البطولة المتلفزة.. بين هدم القيم وتشويه المفاهيم

منذ 2014-06-12

إن من يجد متعة كبرى في ملاحقة أكثر العروض المتلفزة استباحة لعين المشاهد: هو شخص مريض، ومريض جدًا ندعو الله له بالشفاء وللأمة بالرحمة.

مصيدة التسلية الهابطة التي علقت بها فئة عريضة من أبناء أمتنا فرّخت المزيد من النماذج التي لا تمتلك أدنى مستوى من مقاييس القبول والرفض، والتي افتقدت القدرة على التركيز ومقاومة الطوفان القادم من خلف المحيط.

والسؤال عن التمايز والملامح الذاتية.. يغدو سؤالًا لا معنى له وسط الاحتفاء بالنموذج الغربي والإشادة به.
في عالم الكتابة أصابت حمى التقليد والمحاكاة للمقاييس الفضفاضة لشخصية البطل في السينما العالمية بعضًا من الروائيين العرب، فتجد خلطًًا فجًا ما بين الهدف الذي يسعى بطل الرواية لتحقيقه وما بين أساليبه التي يعتمد عليها لتنفيذ ذلك الهدف.

خذ مثلًا: (هدفه في الاقتران بفتاة أحلامه) وعاين الحيل التي ينتجها عقله المشدود لتحقيق هذا الهدف تجد أن الوسائل التي يتبعها هي في الغالب لا تنتمي لمنظومة الأخلاق السائدة في المجتمع، بل في بعض الأحيان تصطدم مع هذه المنظومة اصطدامًا كليًا حين تهرب معه تلك الفتاة وتضع أهلها أمام الأمر الواقع!

بطبيعة الحال كرست السينما المصرية هذا النموذج في عدد لا بأس به من الأفلام؛ لتنتقل بعد ذلك لتقديم البطل في صور أخرى كرست صورة البطل السينمائي المرفوع عنه العتب، والذي يسبغ على سلوكه قدرًا كبيرًا من القبول بغض النظر عن توافقه أم تعارضه مع ثقافة المجتمع وموازينه..

قُدم البطل في السينما العربية على أنه الشخص الطيب السليم الصدر المحب للناس، الذي تجتمع فيه أفضل الصفات حتى ولو كان من تقاسمه البطولة راقصة يشاطرها المكان هربًا من الأزمات التي تلاحقه!

في هذا المناخ المزكوم والمأزوم أيضًا يصعب على المتلقي الباحث عن المتعة المجردة أن لا يمنح البطل مشاعره واهتمامه، فيغض الطرف عن كم التجاوزات الأخلاقية تحت ذات المبررات، وهي طيبة البطل وشجاعته وحبه للخير، ولا بأس بعد كل ذلك أن يرتاد الكباريهات لينفس عن إحباطه لدى صاحبة ذلك المكان!

إن هذا التشويش الذي تم تكريسه عبر عقود متتالية لصورة البطل أو النجم، أو لشخصيته التي تستحق الإعجاب أثار نتائج على الأرض هي غاية في التهالك، منها أنه تسرب للعقل الباطن لدى جمع غفير من المشدودين لتلك الأفلام أنه لا علاقة بالمرة بين الحياء كخلق أصيل يحمي المرء من القبول بالإسفاف، وبين الشخصية التي تنال الحب والقبول من الناس!

فها هم أبطال السينما الذين تعرض لهم مشاهد ساخنة، لا علاقة لها بما يسمى الحياء أو العفة، نراهم في مشاهد أخرى وهم يواسون جارهم الفقير ويقدمون له العون والمساعدة! أصبح الحياء إذن قيمة ثانوية؛ يمكن أن يستعاض عنها بقيم أخرى تحل محلها، وتنسي المشاهدين لوهلة الشعور بالصدمة من افتقاد النجم السينمائي، لحزمة من السلوكيات المهذبة التي ضل طريقه إليها.

ولأن الحياء في الأصل خط أحمر إذا ما انتهك فعلى المرء السلام، فقد سرت موجة أخذت تتزايد في الأوساط الشبابية، التي تعلقت بالبطل السينمائي المحاط بهالة من النجومية والإعجاب، ما أكد لهؤلاء أن لا تثريب على الإنسان إذا ما أخل بميزان الحياء وتجاوزه حتى آخر مدى!

العبرة إذًا بسلامة القلب وطيبة النفس! وأبطال أفلامنا كانوا طيبين جدًا، بشوشين، لا يضمرون الحقد لأحد، بل كان الحاقدون والمجرمون هم الذين لا يمعنون في إلحاق الأذى بهم دون ذنب أو خطأ، في الحق لو حصر هذا النموذج المفبرك للنجاح في شخصية عدد من نجوم السينما لهان الأمر ولقلنا إن هذه الأعمال تخص أصحابها دون السواد الأعظم المحافظ على أصالته وانتمائه.

لكن ما حدث بعيدًا عن الشاشة السينمائية كان مخيفًا فقد تم استنساخ السلوك السلبي، وأعجبت الفتيات بالبطلة الجريئة التي تتحدى مجتمعها وتواجه أبويها باختيارها بعد سلسلة مطولة من اللقاءات التي تجري في الخفاء مع شريكها المنتظر.

وكما فقد الحياء في العرض على الشاشة السينمائية تم التضحية به في الحياة العامة عبر مراحل عدة تطلبت عقودًا من الزمن ليتم التخلص من بقايا الصورة التقليدية، التي رسمت للفتاة التي ينظر لها الجميع بفخر واعتزاز.

ما وصلنا إليه حاليًا من تمرد على الإرث الأخلاقي أو على جزء منه تعكسه الرسائل التي تتوالى تباعًا، في البرامج الاستعراضية حيث يسمح للجمهور أن يدلي بدلوه في فتيات العرض المتلفز، اللواتي لا يبخلن على المشاهد الجريء بجرأة مماثلة تتناسب والفوضى المراد تعميمها بكل تصميم وإصرار.

حين تلتقط العيون بعض العبارات المكتوبة في تلك البرامج يتضح حجم الانهيار الذي تعاني منه تلك الفئة المحتاجة لإنقاذ سريع مما هي فيه.

انزلاق المشاهد في مستنقع العروض المروجة للفساد، وهو ورطة بكل المقاييس، ومن الصعب جدًا في ظل هذه الانهيارات المتواصلة أن نتوقع حدوث التغيير الإيجابي الذي نتمناه.

إن من يجد متعة كبرى في ملاحقة أكثر العروض المتلفزة استباحة لعين المشاهد: هو شخص مريض، ومريض جدًا ندعو الله له بالشفاء وللأمة بالرحمة.

  • 0
  • 0
  • 788

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً