عُلو الهمة

منذ 2014-06-05

علوّ الهمّة: هو استصغار ما دون النّهاية من معالي الأمور.

العلو لغة:

مصدر قولهم علا يعلو علوّا وهو مأخوذ من مادّة (ع ل و) الّتي تدلّ على السموّ والارتفاع، وأمّا العلوّ فالعظمة والتّجبّر، يقولون: علا الملك في الأرض علوّا كبيرًا، ورجل عالي الكعب أي شريف.

 

الهمة لغة:

الهمّة في اللّغة: مثل الهمّ وكلاهما اسم لما هممت به، قال ابن فارس: والهمّ ما هممت به وكذلك الهمّة. وهمّ بالشّيء يهمّ همّا: نواه وأراده، وعزم عليه. والهمّة: ما همّ به من أمر ليفعله.

 

علو الهمة اصطلاحًا:

قال الرّاغب: الكبير الهمّة على الإطلاق هو من لا يرضى بالهمم الحيوانيّة قدر وسعه فلا يصير عبد بطنه وفرجه بل يجتهد أن يتخصّص بمكارم الشّريعة... والصّغير الهمّة من كان على العكس من ذلك.

وقال رحمه اللّه: والكبير الهمّة على الإطلاق من يتحرّى الفضائل لا لجاه ولا لثروة ولا للذّة،. ولا لاستشعار نخوة واستعلاء على البريّة، بل يتحرّى مصالح العباد شاكرًا بذلك نعمة اللّه ومتوخّيًا به مرضاته غير مكترث بقلّة مصاحبيه فإنّه إذا عظم المطلوب قلّ المساعد، وطرق العلاء قليلة الإيناس.

وقال الخضر حسين: علوّ الهمّة: هو استصغار ما دون النّهاية من معالي الأمور.

 

العلم وعلوّ الهمة:

والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق إليها الأمم، فلا يخلص إليه الطّالب دون أن يقاسي شدائد ويحتمل متاعب، ولا يستهين بالشّدائد إلّا كبير الهمّة ماضي العزيمة. وكان سعيد بن المسيّب يسير اللّيالي لطلب الحديث الواحد. ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب أو الأندلس إلّا برجال رحلوا إلى الشّرق ولاقوا في رحلاتهم عناءً ونصبًا، مثل أسد بن الفرات، وأبي الوليد الباجيّ، وأبي بكر بن العربيّ.

 

وإنّ عظيم الهمّة يستخفّ بالمرتبة السّفلى أو المرتبة المتوسّطة من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلّا حين يضع نفسه في أسمى منزلة وأقصى غاية. ومن الخطل في الرّأي أن ينزع الرّجل إلى خصلة شريفة، حتّى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة انصرف عنها جملة، والناس في الحقيقة أصناف:

- رجل يشعر بأنّ فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همّته، وهذا من يسمّى (عظيم الهمّة) أو (عظيم النّفس).

- ورجل فيه الكفاية لعظائم الأمور ولكنّه يبخس نفسه، فيضع همّه في سفساف الأمور وصغائرها، وهذا من يسمّى (صغير الهمّة) أو (صغير النّفس).

- ورجل لا يكفي لعظائم الأمور، ويحسّ بأنّه لا يستطيعها وأنّه لم يخلق لأمثالها فيجعل همّته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الرّجل بصير بنفسه متواضع في سيرته.

- ورابعهم لا يكفى للعظائم ولكنّه يتظاهر بأنّه قويّ عليها مخلوق لأن يحمل أثقالها، وهذا من يسمّونه (فخورًا)، وإن شئت فسمّه (متعظّمًا).

 

من أين ينشأ عظم الهمة؟

يتربّى عظم الهمّة من طريق الاقتداء، أو من طريق تلقين الحكمة وبيان فضل عظم الهمّة وما يكسب صاحبه من سؤدد وكمال، أو من طريق درس التّاريخ والنّظر في سير أعاظم الرّجال، والقرآن يملأ النّفوس بعظم الهمّة، وهذا العظم هو الّذي قذف بأوليائه ذات اليمين وذات الشّمال.

 

فضل عظم الهمة:

قال الماورديّ رحمه اللّه: اعلم أنّ من شواهد الفضل، ودلائل الكرم: المروءة الّتي هي حلية النّفوس، وزينة الهمم.

ومن حقوق المروءة وشروطها، ما لا يتوصّل إليه إلّا بالمعاناة، ولا يوقف عليه إلّا بالتّفقّد والمراعاة، فثبت أنّ مراعاة النّفس إلى أفضل أحوالها هي المروءة، وإذا كانت كذلك، فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها، إلّا من تسهّلت عليه المشاقّ، رغبة في الحمد، وهانت عليه الملاذّ، حذرا من الذّمّ، ولذلك قيل: سيّد القوم أشقاهم.

وقال الشّاعر:

وإذا كانت النّفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام

والدّاعي إلى استسهال ذلك شيئان: أحدهما: علوّ الهمّة، والثّاني: شرف النّفس. أمّا علوّ الهمّة، فلأنّه باعث على التّقدّم، وداع إلى التّخصيص، أنفة من خمول الضّعة، واستنكارًا لمهانة النّقص.

 

قال الشّيخ الخضر حسين رحمه اللّه: وممّا جبل عليه الحرّ الكريم، ألايقنع من شرف الدّنيا والآخرة بشيء ممّا انبسط له، أملا فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لدكين الرّاجز: إنّ لي نفسًا توّاقة، فإذا بلغك أنّي صرت إلى أشرف من منزلتي هذه، فبعين ما أرينّك (قال له ذلك وهو عامل المدينة لسليمان بن عبد الملك) فلمّا صارت إليه الخلافة قدم عليه دكين، فقال له: أنا كما أعلمتك أنّ لي نفسا توّاقة، وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدّنيا، فلمّا بلغتها وجدتها تتوق لأشرف منازل الآخرة.

وفي هذا المعنى:

والحرّ لا يكتفي من نيل مكرمة *** حتّى يروم الّتي من دونها العطب

يسعى به أملٌ مِن دونه أجل *** إن كفّه رهب يستدعه رغب

لذاك ما سال موسى ربّه أرني *** أنظر إليك وفي تساله عجب

يبغي التّزيّد فيما نال من كرم *** وهو النّجيّ لديه الوحي والكتب

 

مجالات علوّ الهمّة:

ذكر صاحب كتاب (علوّ الهمّة) أنّ لهذا العلوّ مجالات خمس: طلب العلم، العبادة والاستقامة، البحث عن الحقّ، الدّعوة إلى اللّه تعالى، والجهاد في سبيل اللّه.

 

بعض الأحاديث الواردة في (علو الهمة):

- عن الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه تعالى يحبّ معالي الأمور، وأشرافها، ويكره سفسافها» (صحيح الجامع:1886).

 

من الآثار وأقوال العلماء الواردة في (علو الهمة):

- روي عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه أنّه قال: "لا تصغرنّ هممكم، فإنّي لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم".

- قال سعيد بن العاص: "ما شاتمت رجلا مذ كنت رجلا، لأنّي لم أشاتم إلّا أحد رجلين: إمّا كريم فأنا أحقّ أن أجلّه، وإمّا لئيم فأنا أولى أن أرفع نفسي عنه".

- قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: "والّذي لا إله غيره لقد قرأت من فِيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بضعا وسبعين سورة، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب اللّه منّي تبلّغني الإبل إليه لأتيته".

- كان الإمام البخاريّ يقوم في اللّيلة الواحدة ما يقرب من عشرين مرّة لتدوين حديث أو فكرة طرأت عليه، كما أنّه من أعظم الرّماة، ما كان سهمه يخطئ الهدف إلّا نادرًا.

- قيل لبعض الحكماء: ما أصعب شيء على الإنسان؟ قال: "أن يعرف نفسه ويكتم الأسرار، فإذا اجتمع الأمران، واقترن بشرف النّفس علوّ الهمّة، كان الفضل بهما ظاهرًا، والأدب بهما وافرًا، ومشاقّ الحمد بينهما مسهّلة، وشروط المروءة بينهما متينة".

 

من فوائد (علو الهمة):

(1) دليل على كمال الرّجولة وكمال المروءة.

(2) تثمر سعادة الدّنيا والآخرة.

(3) خلق يوصل إلى محبّة اللّه ومحبّة النّاس.

(4) يحقّق الرّفاهية والسّعادة للأفراد والشّعوب.

 

من كتاب: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.

  • 9
  • 0
  • 17,288

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً