دلائل الوجود الأربعة

منذ 2014-06-23

وقد دلَّ على وجوده تعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس...

الإيمان بالله يتضمَّنُ أربعة أمور:

الأول: الإيمان بوجود الله تعالى:
وقد دلَّ على وجوده تعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.

1- أما دلالة الفطرة على وجوده  سبحانه: فإنَّ كل مخلوق قد فُطِرَ على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير، أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطـرة إلاَّ من طرأ على قلبـه ما يصرفه عنها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا و يولدُ على الفطرة، فأبواهُ يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (رواه البخاري).

 

2- وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى  فلأن هذه المخلوقات: سابقها ولاحقها، لا بد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ ولا يمكن أن توجد صدفة.

لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلقُ نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقـًا؟!

ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، و الارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنعُ منعـًا باتـًّا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيـف يكـون منتظمـًا حـال بقائه وتطـوره؟!

وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلـوقات نفسهـا بنفسها، ولا أن توجد صدفة؛ تعيَّن أن يكون لها موجد هو الله رب العالمين.

 

وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي، و البرهان القطعي، حيث قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. يعني: أنهم لم يُخْلَقُوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقُـوا أنفسهـم ؛ فتعين أن يكـون خالقـهم هو الله تبارك و تعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}  [لطور:35-37].

وكان جبير يومئذ مشركًا قال: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي" (رواه البخاري).

ولنضرب مثلاً يوضح ذلك: فإنه لو حدَّثك شخص عن قصرٍ مشيَّد، أحاطتْ به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومُلئ بالفرش والأسِرَّة، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إنَّ هذا القصر وما فيه من كمال قد أوْجد نفسه، أو وُجِد هكذا صدفة بدون مُوجد؛ لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثهُ سفهـًا من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع: بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجَدَ نفسه، أو وُجد صدفة بدون موجد؟!

 

3- وأما دلالة الشرع على وجود الله  تعالى: فلأن الكتب السماوية كُلَّها تنطقُ بذلك، وما جاءت به من الأحكام العادلة المتضمنة لمصالح الخلق؛ دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها؛ دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.

 

4- وأما أدلة الحس على وجود الله؛ فمن وجهين: أحدهما: أننا نسمعُ ونشاهدُ من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدلُ دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله سبحانه: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء من الأية:76]، وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9].

 

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "ذكر أن أعرابيـًّا دخل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاعَ العيال، فادع الله لنا؛ فرفع يديه ودعا؛ فثار السحاب أمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية، قام ذلك الأعرابي، أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا؛ فرفع يديه، وقال: «اللهم حوَاليْنا ولا عَلَيْنَا» فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت" (رواه البخاري).

 

وما زالت إجابة الداعيـن أمرًا مشهودًا إلى يومنا هذا؛ لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى، وأتى بشرائط الإجابة.

الوجه الثاني: أنَّ آيات الأنبياء التي تسمَّى المعجزات ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى؛ تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم.

 

مثال ذلك آية موسى صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه؛ فانفلَق اثنى عشر طريقـًا يابسـًا، والماء بينها كالجبال، قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63].

 

ومثال ثانٍ: آية عيسى صلى الله عليه وسلم حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى عنه: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران من الأية:49]، وقـال: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } [المائدة من الأية:110].

 

ومثالٌ ثالث: لمحمد صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر ؛ فانفلق فرقتين، فرآه الناس، وفي ذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1-2].

فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى؛ تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم، تدلُ دلالة قطعية على وجوده تعالى.

 

الأمر الثاني مما يتضمنه الإيمان بالله: الإيمان بربوبيَّته أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.

والرب: من له الخلق، والملك، و الأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا هو، و لا أمر إلا له، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف من الأية:54]، وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطـر من الأية:13].

 

ولم يعلم أن أحدًا من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه، إلا أن يكون مكابرًا غير معتقد بما يقول، كما حصل من فرعون، حين قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات من الأية:24]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص من الأية:38]، لكن ذلك ليس عن عقيدة، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14[. وقال موسى لفرعون، فيما حكى الله عنه: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]،

 

ولهذا كان المشركون يقرُّون بربوبية الله تعالى، مع إشراكهم به في الألوهية، قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84-89].

 

وقال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].

وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87].

 

وأمر الله سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي، فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد، حسب ما تقتضيه حكمته، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادات، وأحكام المعاملات، حسبما تقتضيه حكمته، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرِّعـًا في العبادات، أو حاكمـًا في المعاملات ؛ فقد أشرك به، ولم يحقق الإيمان.

 

الأمر الثالث مما يتضمنه الإيمان بالله: الإيمان بألوهيَّته أي: بأنه وحده الإله الحق لا شريك له، و(الإله) بمعنى: (المألوه) أي: المعبود حبًّا وتعظيمًا.

قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وقـال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وكل من اتخذ إلهـًا مـع الله، يعبد مـن دونه ؛ فألوهيته باطلة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]. وتسميتها آلهـة؛ لا يعطـيها حق الألـوهيـة، قــال الله تعـالى: في اللات والعزّى ومناة: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم من الأية:23].

وقال عن هود: إنه قال لقومه: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف من الأية:71].

وقال عن يوسف  عليه السلام  أنه قال لصاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف من الأيتين:39-40].

ولهذا كانت الرسل  عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف من الأية:59]، ولكن أبى ذلك المشركون، واتخذوا من دون الله آلهة، يعبدونهم مع الله سبحانه و تعالى، ويستنصرون بهم، ويستغيثون.

وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:

الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي اتخذوها شيء من خصائص الألوهية، فهي مخلوقة لا تخلقُ، ولا تجلب نفعـًا لعابديها، ولا تدفع عنهم ضررًا، ولا تملك لهم حياة، ولا موتـًا، ولا يملكون شيئـًا من السموات، ولا يشاركون فيه.

قـال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان:3].

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ . وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22-23]، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ . وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:191-192]. وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة ؛ فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه، وأبطل الباطل.

 

والثاني: أن هؤلاء المشركين، كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجيرُ ولا يُجارُ عليه، وهذا يستلزم أن يوحِّدوه بالألوهية، كما وحَّدوه بالربوبية، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22].

وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87].


وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:31-32].

 

الأمر الرابع مما يتضمنه الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته:

أي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء، و الصفات، على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، و لا تمثيل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم من الأية:27]، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى من الأية:11].

 

وقد ضلَّ في هذا الأمر طائفتان:

إحداهما: (المعطِّلة) الذين أنكروا الأسماء و الصفات، أو بعضها، زاعمين أن إثباتها لله يستلزم التشبيه، أي: تشبيه الله تعالى بخلقـه، وهذا الزعم باطل ؛ لوجوه، منها:

الأول: أنه يستلزم لوازم باطلة ؛ كالتناقض في كلام الله سبحانه، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء، والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه؛ لزم التناقض في كلام الله، وتكذيب بعضه بعضـًا.

 

الثاني: أنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في اسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلاًّ منهما إنسان سميع، بصير، متكلم، ولا يلزم من ذلـك أن يتماثلا في المعـاني الإنسانية، والسمع، والبصـر، والكلام، وترى الحيـوانات لها أيدٍ، وأرجلٌ، وأعينٌ، ولا يلزم من اتفاقها هذا أن تكون أيديها، وأرجلها، وأعينها متماثلة.

 

فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفقُ فيه من أسماء، أو صفات ؛ فالتباين بين الخالق و المخلوق أبين وأعظم.

 

الطائفة الثانية: (المشبهة) الذين أثبتوا الأسماء والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه، زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص؛ لأن الله تعالى يخاطب العباد بما يفهمون، وهذا الزعم باطل ؛ لوجوه منها:

الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقـه أمر يبطله العقل، والشرع، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمرًا باطلاً.

الثاني: أن الله تعالى خاطبَ العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى، أما الحقيقة والكُنْه الذي عليه ذلك المعنى؛ فهو مما استأثر الله تعـالى بعلمـه فيما يتعلق بذاته، وصفاته.

فإذا أثبت الله لنفسه أنه سميع؛ فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى (وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة؛ لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات ؛ فالتباين فيها بين الخالق و المخلوق أبين وأعظم.

وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه استوى على عرشه؛ فإن الاستواء من حيث أصل المعنى معلوم، لكن حقيقة الاستواء التي هو عليها غير معلومة لنا بالنسبة إلى استواء الله على عرشه؛ لأن حقيقة الاستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الاستواء على كرسي مستقر كالاستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق؛ فالتباين فيها بين الخالق و المخلوق أبين و أعظم.

 

والإيمان بالله تعالى على ما وصفنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة، منها:

الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى، بحيث لا يتعلق بغيره رجاء، ولا خوفا، ولا يعبد غيره.

الثانية: كمال محبة الله تعالى، وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العليا.

الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.

محمد بن صالح العثيمين

كان رحمه الله عضواً في هيئة كبار العلماء وأستاذا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

  • 19
  • 1
  • 77,840

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً