شرح وأسرار الأسماء الحسنى - (32) اسم الله الحسيب

منذ 2014-07-03

لكي تعرف كم ذرة رمل في جبل فهذا أمر يعجز عنه البشر! اللهم إلا إذا وجدت تقنيات عالية تصنع مثل هذا الأمر، لكن إن صنعته ستصنعه عن حساب كالحاسوب أو غيره، أما الله عزّ وجلّ فيحسب دون حاجة إلى حساب، الله سبحانه وتعالى يدرك هذه الأجزاء ومقاديرها، هذا جبل الحسنات وهذا جبل السيئات لا يحتاج إلى أن يحسب أو يجند ملائكته لكي يحسبون، الله سبحانه وتعالى يدرك الأجزاء والمقادير التي يعلمها العباد بالحساب من غير أن يحسب.

ورود الاسم في القرآن الكريم:
هذا الاسم ورد في القرآن الكريم في قول الله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا} [النساء:6]، وقوله تعالى في سورة الأحزاب: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39] وقول الله تعالى أيضًا في سورة النساء: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}[النساء:86]، وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، وقوله تعالى: {نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]

معنى الاسم في اللغة:
الحسيب: يجوز أن يكون من: حسبت الحساب، ويجوز أن يكون من معنى: أحسبني الشيء إذ كفاني، فمعنى الحسيب: أي الكافي.

من معاني الاسم في حق الله تعالى:
أنه يحاسب العبد على خفايا نواياه وعلى أعماله الظاهرة
قال أبو عبيدة: "{إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي كافيًا مقتدرًا". وقال ابن جرير: {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا} أي كفى بالله كافيًا من الشهود الذين يُشهدهم، أى جاء أيضًا بمعنى الكفاية". وقال في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا}: "أي وكفاك يا محمد بالله حافظًا لأعمال خلقه ومحاسبًا لهم عليها".

إذًا أول معنى: الكفاية والاقتدار.
والمعنى الثاني: وهذا الذي اختاره ابن جرير الطبري: "أن حسيبًا أي حفيظًا يعني بذلك أن الله كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة أو معصية حفيظًا عليكم حتى يجازيكم بها جزاؤه".

يقول الخطابي: "الحسيب هو المكافيء وقيل: الحسيب أي المُحاسب ومنه قول الله تعالى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] أي محاسبًا". الحليمي ذكر معنى آخر فقال: "الحسيب المدرك للأجزاء والمقادير التي يعلم العباد أمثالها بالحساب من غير أن يحسب"

سبحانه حسيب من غير أن يحسب..
أي أنك لكي تعرف كم ذرة رمل في جبل فهذا أمر يعجز عنه البشر! اللهم إلا إذا وجدت تقنيات عالية تصنع مثل هذا الأمر، لكن إن صنعته ستصنعه عن حساب كالحاسوب أو غيره، أما الله عزّ وجلّ فيحسب دون حاجة إلى حساب، الله سبحانه وتعالى يدرك هذه الأجزاء ومقاديرها، هذا جبل الحسنات وهذا جبل السيئات لا يحتاج إلى أن يحسب أو يجند ملائكته لكي يحسبون، الله سبحانه وتعالى يدرك الأجزاء والمقادير التي يعلمها العباد بالحساب من غير أن يحسب.

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: "المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها"، فيتلخّص لنا من ذلك: أن اسم الله تعالى الحسيب يدور حول معاني: (أولها: الكافي. الثاني: الحفيظ. الثالث: المحاسب). كل هذا في طيّات معاني هذا الاسم الشريف.

ذكروا أيضًا بعض المعاني الأخرى قالوا: "أن الحسيب بمعنى السيّد الذي عليه الاعتماد وعلى هذا فليس في الوجود حسيب سواه، فقد تعتمد على إنسان يحبّك لكنه ضعيف لا يستطيع أن ينجّيك مما أنت فيه وقد تعتمد على إنسان قوي ولكنه لا يحبّك، وقد تعتمد على إنسان قوي ويحبك ولكن لاتصل إليه".

أما الله فهو قريب ودود قادر فيجعله هذا سبحانه وتعالى محل الإعتماد، هو لطيف بعباده يلطف بهم ويعطيهم ما يريدون على وفق حكمته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {ِإن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأنهم ضعفاء ولو سمعوا ما استجابوا لكم لأنهم عجزة لا يستطيعون أن يقدروا على كل شيء، فمن اعتمد على غير الله ضلّ ومن اعتمد على غير الله ذُلّ ومن اعتمد على ماله افتقر، ومن اعتمد على عزّ الإنسان خُذل، فاللهمّ إنا نعوذ بك أن نَذلَّ أو نُذل أونضلّ أو نُضلّ أو نجهل أو يُجهل علينا، قيل كذلك إن الحسيب هو الكريم العظيم المجيد الذي له علو الشأن ومعاني الكمال.

وقيل: الحسيب جل شأنه هو الذي يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتها وما يميزها ويضبط مقاديرها وأحصى أعمال المكلفين في مختلف الدواوين فأحصى أرزاقهم وأسبابهم وأفعالهم ومآلهم ثم كيف يكون حالهم بعد الموت وعند الحساب يوم يقوم الأشهاد فيجازيهم سبحانه وتعالى على حسناتهم وسيئاتهم وحسابه واقع لامحالة لايشغله حساب واحد عن الآخر كما لايشغله سمع عن سمع.

في ضوء هذه المعاني التي تقدمت سنتدبر الآيات التي ذكر فيها اسم الله الحسيب:
قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء:86]، فمفهوم السياق في الآيات يتكلم عن بذل السلام وعن أدب السلام، إما أن تحييه بنفس هذه التحية أو تأتي له بالأفضل، فإذا مثلاً قال: السلام عليكم، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله فزدته، أو إذا أبلغ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قلت: كذلك قلت وعليكم، ولكن ما الارتباط -في ضوء هذه المعاني- بين إفشاء السلام وتذييل الآية باسم الله الحسيب؟

أولاً: يدل ذلك ذكر الله لمسألة السلام في القرآن في آية تتلى إلى يوم القيامة على أهمية هذه العبادة بين المسلمين وأنها من أعظم القربات عند الله عزوجل.

فالنبيّ صلّ الله عليه وسلم حين دخل المدينة كان أول مرسوم وأول قرار له: «يا أيها الناس أفشوا السلام بينكم وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (السلسلة الصحيحة:113/2)، وإفشاء السلام منك يجب أن يشمل الناس جميعًا.. كل المسلمين، حتى لمن تحمل في قلبك تجاهه عداوة أو بغض، فالله يذكرك أنه حسيب، فإن ألقيت علي مسلم السلام وأنت بداخلك فتور أو إعراض عنه، أو لو أفشيت السلام بغرض مصلحة لديك عنده، فالله يقول لك انتبه إلى نيتك حتى يؤتي العمل ثمرته من الألفة والمودة.

فبذل السلام جُعل سببًا عظيمًا للتواد بين البشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (صحيح مسلم:54)، وهذه مسألة بناء مجتمع وبناء أمة. وبناء هذه الأمة يجب أن يكون على روابط وثيقة فإذا كان النبي صلّ الله عليه وسلم يجعل المفتاح في هذا الأمر اليسير جدًا في بذل السلام وتنزل آية منزلة من قبل الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر اليسير تتلى إلى يوم القيامة، إذًا فالأمر كبير.

فكان ذكر اسم الله الحسيب تذكرة لك أنه سبحانه وتعالى يعلم بواطنك ومتى تفشي السلام عن بغض أو عن مصلحة وسيحاسبك على ذلك، فأصلح نيّتك وألقي السلام وابذله وأنت لا تريد إلا رضا رب العالمين، فإذا حسُنت نيتك في مثل ذلك سيجازيك الله عز وجل عن هذا أضعاف ما تتصور وسيعود ذلك بالنع العميم على المجتمع الإسلامي كله.

وانتبه إلى جرم قد يفعله الكثيرون وهم غافلون: أنه حين تقع خصومة بين اثنين ثم يهاتف أحدهما الآخر بادئًا بالسلام وإصلاح ذات البين.. فيرده الآخر ويغلق الهاتف في وجهه ويرفض مصالحته، سيحاسب عن هذا حسابًا مريرًا إذ أفسد ذات البين التي سعى صاحبه لإصلاحها، يقول النبي صل الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟» -وهذه أعظم أعمال الإسلام-قالوا: "بلى يا رسول الله". قال:«إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة. لا أقول: إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» (صححه الألباني).


لذلك يحث الله عزوجل مثل هذا بتذكيره بـ"الحسيب" أنه سيحاسبك، سيحفظ عليك ذلك الموقف وسيجازيك به حين تعرض عنه ثم تقبل عليه تناديه يارب فيعرض عنك ولا يقبل عذرك، من هنا تأتي خطورة اسم الله الحسيب.

حظ المؤمن من اسم الله الحسيب:
لا مفر من حساب الله:
الله لا يشغله حساب أحد عن أحد، فأنت حينما كنت تلميذًا تنتظر حساب معلمك لك، وتصغي بأذنك لصوته وهو ينادي أسماء من حولك، تقول في نفسك لعل الوقت ينتهي وأنجو من هذه المواجهه، لعله ينشغل مع تلميذ قبلي، وتظل تحدث نفسك وتنظر في الوقت منتظرًا الجرس، وهكذا إلى أن يصل دورك أو أن تنجو..

الله سبحانه وتعالى لا يشغله حساب أحد عن أحد ولن يكون هناك دور تنتظر فيه، ولن يكون هناك مفر من هذا الحساب، الكل سيحاسب وبدقة شديدة عن كل صغيرة وكبيرة، قال جلّ في علاه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى.

أن الحسيب معناه (الكافي) انظر إلى هذا الدعاء الجميل الذي نردده كثيرًا لكن نحتاج أن نستشعره بقلوبنا، في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمّد صل الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، (صحيح البخاري).

ما أحبّ هذا الدعاء إلى القلوب "حسبنا الله" تشعر بها بالسكينة على قلبك، الله يكفيني، يكفي قلبي فلا أقلق ولا أنزعج ولا أرتاب ولا تصيبني من جرّاء الخوف أي إساءة ولا أي إشكال كيف وقد أنزل ربي سبحانه وتعالى على قلبي برد الرضا فصرت ساكنًا هادئًا مرتاحًا.

كل هذا حين تقول: "حسبي الله" فيكفيك.. قد تبتلى ولكن هذا البلاء لا يؤثر على نفسيتك فلا تشعر به بلاءً وقد قلت هذا كثيرًا، وقد يحدث العكس فالبعض يُبتلى فيعيش في البلاء دون أن يمسّه البلاء، يكون دائمًا خائفًا، تحدّثه نفسه: سوف يحدث كذا، سأفقد فلانًا، سأخسر صفقة، سأتعرض لحادث.. فتصيبه الأمراض النفسية والقلق والاكتئاب والمشاكل من دون أن يمسه شيء، أو يحدث له أي مشكلة.

إنما المؤمن موقفه حيال هذه الابتلاءات: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} فلم يقعوا في شراك شرك الخوف بل اعتمدوا على ربهم، السيّد الذي لا يعتمد إلا عليه سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فكان هذا الرزق العميم {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ...} [آل عمران:174] وجاءت "فضل" نكرة في سياق الإثبات على اعتبار أن تكون مطلقة. وكان يمكن أن يقول: "فانقبلوا بنعمة وفضل" لكن أضاف من الله لكي يشعر قيمة هذه النعمة، فهي نعمة خاصة جدًا مميزة جدًا {..بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ..} [آل عمران:174]، أي كل سوء، سواء كان هذا السوء مشاكل نفسية سواء كانت ابتلاءات تصيبه بأذى في جسده أو بأذى في نفسيته أو في أهله في ماله، لم يقربه أدنى شيء {..لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم} [آل عمران:174]، فرضي عنهم ربهم فأرضاهم، ولا شك هذا هو الفوز العظيم.

إذًا فمن حظ المؤمن أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه لا غنىً له عنه، بل لا يتصور العبد حياته دون ربه، فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء، فتجد دائما العبد المنيب إلى ربه دائم الاتصال بربه وكلمة يا رب هذه لا تخلو منها ساعة من وقته (يا رب) دائمًا يا رب اغفر لي يا رب تب عليّ يا رب، استرني يا رب، يا رب ليس لي سواك.. يا رب يا رب.. يتصل بالله سبحانه وتعالى.

ويشير العلماء هنا إلى معنى دقيق من معانى الكفاية:
فيقولون هل احتياج الإنسان لملاذ الحياة يقدح في شعوره بكفاية الله له؟
فأنت إذا احتجت إلى طعام وشراب وإلى شمس وإلى أرض وإلى مسكن وإلى زوجة وسعيت في تحصيل ذلك هل هذا يقدح في فهمك بأن الله هو كافيك؟

فقالوا: "الكفاية حصلت بهذه الأسباب لكن الله وحده المتفرد بخلقها للعبد فهذا لا يُسمى في الاعتبار إنشغالًا عن الله إلا إذا كان هذا قاطعًا عن الله، يعني العبد إذا خرج من بيته ليعمل متوكلاً على الله سائلاً منه الرزق والفتح، موقن بأن الله هو الفتاح الرزاق، يختلف عن عبد آخر خرج مشغولاً بالأسباب ناسيًا للاستعانة، معتمدًا على عقله وحوله وقوته ومهارته، فيأبى الله عزّ وجل إلا أن ينقض عزيمته ولا يحصل مراده، بل وقد يُفتن. إذًا فمتى استعان فلا قدح في سعيه إلا أن يتعلّق بالأسباب دون مسببهًا.

حسبنا الله ونعم الوكيل.. ما حقها منك؟
انظر إلى قول الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، لو تصورت الآن بخيالك وقع هذا الكلام على قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه! تخيل لو أنك في مشكلة كبيرة تسبب لك خوف وقلق بالغ ثم تجد إنسان له منزلة كبيرة يأتي بجانبك ويربت على كتفك ويقول لك: لا تخف أنا معك، أنت في حمايتي أنت في ضماني.. كيف يكون أثرها وقد ضاقت عليك الدنيا من كل مكان؟ لا شك أنك ستشعر بالظفر وبكثير من الدفء والحنان والأمان.. أليس كذلك؟

فحين يقول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ} أدركها النبي صلى الله عليه وسلم ففرح واستبشر، فمن كان الله معه ماذا فقد ومن كان الله عزّ وجلّ بعيدًا عنه فماذا وجد، ولكن:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، ما حقها منك أنت؟

أعني ذلك الرجل الذي وقف معك ذلك الموقف وقت ضعفك، فحفظك وأمنك ونصرك على ظروفك، بماذا ستقابل فعله هذا معك؟ لعلك تريد أن تقبّل يديه وقدميه أو تفعل له أي جميل وخدمة جزاء وقوفه بجانبك في شدتك.

فحق هذه الآية الجميلة، قول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36]، أن يكون ردك: بلى يارب ومن يكفيني غيرك؟ يقولها قلبك فتشعر بلذة تودده إليك وقربه منك، فتزداد بدورك حبًا وقربًا له سبحانه.

لا شك أن المعنى الثالث: الذي ينبغي أن نتوقف عنده مليًا في اسم الله تعالى الحسيب هي مسألة المحاسبة.. 

وضع العلماء للمحاسبة شروطًا وأركانًا ينبغي أن نفقهها.
أول الأمر: أن يكون الإنسان دائمًا أبدًا محاسبًا لنفسه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) فمن حاسب نفسه بدقه في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة.

يقول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7]، فيكون حسابه يسيرًا وهو مجرد العرض كما أخبر النبيّ صلّ الله عليه وسلم، فلا يمر بك يوم دون أن تنظر أين أنت من الطريق؟ هل تقدمت أم تأخرت؟ وقد تسأل الآن: على أي شيء أحاسب نفسي؟

- حاسبها كما يحاسبك ربك، إبدأ أولًا بالأمور العظام الكبار وانظر فيها فإن وجدتها خفيفة عندك فاعلم أن هذا وزنك، يعني ما شأن الصلوات عندك؟ عظيمة هي عند الله، ما شأنها عندك وما وزنها؟ هل هي عظيمة في قلبك؟ ماذا عن انظر أخلاقك وسلوكياتك! فالأخلاق عظيمة عند الله، ألم يأتي في الحديث: «إنَّ الرجلَ لَيُدركُ بحسنِ الخُلُقِ درجاتِ الصائمِ القائمِ الظمآنِ في الهواجرِ» (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة:421/2)، فهل للأخلاق مكانة عندك؟

وهكذا سل نفسك كثيرًا هذه الأسئلة، ابدأ بالعظام من الأعمال عند الله، ثم تدرج شيئًا فشيئًا إلى أن تصل بالمحاسبة إلى خطرات النفوس، فمثلاً تضع جدولاً أسبوعيًا للمحاسبة، ولو ابتداءً لكي تضبط أمورك، فتحاسب نفسك مثلاً على إدراك تكبيرة الإحرام، وتحدد مدة للثبات أسبوعين أوثلاثة حتى ينضبط حالك في هذا الأمر، ثم تركز على غيره.

وهكذا تتدرج في الأقل فالأقل، فتبحث عن الأعمال التي لم تفعلها من قبل، إذ يجب ان تضرب فيها بسهم، وضع لك قائمة بمثل هذه الأعمال تراجعها كل فترة لتعرف أي الأبواب لم تدقها بعد فتسعى لها. هذا مثال للمحاسبة على الأوامر.

- كذلك تحاسب نفسك على النواهي، فتعرف ما الكبائر التي تقع فيها فتسارع في التوبة والإقلاع عنها لعل الله يكفر عنك ما سواها، قال الله عزّ وجلّ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].

واحذر من بعض الكبائر المغفول عنها، كالغيبة والكبر والعجب وآفات النفوس بشكل عام، ويساعدك في هذا كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) لابن حجر الهيثمي، فأنصحك بطبعة محققة له تعينك. تقرأ فيه وتحاسب نفسك على كل كبيرة من هذه الكبائر وتسعى للتنزه منها، حتى تصل إلى باقي الذنوب واللمم الأخرى.

وأقول لك استعن وابدأ وتدرج، وكل أسبوع خصص له أمرًا ونهيًا تحاسب نفسك عليه، أو أكثر إن استطعت إلى أن يصل بك الأمر إلى أن تحاسب نفسك على الكلمة، «إنَّ الرجُلَ لَيتكلَّمُ بِالكلِمَةِ لا يَرى بِها بَأسًا ، يَهوِي بِها سَبعينَ خَريفًا في النارِ» (صحيح الجامع:1618)، فتصبح الكلمة عندك بميزان، وهذه أحوال المحسنين، أحوال عباد الله تعالى المقربين إلى الله.

واعلم أنك لو فعلت هذا سيتبين لك أنك لا تعمل إلا على عدة ذنوب مكررة لا تحاسب نفسك إلا عليها، وسيتكشف لك أمور أعظم وأخطر أنت غافل عنها تمامًا، مما يجعلك على خطر عظيم، فغالبًا ما تجد الشباب لا يؤرقه إلا ذنوب مثل إطلاق البصر، العادة السرية، مقدمات الزنا بشكل عام من حب وعشق محرم وغيره، وهو يرتكب أمور أشد وأخطر لكنه لا يعتبرها ذنبًا أو غافل عن خطرها.. فأنت في حاجة شديدة لتفقد ذلك.

واعلم أنه من أدب المؤمن مع ربه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه غدًا على الكبيرة والصغيرة، ويطالبه بالنقير والقطمير ومن وراء علم العبد بذلك عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، فيطالب قلبه بالقيام بالحقوق قبل أن يطالبه سواه، ومتى راقب العبد معنى الحسيب تجلّى له نور الله القريب، فانبثق في قلبه نور فإذا نفسه تحاسبه على التقصير في الطاعة وتذكّره بحساب يوم القيامة.

أمثلة من محاسبة السلف لأنفسهم:
- أرسل رجل مؤمن طعامًا إلى البصرة عن طريق وكيل وقال: "بع الطعام بسعر يومه"، فلما وصل هذا الوكيل إلى البصرة استدعى التجار ونصحوه أن يؤخر البيع إسبوعًا فقط ليرتفع السعر، فأخّر إسبوع وربح أرباحًا طائلة وبشّر موكله بهذه الأرباح وجاء الجواب: "ادفع الثمن كله لفقراء البصرة فقد دخل على مالي الشبهة".

القصة أن التاجر أمر وكيله أن يذهب إلى البصرة ويبيع الطعام فور وصوله بالسعر الذي يبيعون به، فالتجار قالوا له فقط انتظر أسبوع سترتفع الأسعار وستكسب أكثر، فانتظر الرجل وربح فعلاً، فلما بشّره بهذا امره أن يوزع الأرباح الزائدة على فقراء البصرة مخافة الشبهة، لأنه حبس الطعام ليزداد سعره فصار محتكرًا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المحتكر ملعون» (صحيح الجامع الصغير).

إنما هكذا يحاسب الإنسان نفسه، على أدنى شيء، انظر كيف فكّر الرجل؟
فسبحان الله.. لو كان رجلاً من عصرنا بل ومن الملتزمين هل كان سيفعل فعلته؟ أم سيقول يا شيخ لم التشدد، هون على نفسك، الدين يسر إنما رزق وبركه! وغيره مما سيقال؟!

- آخر جاءته رسالة أن قصب السكر قد تلف فذهب إلى السوق واشترى السّكر، وبعدها ربح ثلاثين ألف دينار، وبعد ربحه تذكّر أن هذا الذي اشترى منه السكر ما علم أن السّكر أصابته آفة فباعه بهذا السعر البخس فاعتبر أنه بهذا غرر به وخدعه فجاءه فقال: "يا هذا لقد جاءتني رسالة من غلامي أن قصب السّكر أصابته آفة، فأقل هذه البيعة، فقال له: أنت الآن قد بلّغتني قال: كان ينبغي أن أبلغك قبل هذا وبَطُل شرائي للبضاعة، فقال البائع: قد سامحتك على هذا، فقال: لن أقبل ولا أنام الليل إلاإذا أقلتني من هذه البضاعة"، أي أنه يطلب منه أن يأخذ ماله فيقول له: أني سامحتك، فيقول له: لا أنا الآن لن أستطيع أن أنام أو أن افعل أي شيء إلا إذا أنت أخذت حاجتك وأخذت أموالك وأنا لا أريد أن يدخل جيبي أي شيء من هذا!

- وذاك الراعي قال له ابن عمر رضي الله عنهما: "بعني هذه الشاة! فقال: ليست لي، فقال له: قل له ماتت، قال له: والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ولو قلت له أنها ماتت أو أكلها الذئب لصدّقني فأنا أمين عند صاحب هذه الشاة ولكن أين الله"!

- كان عمر ابن عبد العزيز إذا كلمه أحد بمسألة شخصية يطفأ السراج الذي يوقد من بيت المال.
- وهذا عمر رضي الله عنه رأى إبلًا سمينة فقال: "لمن هذه الإبل؟ فقالوا: هي لابن عمر، قال: ائتوني به، فقال: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لي، اشتريتها بمالي الحلال وبعثت بها إلى المرعى لتسمن فماذا فعلت؟! قال عمر رضي الله عنه: ويقول الناس يا بنيّ: ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين! هل علمت لماذا هي سمينة؟ لأنك ابني، بع هذه الإبل وخذ رأس مالك وردّ الباقي إلى بيت مال المسلمين".

انظر كيف كان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم حسابًا شديدًا على كل شيء، حتى إذا وقفوا أمام الله عزّ وجل وأمسكوا كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة خُفّف عليهم من هذا الحساب.

يقول الأُقْليْشِيّ: "أرباب القلوب الذين يستشعرون بأوجاع الذنوب العالمون يقينًا بمحاسبة علّام الغيوب، وإحصاء حسابه لجميع العيوب أقاموا في الدنيا موازين القسط على أنفسهم وأحصوا عليها بالحساب المُحرِّر كل ما برز عنها وصدر، ثم حاسبوها محاسبة الشريك النّحرير القائم بمال شريكه، الذي انفصل عن شركته بعداوة وقعت بينه وبينه، فانظر هل يسمح له بأن يترك حبة أو يسقيه من مائه عند ظمأه عُبّة؟ فلذلك انتثرت ذنوب هؤلاء من الصحائف كما ينتثر ورق الشجر اليابس بالريح العاصف، فإذا قدموا قضاء الموقف برزت لهم تلك الصحائف منيرة، وقد استنارت فيها المعاني والأحرف لأنها مُمحّضة مُخلَّصة بدقيق المحاسبة وشديد المطالبة، فكان حسابهم عرضًا لا مناقشة فيه".

وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأنّ النّبيّ صل الله عليه وسلم قال: «من حوسب عُذّب»، قالت عائشة: "فقلت: أوليس يقول الله عزّوجلّ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]"، قال: «إنما ذلك العرض» -أي ذلك عرض الصحائف أي تُطوى من غير أن يُناقش في أي شيء- «لكن من نوقش الحساب يهلك» (صحيح البخاري).

فائدة:
روي أن رجلاً سأل أي الشهداء أفضل؟ قال: «الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك ينطلقون في الغرف العلا من الجنة، ويضحك إليهم ربهم، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه» (صححه الألباني).

وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه، والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد والذي إذا كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء» (صححه الألباني).

هؤلاء الثلاثة عمل الأول منهم كان قيام الليل، كانوا في سفر ثم نام الناس جميعًا أما هو فقام يتملّق الله سبحانه وتعالى ويتلو آياته، والثاني الذي يدافع عن هذا الدّين بصدره، يفرّ الناس من المواجهة وهو يبقى ثابتًا إما أن يقتل وإما أن ينال من هؤلاء الأعداء فيردهم، والثالث رجل ينام مع زوجته الجميلة الوضيئة على فراش وطيئ جميل، فما يكون منه إلا أن يقوم فزعًا ليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ويدع شهوته من زوجته.

وقياسًا على المعنى فكل موقف وقفته في حياتك نازعتك فيه نفسك على شهوة شديدة مباحة تداخل معها حق لله فآثرت الله على الحلال المباح إلا خفف عنك الحساب بإذن الله.

نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بمحاسبة دائمة لأنفسنا وأن نشهد اسم الله تعالى الحسيب هذا دائمًا أبدًا فلا يمر بنا يوم إلا وكنا مستشعرين لهذا المعنى، نسأل الله تعالى أن يدخلنا الجنّة بغير حساب ولا سابقة عذاب.

المصدر: موقع الكلم الطيب

هاني حلمي عبد الحميد

حاصل على ليسانس دار العلوم وحضر الماجستير في فقه وأصول أحد الفقهاء السبعة.

  • 29
  • 0
  • 82,856
المقال السابق
(31) اسم الله المقيت
المقال التالي
(33) اسم الله الحق

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً