مفاتيح النصر (2)
حلاوة الإيمان تظهر باستلذاذِ الطاعاتِ، وتحمُّلِ المشقاتِ، إرضاءً لربِّ البرياتِ، وإيثار ذلك على غرضِ الدنيا..
بسم الله والحمد لله.
الحمد لله الذي ارتضىَ من عباده باليسير من العمل، وتجاوز زلهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، والصلاة والسلام على محمدٍ عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وعلى آله وصحبه صلاة دائمة إلى يومِ نردُ عليه، ونشربُ من حوضه، أمّا بعد:
كلمة قالها رستم بن فرخزاد قائدُ جيش الفرس في القادسية، قالها بعد لقاءاتٍ طويلة بينه وبين عددٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا تحت إمرة سعدٍ بن أبي الوقاص قائدِ المسلمين في هذه المعركة. قال رستم عبارته المشهورة التي سجلها التاريخ بعد أن شاهد وقابلَ نماذج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء المفاوضات والمراسلات، قال: "هؤلاء والله يستخفُّون بالزينة والمال، والله سيبلُغون ما أرادوا ولن يقف أمامهم شيءٌ"، ثم ختم كلمته بقوله: "إنهم ملكوا مفاتيح النصر".
فما هي هذه المفاتيح؟
والجوابُ عند أهلِ العلم، إنه مفتاحٌ واحدٌ، وهو (حلاوةُ الإيمان) أو (شعورك بحلاوة الإيمان التي شعر بها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على طريقهم). وهذا لمسناه في مقابلاتٍ رستم لهم، ومتى يشعرُ المؤمن بهذه الحلاوة الإيمانية؟
والجوابُ:
يشعرُ المؤمن بهذه الحلاوة الإيمانية إذا تحقق في المؤمن خصالٌ ثلاثة: (هي أسنان هذا المفتاح الذي هو شعورك بحلاوة الإيمان). هذه الأمور الثلاثة جمعها الحديث الصحيح المرويُّ عن أنسٍ بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر-بعد إذ أنقذه الله منه- كما يكره أن يُلقى في النار» (صحيح الجامع:3044).
وما أجمل قول النووي عليه رحمة الله حين قال لما قرأ هذا الحديث: "إن هذا الحديث أصلٌ من أصولِ الإسلام"، ثم تابع النووي كلامه فقال: "وحلاوة الإيمان تظهر باستلذاذِ الطاعاتِ، وتحمُّلِ المشقاتِ، إرضاءً لربِّ البرياتِ، وإيثار ذلك على غرضِ الدنيا". إذا مفتاحُ النصر: (شعورُك بحلاوة الإيمان )؛ هذا الشعور بالحلاوة يكون: بالحبِّ لله ولرسولهِ حُبّاً فوق حُبّكَ لكل شيء، وأن تُحب إخوتك في الإسلام والدين لله وفي الله، وأن يكره المؤمن الكفر والمعصية، ويكره العودة إليهما كما يكره أن يُقذف في النار، هذه الأسنان الثلاثة للمفتاح.
ولكن ماهي المحبة لله ولرسوله؟
والجواب ما ذكره أهلُ الذوق في هذا الباب والمحقِقُون، قال العلماء: "في موسمٍ من مواسمِ الحجِّ عند السلف، التقى عددٌ من علماءِ هذه الأُمّةِ وفيهم (الجنيد)، ويُطرح سؤالٌ في هذا اللقاء المبارك، وكان السؤال؛ ماهي المحبة؟ قال أحدهم: "المحبة إيثار المحبوبِ على جميع المصحوب"، وقال آخر: "المحبة مُوافقة الحبيب في المشهدِ والمغيب"، وتعدّدتْ الأقوال، فلما وصل الأمر إلى الجُنيد سألوه عن المحبةِ، وقالوا له: "هاتِ تعريفها ياعراقيُّ"، فبكى ثم قال: "عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه، متصلٌ بذكر ربّه، قائمٌ بأداءِ حقوقه إن تكلّم تكلّم لله، وإن نطقَ فعن الله، وإن تحرّك فبأمر الله، وإن سكتَ فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله" فبكى الحاضرون".
وقد ذكر ابن القيّم وغيره: أن المحبة تجمع خمسةَ أمور، فإن أردت أن تكون مُحباً لله ولرسوله، أو أردتَ أن تعرف نفسك هل أنت محبٌّ أم لا فاعرض محبتك على هذه الأمور الخمسة:
الأمر الأول: في المحبة معنى الصفاء والبياض، لهذا يُقال لبياضِ الأسنانِ وصفائها (حَبَبُ الأسنان).
الأمر الثاني: في المحبة معنى الظهور والعلو، ومنه يُقال الفقاعاتِ التي تعلو وجه الكأس عند ملئه، والتي تعلو على وجه الأرض حين نزول المطر، يُقال لها (حَبَبُ الماء).
الأمر الثالث: في المحبة معنى الثباتِ، ومنه قولهم للبعير إذا بَرَكَ ولم يَقُم (أحبّ البعير).
قال العلماء: "هذه الأمور الخمسة من لوازم المحبة وهيَ: صفاءُ المودة، وتحرّك إرادة القلب للتعلُّق بالمحبوب، وظهور هذا التعلّقُ، وثبوت هذه الإرادة القلبية ودوامها، وإعطاء المُحبّ محبوبه قلبه ومُهجتَه ولُبَّه".
قال أهل العلم: "ومحبة الله اسم لمعاني كثيرة:
أوَّلُها: الاعتقادُ أنه سبحانه محمودٌ من كلَّ وجه، كلُّ صفاتِهِ كمالٌ.
ثانيها: أنه سبحانه محسنٌ متفضّلٌ على عباده.
ثالثها: أن إحسانه أكبر من أقوالنا وأفعالنا مهما حَسُنَتْ.
رابعها: ألاّ تستكثِر تكاليفه.
خامسُها: أن يكون العبد خائفاً من إعراضِ الله عنه.
سادسُها: إدامة ذكره بأحسنِ مايقدر عليه.
سابعُها: أن يعقد العبدُ آماله عليه سبحانه، ويشعر أنه لا غنى له عن ربّه.
ثامنُها: الحرصُ على أداء الفرائض، والتقربُ إليه بالنوافل.
التاسع: موالاةُ من عُلم منه التقرّبُ إلى الله والجهادُ في سبيله سراً وعلانيةً.
العاشر: إذا سمع من يذكرُ الله أعانه، وإذا عرفَ من إنسانٍ غيّاً عن سبيل الله سرّاً أو علانية فارقَهُ".
قال البيهقي: "واستجماعُ هذه المعاني دليلٌ على محبة العبد لله سبحانه".
من هنا؛ ولمّا استجمع سلفُ هذه الأُمَّة هذه المعاني استخلفهم اللهُ في الأرض، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، انتبه ياعبد الله إلى قوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي}، وفي هذا إشارة إلى أن تمكين المؤمنين في الأرضِ، مشروطٌ بالقيامِ بحقّهِ تبارك وتعالى وحُسْنِ عبادته.
وقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ...} أي فوقَ الاستخلاف سيُمكّن لهم الدِّين، ومعنى تمكين الدِّين: سيطرة على حركةِ الحياة، فلا يكونُ الدّيِنُ معطلاً كما نعطله نحن اليوم، وقوله: {وَمَن كَفَرَبَعْدَ ذَلِكَ...} أي الوعيد، وغيّر مسلكه، رغمَ مُشاهدتِهِ للدلائل؛ وأصرَّ على الضلال، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: "مَشِيْتُ في زرعِ إنسان، فناداني صاحِبُه يا بقرُ، فقلتُ غُيِّرَ اسمي بزلّةٍ واحدةٍ، فلو كثرتْ الزلاتُ لغيّرَ الله معرفتي".
والخلاصة:
أن قِوام المحبة لله عز وجل، مُوافقة الحبيب، وطاعتُهُ في كلِّ الأحوال وجميل قول القائل:
إذا قلتَ مُتْ، مِتُّ سمعاً وطاعةً *** وقلتُ لداعي الموت أهلاً ومرحبا
ولذلك كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يأنسون بربهم، ويعشقون التكاليف، فيُسارعون إلى الطاعةِ، عندها كانوا من المقربين إليه سبحانه، قال أبو الحريش أحمد الكلابي: "سمعتُ يحيى الرازي يقول:
إن المليك قد اصطفى خُدّاما *** متوددين مواطئين كراما
رُزِقُوا المحبة والخشوعَ لربهم *** فترى دموعَهم تَسحُّ سِجاما
يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ بِطُولِ صَلاتِهِمْ *** لا يَسْأَمُونَ إِذَا الْخَلِيُّ نَامَا
قَوْمٌ إِذَا رَقَدَ الْعُيُونُ رَأَيْتَهُمْ *** صَفُّوا لِشِدَّةِ خَوْفِهِ أَقْدَامَا
وَتَخَالَهُمْ مَوْتَى لِطُولِ سُجُودِهِمْ *** يَخْشَوْنَ مِنْ نَارِ الإِلَهِ غَرَامَا
شُغِفُوا بِحُبِّ اللَّهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ *** فَتَجَنَّبُوا لِوِدَادِهِ آثَاماَ
هذا هو الحبّ: طاعةٌ، وخوفٌ، ورجاءٌ، وحبٌّ.. وهذا ما شملته الأبيات.
يقول المعريّ: "رأيتُ صخرةً قديمة في بيت المقدس عليها أسطرٌ مكتوبة، فترجمتُها فإذا فيها: كلُّ مطيعٍ مستأنِسٌ، وكل عاصٍ مستوحشٌ، وكل خائفٍ هارب، وكل راجٍ طالب، وكل قانعٍ غنيٌ، وكل محبٍ ذليل".
فاجعل حُبّكَ -وذلّك أخي الكريم- لله وحده، فالحبُّ والتذلُّلُ مع الطاعة هو العبادةُ الحقُّ، ومتى تذلّلت لله أعزّك.
اجعل بربك كل عزك يستقر ويثبت *** فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزّك مَيتٌ
قال ذو النون: "ففكرتُ فيما كُتب، فإذا هيَ أصولٌ قد استعبد الله بها الخلق".
قال العلماء: "إذا غُرِسَتْ شجرةُ المحبة في القلب؛ وسُقِيَتْ بماء الإخلاص ومُتابعة الحبيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أثمرت أنواعَ الثمار، أُكُلها كلَّ حينٍ بإذن ربّها، أصلها ثابتٌ في قرار القلب، وفرعُها مُتصل بسدرة المنتهى، ولا يزالُ سعيُ المُحبّ صاعداً إلى حبيبه لا يحجُبُهُ دونه شيءٌ، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]".
انتبه أخي الكريم إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، قال الحسنُ: "يُعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل، قُبِلَ وإن خالف رُدَّ، ولا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل". وَورد عن ابن المقفع قوله: "قولٌ بلا عملٍ كثريدٍ بلا دسم، وسحابٍ بلا مطر، وقوسٍ بلا وتر".
قال العلماء: "وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهيَ فرضٌ، استمع إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا..} [التوبة:24]"، وكلمة: {فَتَرَبَّصُوا}: تهديدٌ وَوعيد، ولا يكونُ هذا التهيد إلاّ لتركِ فرضٍ، والقرآن يقول في سورة آلِ عمران: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ....} [آل عمران:31]، انظر كيف جعل الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً على حُبّ العبد لله سبحانه.
قال القاضي: "ومن محبته صلى الله عليه وسلم نُصرة دينه، والدفاع عن شريعته".
وقد ورد عن بِشر بن الحارث قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: "يابِشر: أتدري بما رفعك الله على أقرانك؟" قلتُ: لا يارسول، قال:"باتباعك لسُنّتي، وخدمتك الصالحين، ونُصحك لإخوانك، ومحبتك لأصحابي وأهلِ بيتي هو الذي بلّغك منازل الأبرار".
ومن جميلِ قول علمائنا: "إن المسلم الذي لا يعيش النبي صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا يتأسّى بالنبي في عمله وفكره وحركته وسكونه، لا يُغني عنه أن يُحرّكَ لسانه بألفِ صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم، فما أرخصَ الحُبَّ للرسول إذا كان كلاماً، وما أغلاه عندما يكون قدوةً وذِماماً".
فعلى المسلم أن يكون دائماً مع الرسول صلى الله عليه وسلم سُلوكاً والتزاماً، احذر مُخالفته ولو في أقَلِّ القليل. واسمع معي إلى ما رواه أحمد، والطبراني، وأبو داود، وغيرهم عن رِفاعة الجعني قال: "صدرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكةَ، فجعل الناسُ يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذُن لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بالُ شِقِّ الشجرة التي تلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغضُ إليكم من الشِقِّ الآخر». قال الراوي فلا نرى في القوم إلاّ باكياً، قال: فيقول الصديق: "إن الذي يستأذنُك -في نظري- بعد هذا لسفيهٌ". قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: «أشهدُ عند الله ما منكم من أحدٍ يؤمنُ بالله ثم يُسَدِّدُ إلاّ سُلك به إلى الجنة»".
قال البيهقي: "أظهر هذا الحديث أن ترك متابعته صلى الله عليه وسلم يدل على خلافِ المحبةِ، وأن حُبَّ الله وحُبَّ رسوله من الإيمان، ودلّ على وجوبِ المحبةِ، وَ وجوب ما تقتضيه المحبة من المتابعة والموافقة".
أما السنُّ الثاني في المفتاح: (أن يحبَّ المرء لا يُحبه إلاّ لله) والمعنى:
أن تكون محبتُك لإخوانك المسلمين محبةً لله وفي الله، لأن حبَّك لأخيك في الله من ثمرات الحب لله سبحانه، ففي حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله» (صحيح الترغيب:3030). وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبَ لنفسه» (صحيح البخاري:13).
يُروى عن إبراهيم بن أدهم أنه خرج في سفرِ مع إخوانٍ ثلاثةٍ، ودخلوا في الطريق مسجداً صغيراً يبيتون فيه، والبردُ شديد وليس للمسجدِ بابٌّ يُغلق، فلما ناموا قام إبراهيم فوقف بالباب إلى الصباح، فقيل له: "لم تنم؟" قال: "خشيتُ أن يَصلكُم البردُ فقمتُ مقام الباب". لذلك يُؤجر العبد على السفر لزيارة أخٍ في الله، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا. غير أني أحببته في الله عز وجل. قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (صحيح مسلم:2567).
السنُّ الثالث لمفتاح النصر: كُره الكفر والمعصية: رأسُ مالكَ العقيدة فاحرص عليها وصنها من أمرين:
أ- من أن تذهب بالكليةِ.
ب- وصُنها من النقصِ.
والأمران من أركان الإيمان، انظر إلى شعيب عليه السلام عندما قال له قومه: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ...} [الأعراف:88]. وضعوا شعيباً والمؤمنين بين خيارين: إما العودةُ في الكفر وإما الخروج ونسُوا أن الحقّ قد يشاءُ أمراً آخر غير الأمرين وهو قوله سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:91]. المهم كان ردُّ شعيبٍ حازماً لسلامة العقيدة: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُنا...} [الأعراف:89]. حان الحديث عن الذهاب.
أما الصيانة عن النقص فانظرها في قول يوسف: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ...} [يوسف:33]، السجن كريه، ولكنه أفضل من المعصية التي تنقض الدِّين، وتأتي الاستجابة من الله سريعةً لكونِ الداعي صادقاً {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34]. من هنا يَنشأ حبُّ الإيمان وكُرهُ المعصية عند المؤمن: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ...} [الحجرات:7].
والآن تعالوا نُسْقِط المفتاح على واقعِ الأُمَّة الإسلامية.
حاجتُنا إلى هذا المفتاح الآن شديدةٌ، لماذا؟ لأننا أمام عدوِّ شديد المكر، قال صاحب كتاب (مكائد يهودي): "مكرهُم خفيٌّ ونشيطٌّ حتى يقفزوا إلى مراكز السلطة في الأُمم التي آوتهم وقَبِلَتهم مهاجرين إليها، فإن ظفِروا بقوةٍ انقلبوا ذِئاباً ضاريةً، يُقابلون الإحسان بالإساءة، والعطف باللوم، والتسامح بالتعصّب، والعطاء بالحرمان".
1- ففي مصر أيام الحكم الفاطمي؛ أخذ الفاطميُّون يُولُّون اليهود بعض المناصب، فقام يهوديٌّ خبيث وأعلن إسلامه وهو (أبو نصر صدقة) فعيّنه الخليفة الفاطمي وزيراً، من سنة (1044-1047م)، واستعان هذا اليهودي بمن يعرفهم من خُبثاء اليهود، فأمعنوا في التعصُّب والظلم للمسلمين، حتى ضجَّ الناس وظهرت الآهات على الحناجر، فانطلق شاعرٌ هو (الحسن بن خاقان) يتهكَّم على ما آلَ إليه الحكم بيد اليهود فقال:
يهود هذا الزمان قد بلغـوا *** غاية آمالهم وقد ملكـوا
العز فيهم والمال عنــدهم *** ومنهم المستشار والمَلِكُ
يا أهل مصر قد نصحت لكم *** تهودوا قد تهــوَّد الفَلَكُ
2- في العصر الأندلسي وفي أواخره عند الانحدار، تسلَّل اليهود إلى مراكز القوة بالخمور والصيرفة والربا والجواري واستطاع يهوديٌّ يُقال له (ابن نغرالة) أن يكون وزيراً لملك غرناطة البربريُّ (باديس)، فقام اليهوديُّ بالظلم والعسف، فاستاء المسلمون من تسلُّطه ومن تفشي الفسق على يديَّ هذا الخبيث اليهوديِّ، ولامَ الناس الملك (باديس) على استوزاره، وكان الشعر من أخطر وسائل الإعلام حينها ومن هذه القصائد:
أباديس أنت امرؤ حاذق *** تصيب بظنك نفس اليقين
فكيف اختفت عنك أعيانهم *** وفي الأرض تضرب منها القرون
وكيف تحب فراخ الزنا *** وهم بغضوك إلى العالمين
وكيف يتم لك المرتقى *** إذا كنت تبني وهم يهدمون
وكيف استنمت إلى فاسق *** وقارنته وهو بئس القرين
وقد أنزل الله في وحيه *** يحذر عن صحبة الفاسقين
فلا تتخذ منهم خادمًا *** وذرهم إلى لعنة اللاعنين
فقد ضجت الأرض من فسقه *** وكادت تميد بنا أجمعين
وكان للملك ولدُّ يكره هذا اليهوديَّ، وكان يُحذر أباه من غدره، وانتبه اليهوديُّ إلى خطرِ ولي العهد عليه، فبعث إليه من وضع له سُمّاً في شرابٍ فمات، وأراد اليهوديُّ إلحاق التهمة ببعض من يُعاديه من حاشية الملك، ثم كاتبَ أعداء ملكِ غرناطة (وهو صاحب مدينة المَرّيَّة)، وكان طامعاً في غرناطة، وانتبه المسلمون، فقاموا عليه وقتلوه قبلَ أن يُنفذ مُؤامرتَهُ الشنعاء.
3 - وفي العراق: في الثلث الأخير من القرن السابع الهجريّ استطاع يهوديٌّ خبيثٌ مُلقبٌ (بسعد الولة بن الصفي) في ظل الحكم المغولي الذي استولى على بغداد سنة 656هـ، استلم هذا اليهودي وظيفة (الإشراف على ديوان العراق)، كان طبيباً فكان له مداخلُ ذاتُ شأنٍ مع من بيدهم السلطانُ ثم بدأ يتحكَّمُ في رقاب المسلمين ظلماً واستيلاباً للأموال مُستعيناً بالأشرار لقهر المسلمين، وبقي الأمر كذلك حتى سنة 686هـ حيث تولى ولاية بغداد المغولي (قُطْلُغُ شاه) من قِبل السلطان المغولي حفيد هولاكو (أَرغون) المُقيم في (الأرْدو)، ورأى (قُطْلُغُ شاه) ظلم هذا اليهودي فعزله وأخرجه من بغداد.
ولكن اليهوديَّ (سعد الدولة) بن الصفي سارَ إلى الشاه في الأَرْدُو واستطاع بدهائه أن يُغيّر قلب السلطان (أرغون) على والي العراق (قُطْلُغُ شاه) الذي كان قد فرض أتاوات على الناس، فعزله السلطان، فاستراح الناس لعمل هذا اليهودي الماكر، ثم ما زال يكيد حتى أعاده السلطان على (الإشراف على ديوان العراق) وقويَ مركز اليهود، وعيّن هذا اليهودي أخاه (فخر الدولة) في الديوان، وعيّن يهودياً آخر سمّاه (مهذَّب الدولة) في الديوان واسمه (نصر بن الماشيري).
وبدأ اليهودي (سعد الدولة) يكيد سراً لعلماء المسلمين وصالحيهم، فألقى القبض على الرجل الصالح (زين الدِّين الحظائري) مسؤول الأختام وعلى (مجد الدين إسماعيل) ضامن أعمال الحِلَّةِ، ولفّقَ لهم التُهم...
قال المؤرخون: "وكان الحظائريُّ عالماً فاضلاً جواداً، فأراد اليهودي التخلّص منه فقتله، وخاف المسلمون ذرعاً بتسلّط اليهود في العراق وتسلُّلِّهم تحت ظلِّ المغول إلى المراكز الحسّاسة، فلجأ المسلمون إلى المساجد وقرَّروا أن يُعلنوا للحاكم استنكارهم لأعمال اليهود، وكتبوا بياناً إلى السلطان المغولي (أرغون) ضمَّنوه آياتٍ وأحاديثَ تنصُّ على عداءِ اليهود للمسلمين، وأن الله أذلَّهم فكيف ترفعُهم أنت، فخاف اليهودي وأراد أن يُخيف المسلمين فصلب زعيماً مسلماً اسمه ( جمال الدين بن الحلاوي) فهاج المسلمون وثاروا ثورةُ عنيفة وفتكوا (بسعد الدولة وإخوته) وبعامة أعيان اليهود بل وبعامتهم، وكان انتقاماً شديداً.
هذا شأنهم دائماً، إخواني الكرام في كل بلدٍ وفي كل زمان مع من يؤويهم ويتسامح معهم، فهم كما قال الدكتور حبنكة في كتابه (مكائد): "في أوّلِ أمرهم أذلاء خاضعون، وفي ثانيها حشرات إفساد، وفي ثالثها ثعالب غدر، وفي رابعها ذئاب افتراس، وفي آخرها لؤم وبطش".
ثم يقول في ختام هذا الكلام: "فالحذر الحذر يا سكان العالم، والحذر الحذر أيها المسلمون".
- التصنيف: