا ما يستدل بعض الدعاة والوعاظ بإجابة الله تعالى لإبليس حين طلب الإنظار على أن الله تعالى يجيب دعوة الداعي، وأن المؤمن أولى بالإجابة من إبليس؛ لحث الناس على الدعاء، فهل تعد هذه إجابة من الله تعالى لدعاء إبليس؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: "أن إبليس دعا ربه سبحانه فأجابه، لكن لم يجبه إلى ما أراد، فإنه طلب الإنظار إلى يوم البعث حتى لا يذوق الموت؛ إذ بعد البعث لا موت، فأجابه الله تعالى وجعل إنظاره إلى يوم الوقت المعلوم"، وقد قيل فيه: "إنه يوم الصعقة الأولى التي يموت فيها الأحياء".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أجابه تعالى إلى ما سأل؛ لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب" (تفسير ابن كثير:3/393).
وقال السمعاني رحمه الله تعالى: "فإن قيل: وهل يجوز أن يجيب الله دعوة الكافر؛ حيث أجاب دعوة اللعين؟ قيل: يجوز على طريق الاستدراج والمكر والإملاء لا على سبيل الكرامة" (تفسير السمعاني:2/169)، وقال السعدي رحمه الله تعالى: "ولما كانت حكمة الله مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم؛ ليتبين الصادق من الكاذب ومن يطيعه ممن يطيع عدوه أجابه لما سأل" (تفسير السعدي:1/284).
القول الثاني: أن الله تعالى لم يجب إبليس إلى ما دعا، ولكن دعوته وافقت أمرًا مقدرًا.
قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: "وقد أفاد التأكيد بـ(إن) والإخبار بصيغة {مِنَ المُنْظَرِينَ} أن إنظاره أمر قد قضاه الله وقدره من قبل سؤاله، أي: تحقق كونك من الفريق الذين أُنظروا إلى يوم البعث، أي: أن الله خلق خلقًا وقدّر بقاءهم إلى يوم البعث، فكشف لإبليس أنه بعض من جملة المنظرين من قبل حدوث المعصية منه، وإن الله ليس بمغير ما قدره له، فجواب الله تعالى لإبليس إخبار عن أمر تحقق، وليس إجابة لطلبة إبليس؛ لأنه أهون على الله من أن يجيب له طلبًا، وهذه هي النكتة في العدول عن أن يكون الجواب: أنظرتك أو أجبت لك، مما يدل على تكرمة باستجابة طلبه، ولكنه أعلمه أن ما سأله أمر حاصل فسؤاله تحصيل حاصل" (التحرير والتنوير:8/45-46).
وتفريعًا على هذه المسألة: هل تستجاب دعوة الكافر أم لا؟
فجمهور المفسرين يرون أن الله تعالى قد استجاب دعوة إبليس بالإنظار لحكمة ابتلاء الخلق به، وهذا يدل على جواز إجابة الله تعالى دعوة الكافر، واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة، منها:
1- قول الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. ولم يفرق في الآية بين مؤمن وكافر، فمن دعا الله تعالى وهو مضطر استجاب له.
2- قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] وفي معناها آيات كثيرة أوردت جملة منها في مقالة (دعوة المضطر).
3- قول النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمُعَاذ رضي الله عنه: «اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» (رواه البخاري:1496، ومسلم:19)، فهذا عام يشمل كل مظلوم ولو كان كافرًا، وقد جاء في روايات أخرى ضعيفة: «ولو كان كافرًا» «ولو كان فاجرًا ففجوره على نفسه»..
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم" (الفتاوى:1/ 206). وقال أيضًا: "وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافرًا" (الفتاوى:1/223).
وأما ابن عاشور رحمه الله تعالى فيرى أن دعوة الكافر لا تجاب، واستدل بأدلة:
1- قول الله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:50]، قال ابن عاشور: "والمعنى: أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يقبل منهم، وسواء كان قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم؛ لأن المصدر المضاف من صيغ العموم فيقتضي أن دعاء الكافرين غير متقبل في الآخرة وفي الدنيا لأن عموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة" (التحرير والتنوير:24/166).
2- أن الله تعالى لا يستجيب لآكل الحرام وهو مؤمن، فكيف يستجيب للكافر؟
قال ابن عاشور: "وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام" (السابق:24/166).
ويجيب ابن عاشور على الآيات التي تفيد إجابة دعاء الكفار بأن دعواتهم وافقت قدرًا محتومًا، قال: "ولهذا لم يقل الله: فلما استجاب دعاءهم، وإنما قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ}، أي: لأنه قدر نجاتهم من قبل أن يدعوا، أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين" (السابق:24/167)، ومع قوة تخريجات ابن عاشور فالذي يظهر لي رجحانه هو قول الجمهور، وهو أن الله تعالى قد يستجيب دعاء الكافر، ولا سيما إن كان مضطرًا أو مظلومًا.
وأما الآية التي استدل بها ابن عاشور فهي في عدم إجابة دعائهم في الآخرة كما هو سياقها، وإن كان ابن عاشور يرى عمومها لكونها مصدرًا مضافًا.. قال الألوسي رحمه الله تعالى: "واستدل بها مطلقًا من قال: "إن دعاء الكافر لا يستجاب، وإنه لا يُمَكَّن من الخروج في الاستسقاء، والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة، وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى إثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة، وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له" (روح المعاني:12/329).
ومن المهم الانتباه إلى أن ابن عاشور لا ينفي حصول مراد الكفار عند دعوات دعوا بها، ولكنه لا يجعلها استجابة من الله تعالى؛ لأن الاستجابة تكريم لا يليق بالكافر، فيخرجها ابن عاشور تخريجات أخرى، وقد أشار إلى هذا المعنى الألوسي في كلامه الآنف ذكره حين قال: "وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له".
وأما الحديث الذي استدل به ابن عاشور في منع الإجابة عن آكل الحرام، فهذا مانع من موانع الإجابة يشمل المؤمن والكافر، لكن لا يلزم منه رد دعوة الكافر مطلقًا بقياس الأولى؛ لأنه قياس في مقابل النص في دعاء المضطر والمظلوم.
بقي أن نعلم -وهو مما يزيل الإلباس-: أن إجابة الله تعالى لدعاء عباده لا تكون تكريمًا على الدوام، بل قد تكون تكريمًا، أو ابتلاء، أو عقوبة؛ فالرجل إذا دعا على أهله أو ولده أو ماله وهو غضبان فاستجيب له فيهم؛ كان ذلك ابتلاء أو عقوبة، والداعي لا يريد الإجابة، ومع ذلك أجيب؛ ولذا ورد النهي عن الدعاء على الأهل والمال والولد؛ لئلا يوافق ساعة إجابة فيستجاب.
وكذلك إجابة دعاء الكافر قد تكون خيرًا له؛ كمن دعا الله تعالى أن يبصره بالحق ويعينه عليه، ثم اهتدى، وهذا من أعظم صور الاضطرار المجاب صاحبه؛ لأن الكفر والشك والحيرة أعظم الغم والكرب، وأقل منه إذا دعا بالنجاة من عدو، ونحو ذلك، وقد تكون شرًا عليه كما لو دعا بجاه أو مال أو نحوه فيستجاب له؛ لأن فيه هلاكه، فلا تكون استجابة الله تعالى كرامة له، بل هي عقوبة معجلة.
قال شيخ الإسلام: "فليس كل من متعه الله برزق ونصر، إما إجابة لدعائه، وإما بدون ذلك، يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق" (الاقتضاء:2/315).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله؛ فإنه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر" (إغاثة اللهفان:1/215).
ولا يظنن ظان أنه إن كان الأمر كذلك فإنه لا فرق بين المؤمن والكافر في باب الدعاء والاستجابة؛ إذ الفرق كبير جدًا، ومن أوجهه:
1- أن دعاء المؤمن يقبل، ويؤجر عليه؛ لأنه عبادة، سواء أعطي ما سأل أم لم يعطه، وثواب ذلك أعظم مما سأل لو أعطيه في الغالب، خاصة سؤال أمور الدنيا، وليس كذلك الكافر، فدعاؤه غير مقبول، ولا أجر له فيه، ولو أعطي سؤله، وهذا فرق مهم يجب أن لا يعزب عن بال المؤمن.
قال ابن القيم: "فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي، وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرّأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده" (إغاثة اللهفان:1/216).
2- أن المؤمن لا بد أن يجاب في دعائه، وليس كذلك الكافر، ولكن إجابة الله تعالى له تكون بما هو أصلح للعبد، والله تعالى أعلم بما يصلح له، وحجة ذلك حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا» (رواه أحمد:11133).
ومن المسائل المتعلقة بهذا الموضوع: حكم طلب المؤمن الدعاء من الكافر؟ وهل يُؤَمِّنُ المؤمن على دعاء الكافر ولو لم يطلبه منه؟ أما طلب الدعاء من الكافر فالظاهر المنع منه؛ لأن المؤمن أولى بالاستجابة من الكافر؛ ولأن في طلب الدعاء منه إعزازا له، وقد يعتقد صحة ما هو عليه من الكفر فيصده عن الدين؛ ولما فيه من فتنة المؤمنين في دينهم إن رأوا بعض المسلمين يطلبون من الكفار الدعاء لهم.
وأما التأمين على دعاء الكافر إذا دعا من غير طلب الدعاء منه، فالذين يقولون بعدم الاستجابة للكافر يمنعون ذلك، قال الروياني: "لا يجوز أن يؤمن على دعائه؛ لأنه غير مقبول" (تحفة الحبيب على شرح الخطيب:2/241).
والذي يظهر لي أن دعاء الكافر لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يدعو الله تعالى بخير للمؤمن، أو لجماعة المؤمنين، كاستسقائه مثلاً، ولا يكون فيه إعزاز للكافر؛ فإنه يشرع للمؤمن التأمين عليه؛ فإنَّ تأمين المؤمن دعاء، وهذا أكثر ما يقع في ولد مؤمن مع والدين كافرين، أو قريب أو جار، أو حضور أهل الذمة للاستسقاء ونحوه، عن حسان بن عطية قال: "لا بأس أن تؤمن على دعاء الراهب إذا دعا لك، فقال: إنه يستجاب لهم فينا ولا يستجاب لهم في أنفسهم" (رواه إسحاق بن راهويه:1686).
وأكثر ما ترد هذه المسألة عند الفقهاء في خروج أهل الذمة للاستسقاء مع المؤمنين، فهل يُمنعون وهو مذهب الحنفية وقال به بعض الشافعية، أو يتركون وهو مذهب الجمهور (ينظر: المبسوط:2/77، والذخيرة:2/434، والمغني:2/328).
الثانية: أن يدعو غير الله تعالى فلا يجوز التأمين على دعائه؛ لأنه إقرار للشرك، أو يكون فيه إعزاز للكافر فلا يُؤَمِّن؛ لأن المفسدة أعظم، أو يدعو بدعاء ملتبس محتمل، فله أن يجيبه بقوله: "ولكم بمثل"، ونحو ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمُ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُلْ عَلَيْكَ» (رواه مسلم:2164). وقوله صلى الله عليه وسلم: «يُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» (رواه البخاري:6030).
وأختم المقالة بتنبيهين:
الأول: يجب على المسلم الحذر من ظلم الكافر؛ فكفره لا يسوغ ظلمه؛ لأن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، ووعد بإجابة دعوة المظلوم ولو كان كافرًا.
الثاني: في دعوة الكافر للإسلام قد يصل المؤمن مع بعض الكفار إلى طريق مسدود في النقاش والجدال والإقناع، فينصح بأن يختم الجدل بقوله للكافر: "ادع الله تعالى دعاء مضطر أن يدلك على الحق ويعينك على إتيانه".
- التصنيف:
- المصدر: