غزة تحت النار - (41) مشاهدات الهدنة الإنسانية
دخلت الهدنة الإنسانية بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني قبل ساعاتٍ قليلة حيِّز التنفيذ، وهي هدنة مؤقتة تمتد لاثتني عشر ساعة فقط، تم التوافق عليها دوليًا، تتوقف خلالها آلات القتل الإسرائيلية المُتعدِّدة عن القصف والقتل والتدمير والتخريب، وإن كان ناطقون رسميون باسم جيش العدو قد أعلنوا، أن فِرق الهندسة التابعة لجيشهم، ستستمِر في أعمال التنقيب والبحث عن الأنفاق وتدميرها، وأن الهدنة لن تمنعها من مواصلة عملها، وإنما ستلتزم وقف إطلاق النار فقط.
دخلت الهدنة الإنسانية بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني قبل ساعاتٍ قليلة حيِّز التنفيذ، وهي هدنة مؤقتة تمتد لاثتني عشر ساعة فقط، تم التوافق عليها دوليًا، تتوقف خلالها آلات القتل الإسرائيلية المُتعدِّدة عن القصف والقتل والتدمير والتخريب، وإن كان ناطقون رسميون باسم جيش العدو قد أعلنوا، أن فِرق الهندسة التابعة لجيشهم، ستستمِر في أعمال التنقيب والبحث عن الأنفاق وتدميرها، وأن الهدنة لن تمنعها من مواصلة عملها، وإنما ستلتزم وقف إطلاق النار فقط.
إلا أن الهدنة قد دخلت حيِّز التنفيذ الفعلي، والتزم الفريقان بوقف إطلاق النار، وتوقف القصف مؤقتًا، وسكن عدَّاد الموت، ولكن الطائرات بدون طيار "الزنانة" ما زالت تحوم فوق سماء قطاع غزة كالغربان، تُراقب وتُتابع، وتُصوِّر وتُدقِّق، وتجمع المعلومات عن أهدافٍ جديدة، ومشاهداتٍ ومعايناتٍ لم تتمكَّن من رصدها، ولا يُستبعد أن تقوم باختراق الهدنة في أي وقتٍ، إن رأت هدفًا كبيرًا، يصعب الوصول إليه في غير الهدنة، وهناك تجارب سابقة كثيرة، اخترق فيها العدو الهدنة، واغتال قياداتٍ وكوادر، الأمر الذي يُوجب على المقاومة ألا تأمن وتركن، وأن تكون حذرة ويقظة.
فُرِضت الهدنة لأسبابٍ إنسانية محضة، كي يتمكّن المواطنون من الخروج من أماكن القصف الخطرة، أو العودة إلى بيوتهم ومنازلهم لتفقدها، وأخذ بعض متاعهم الضروري منها، وللبحث عن أقاربهم وأفراد أُسرِهم، والمفقودين منهم، ممن لم يخرجوا من بيوتهم أثناء القصف، ولم يتبيَّن لهم نجاتهم أو استشهادهم، ولتمكين فِرق الإسعاف والدفاع المدني من الدخول إلى المناطق المنكوبة لنقل الجرحى والمصابين، وإسعاف من بقي منهم على قيد الحياة، ولإخراج الجثت التي بقيت تحت الردم والركام، وحال القصف المتواصل من الوصول إليها لانتشالها.
فوجئ العائدون إلى بيوتهم ومناطقهم بحجم الدمار الذي خلَّفه العدوان فيها، فوصفه كثيرون بأنه زلزالٌ مُدمِّر، أتى على كل شيءٍ في أحيائهم، ولم يبقِ على شيءٍ من المنازل، فالبيت الذي لم يُصبِح ركامًا، أصبح آيلًا للسقوط، وغيره مُدمَّر جزئيًا، ولكن المُدمَّر والآيل والمتصدِّع لا يصلح أيٌ منه للعيش، كما لم يبقَ من متاعه وأثاثه ما يصلح، إنه زلزالٌ بدرجةٍ عالية جدًا، شطب أحياءَ وبيوتًا، وغَيَّرَ ملامح مناطق، وأزال علاماتٍ وإشاراتٍ ومناراتٍ كانوا يعرفونها، ويهتدون بها.
أما السيارات فقد استحال أغلبها إلى قطعٍ من الحديد، لا شيء يدل على أنها كانت سيارة إلا بقايا هيكلها الذي اهترأ من شدة القصف، وحرارة النيران الملتهِبة، وغيرها قد انفجر في المكان نتيجة القصف، فتناثرت أجزاؤها في كل مكان، حتى غدت كأشلاء الشهداء، مبعثرة ومتناثرة، فلا يُميَّز بينها أحد، سوى أنها بقايا سياراتٍ مُتفجِّرة أو مُحترِقة.
أما الحيوانات والبهائم، الخيول والحمير والقطط والكلاب، والماعز والأغنام، والطيور والأسماك، فلم تسلَم من القصف، فقد وجد العائدون بعضها تحت الركام نافِقًا، أو في الشوراع والطرقات، وفي الحظائر مخنوقة جميعها، وكأنها ماتت من أثر البارود الخانق، أو نتيجة غازاتٍ أخرى تصاحب القصف، أو هي جزءٌ منه.
أما آخرون فقد وصفوا ما حدث في مناطقهم بأنه تسونامي مخيف، جرف كل شيء، وبدَّل مَعالِم الحياة جميعها، ولكنه وبعد أن انحسر وتراجع، كشف عن حجم الدمار والخراب الذي خلَّفه، فالأرض محروقة، والمباني مهدَّمة، والأشلاء مُبعثرة، والأشجار مُخلَّعة، وقد جمع المواطنون من مختلف المناطق في الساعات الأولى للهدنة، أكثر من ثمانين جثة، ممن كان يصعب الوصول إليهم، وربما كان بعضهم ما زال حيًا خلال الأيام الماضية، ولكن تعذَّر الوصول إليهم، بينما هم تحت الأنقاض أو ينزفون، أدَّى إلى استشهادهم.
بعض المواطنين كان يعرف بوجود بعض أفراد أسرته، ممن لم يتمكنوا من المغادرة بسبب كثافة القصف، فتوجهوا فورًا إلى الأماكن التي كانوا فيها، وإلى البيوت التي تركوهم فيها آخر مرة، فوجدوا بعضهم في مكانه شهيدًا، وآخرين استشهدوا أثناء محاولتهم الفرار والهروب من حِمم الموت المتلاحقة.
الزلزال في كل مكانٍ في قطاع غزة، إذ لم تنجُ منه منطقة، وإن كان مُهوِّلًا جدًا، وكأن مركزه في الشجاعية، وحي الصبرة والزيتون، وعبسان الصغيرة والكبيرة، وخزاعة والقرارة وبني سهيلا، ومناطق مُتعدِّدة من محافظة رفح، وفي شمال القطاع في بيت لاهيا وبيت حانون وأطراف مخيم جباليا، وأحياء العطاطرة وبئر النعجة والسيفا، فضلًا عن أماكن كثيرة متفرِّقة ومتباعِدة في مدينة غزة، كان القصف الإسرائيلي قد استهدف فيها البيوت والمساجد والمؤسسات والمقرات.
أما الجانب الآخر من المشاهدات التي نقلها العائدون إلى بيوتهم وأحيائهم، فهي روح المقاومة السامية، والإحساس العالي بالفخر والزهو بقدرتها الفائقة، والروح المعنوية العالية التي تمتَّع بها المواطنون، وهم يُشيدون برجال المقاومة وصمودهم، وبجرأتهم وبسالتهم، وأنهم أوجعوا العدو الإسرائيلي وآذوه، وأنهم نالوا منه وكبَّدوه خسائر حقيقية، وأنهم يُقاتِلون بشجاعة، ويُواجِهون بقوة، ويقتحمون بثقةٍ وإيمان، لا يخافون ولا يتردَّدون.
كثيرون ممن كانوا على أعتاب بيوتهم المُهدَّمة، أو فوق ركام منازلهم المُدمَّرة، كانوا يقولون نحن فدى المقاومة، نحن معها نحميها ونمضي معها، نحن خلف المقاومة لن نستلم، ولن نقبل بهدنةٍ تُريحه وتُنقذه، ولن نقبل في هذه المعركة بغير النصر، ورفع الحصار، وسنُعيد بناء ما دمَّره العدو، وسنكون أفضل مما كُنَّا، ولكننا لن نستسلِم له، ولن نُمكِّنه مِنَّا ومن أرضنا مرةً أخرى.
قد تمضي الهدنة، وينتهي وقف إطلاق النار، وتعود الطائرات إلى القصف، والمدافع والدبابات إلى الرمي، ويتكرَّر الزلزال كما كان أو أشد، ولكن المقاومة أيضًا ستنهض وستُعاوِد الهجوم، وستقتحِم بقوةٍ بعد الذي رأت من صمود شعبها وثباته، وصِدقه ويقينه، فهو سلاحها الأمضى، وعُدَّتها القوي، وسيكون من أمرها ما يُسعدنا، ومن فعلها ما يُعجبنا ويُبهرنا، وما يُثلج صدورنا ويُحزِن عدونا، إن شاء الله ربُ العالمين.
- التصنيف: