(1) أضحكهما كما أبكيتهما
الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام، إلى الذرية، إلى الناشئة الجديدة، إلى الجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء! إلى الأبوة إلى الحياة المولية، إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال:
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» (1)، من روائع هذا الدين تمجيده للبر حتى صار يعرف به، فحقًا إن الإسلام دين البر، الذي بلغ من شغفه به أن هون على أبنائه كل صعب في سبيل ارتقاء قمته العالية، فصارت في رحابه أجسادهم كأنها في علو من الأرض وقلوبهم معلقة بالسماء.
وأعظم البر: (بر الوالدين)، الذي لو استغرق المؤمن عمره كله في تحصيله لكان أفضل من الجهاد، الأمر الذي أحرج أدعياء القيم والأخلاق في دول الغرب، فجعلوا له يومًا واحدًا في العام يردون فيه بعض الجميل للأبوة المهملة بعد ما أعياهم أن يكون من الفرد منهم بمنزلة الدم والنخاع كما عند المسلم الصادق.
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24]، بهذه العبارات الندية والصور الموحية يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء، ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام، إلى الذرية، إلى الناشئة الجديدة، إلى الجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء! إلى الأبوة إلى الحياة المولية، إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات.
وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية -إن أمهلهما الأجل- وهما مع ذلك سعيدان!
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية وهكذا تندفع الحياة ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف! وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال، وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}، والكبر له جلاله وضعف الكبر له إيحاؤه وكلمة (عندك) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف، {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق وما يشي بالإهانة وسوء الأدب {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}.
وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وهنا يشف التعبير ويلطف ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان، فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينًا ولا يرفض أمرًا، وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانًا بالسلام والاستسلام {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
فهي الذكرى الحانية ذكرى الطفولة الضعيفة يراعها الوالدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ورعاية الله أشمل وجناب الله أرحب وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء (2).
الويل كل الويل لعاق والديه، والخزي كل الخزي لمن ماتا غضابًا عليه، أف لك هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه؟ أتبع الآن تقصيرك في حقهما أنينًا وزفيرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
كم آثراك بالشهوات على النفس ولو غبت ساعة صارًا في حبس حياتهما عندك بقايا شمس، لقد راعياك طويلاً فارعهما قصيرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، كم ليلة سهرا معك إلى الفجر يداريانك مداراة العاشق في الهجرِ، فإن مرضت أجريا دمعًا لم يجر، تالله لم يرضيا لتربيتك غير الكف والحجر سريرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك ولو لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك! كم جرعاك حلوًا وجرعتهما مريرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، تحب أولادك طبعا فأحبب والديك شرعًا، وتذكر أصلاً أنبت لك فرعًا، وتذكر طيب المرعى أولاً وأخيرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
-----------------------------
الهوامش والمصادر
(1) رواه أبو داود ــ كتاب الجهاد برقم 2166، والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود/ الألباني برقم:2205، وصحيح ابن ماجه، الألباني برقم:2242، وصحيح النسائي، الألباني برقم:3881، وصحيح الترغيب للمنذري ــ الألباني برقم:2481، وفي رواية ابن ماجة: "إني جئت أريد الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة" رواه ابن ماجة ــ كتاب الجهاد برقم:2772، وفي رواية الإمام أحمد (وأبى أن يبايعه) المسند للإمام أحمد ــ مسند المكثرين من الصحابة برقم 6539.
(2) في ظلال القرآن ــ سيد قطب ــ دار الشروق ص 2221 (3) التبصرة لابن الجوزي (1/189-190).
- التصنيف:
- المصدر: