نظرات في التاريخ لابن تيمية
إن من قواعد التاريخ وسننه المطردة التي سجلها ابن تيمية من خلال تأصيل شرعي وواقعي؛ التلازم بين ظهور البدع والمحدثات، وظهور الكفر والإشراك، ومن ذلك قوله: "لما أحدثت الجهمية محنتهم، ودعوا الناس إليها، وضُرب أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين؛ كان مبدأ حدوث القرامطة الملاحدة الباطنية من ذلك الزمان، فصارت البدع باب الإلحاد".
"عقول الناس على قدر زمانهم" [1]، ونحن في زمن قَصُرت فيه الأحلام، وضاقت فيه العقول، فقلّ تحصيل العلوم والفهوم، وغابت الشخصيات العلمية الموسوعية، وأفل النجوم المشاركون في فنون عدة.. كما قال أحدهم: "ما أقبح الرجل يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فناً واحداً.. ولكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا كلّه أجاب" [2].
وأبو العباس ابن تيمية من الأئمة الأعلام الذين برعوا وحققوا فنوناً كثيرة، وأوعبوا معارف عديدة جداً، بل كان أدرى من أهل الفن والعلم بفنّهم وعلمهم، حتى قال عنه ابن الزملكاني: "كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكن عرفوه قبل ذلك" [3].
والذي يهمّنا في هذه السطور: درايته بالتاريخ وحوادث الزمان، فلقد وُصِف ابن تيمية بأن: "معرفته بالتاريخ والسّير فعجب عجيب" [4]. وهذا وصف صادق، ففي التراث التّيمي معالم كبيرة، وتقريرات جليلة، وتحقيقات بديعة؛ في شأن التاريخ والسّير والتراجم، وأحوال الأمم والدول، ونورد طرفاً منها على النحو التالي:
- تتجلى سعة اطلاع أبي العباس ودرايته الفائقة بالسيرة النبوية، وشمائل النبوة ودلائل الرسالة المحمدية، كما في بحثه المبسوط في آخر كتابه (الجواب الصحيح)، حيث سطّر قرابة ثلاثمائة صفحة في هذا الأصل الشريف، وظهر في هذا التقرير براعة تحقيقه، وحسن تصنيفه وجودة تبويبه، وهذا البحث البسيط يستحق أن يفرد بالدراسة والتعليق.
- يُلحظ دراية أبي العباس بتاريخ فلاسفة اليونان وعلومهم، وما بينهم من اختلاف كثير، وتفاوت في معارفهم، حتى قال رحمه الله: "وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد" [5]. وقال في موطن آخر: "فإن الفلاسفة ليسوا أمة واحدة لها مقالة في العلم الإلهي والطبيعي وغيرهما، بل هم أصناف متفرقون، وبينهم من التفرّق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله.." [6]، ويعلل ابن تيمية ذلك الافتراق بقاعدة مطردة طالما قررها وبأدلة كثيرة في مواطن عدة، وهي التلازم بين اتباع الرسول والاجتماع، والتلازم بين مخالفة الرسل والافتراق، وكلما عظمت معارضة الرسل كان الاختلاف أكثر وأشد [7].
ويفرّق أبو العباس بين قدماء فلاسفة اليونان والفلاسفة المشائين (أرسطو ومن تبعه)، فإن الأوائل كـ(فيثاغورس وسقراط وأفلاطون) قدموا إلى الشام واستفادوا من بني إسرائيل وأخذوا عن أتباع الأنبياء، ولهذا لم يكن فيهم من قال بقدم العالم، بخلاف أرسطو فإنه لم يقدم إلى الشام [8].
- قالوا: إن فائدة التاريخ هي معرفة الأمور على وجهها [9].
وكان أبو العباس يتحرى ذلك، ويحقق هذا الأمر، فيورد -مثلاً- مقالات الفرق الإسلامية بعلم وعدل، ويحتج على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها: "أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم» [10]، وكان صاحب دراية دقيقة، ومعرفة عميقة بتاريخ الفرق الإسلامية وأصحابها، حتى إنه قال -في مناظرته بشأن العقيدة الواسطية-: "كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه" [11]، وقال عن مذهب الاتحادية: "لما بيّنتُ لطوائف من أتباعهم حقيقة قولهم، وسرّ مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم" [12]، فالحاصل أن درايته بمقالات الإسلاميين تفوق الوصف -كما هو مبسوط في وضعه-، ومن ذلك:
- انتقاده كتب المقالات، وأن عامتها ينقل بعضهم عن بعض، وكثير من ذلك لم يُحرر أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقل [13].
- معرفته بالتسلسل التاريخي لظهور البدع، والمدن التي انتشرت فيها [14].
وفقهه لمراتب الشرور، والقواسم المشتركة بين هذه الفرق، والتمييز بينها، فالخوارج منعوتون بتكفير مرتكب الكبيرة، والمعتزلة شذوا بالمنزلة بين المنزلتين، والكرامية في قولهم بأن الإيمان مجرد قول باللسان... إلخ.
- من خلال استقراء تاريخ أهل الأهواء قرّر ابن تيمية أن البدع المتأخرة أشد من البدع المتقدمة [15]، فكلما ابتعدنا عن عهد النبوة كانت البدع أشنع وأخبث، هذا من جهة الزمان، وكذا من جهة المكان فكلما بعدنا عن المدينة النبوية غلظت البدع واشتدت، ولذا كانت بدعة تعطيل الصفات بخراسان أشنع من بدعة الإرجاء بالكوفة.
- يسلك أبو العباس في باب المفاضلة بين العبادات والأشخاص ونحوها مسلك المفاضلة من وجه دون وجه، فلا يفضّل بإطلاق، وهذا ظاهر بيّن في مسائل عديدة، ومن ذلك المفاضلة والموازنة بين دولة بني أمية ودولة بني العباس، «فخلفاء بني العباس أحسن تعاهداً للصلوات في أوقاتها من بني أمية، فإن أولئك كانوا كثير الإضاعة لمواقيت الصلاة...» [16]، وقال في موطن آخر: "السنة قبل دولة العباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس، فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة" [17].
- نظرة أبي العباس للتاريخ نظرةٌ موضوعية متكاملة، فلا يقتصر على بيان وتقويم الجانب الفكري والعقدي والعلمي في تلك الأحداث، ولا يهمل أحداث تاريخ وملابساته وتطوراته السياسية والاجتماعية.
ويتضح هذا التقرير من خلال حديثه عن التلازم بين صحة المعتقد وسلامته، واستقرار الدول واستمرارها، وأن القيام بدين الله يحقق قوة للدولة وثباتاً، والعكس صحيح.
فيقرر في موطن أن خروج ولاة الأمور عن الحكم بما أنزل الله، يوقع البأس بينهم، كما في قوله: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم" [18]، وأن هذا من أعظم أسباب تغيير الدول [19].
ولما تحدث عن سقوط دولة بني أمية، أشار إلى شؤم البدع، فآخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد من تلاميذ الجعد بن درهم، وينسب إليه (مروان الجعدي)!
وكما عبّر أبو العباس ها هنا: "إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل وانتصر لهم" [20]، فهذا الجعد المعطل من أسباب انقراض دولة بني أمية [21]، وكذا الشأن في دولة بني العباس، فإن استيلاء التتار على بلاد المشرق لأجل ظهور الفلاسفة فيهم، وضعف الشريعة، فكان ظهور الإلحاد والنفاق من أسباب دخول التتار ديار المسلمين، ومن ذلك ظهور كتاب: (السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم للفخر الرازي) [22]، إضافة إلى أن ظهور البدع يُضعف الدول، فظهور المشاهد والبناء على القبور مع ضعف الدولة العباسية في عهد الخليفة المقتدر أواخر المائة الثالثة [23].
- يمكن القول إن من قواعد التاريخ وسننه المطردة التي سجلها ابن تيمية من خلال تأصيل شرعي وواقعي؛ التلازم بين ظهور البدع والمحدثات، وظهور الكفر والإشراك، ومن ذلك قوله: "لما أحدثت الجهمية محنتهم، ودعوا الناس إليها، وضُرب أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين؛ كان مبدأ حدوث القرامطة الملاحدة الباطنية من ذلك الزمان، فصارت البدع باب الإلحاد" [24].
وقال في كتاب آخر: "لما ظهر النفاق والبدع المخالف لدين الله، سُلّطت عليهم الأعداء؛ فخرجت الروم النصارى إلى الشام، وأخذوا الثغور الشامية إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة" [25]، والمقصود أن نظرات عالم رباني لأحداث التاريخ ومجرياته -وكأن العلوم بين عينيه-؛ إنها لنظرات عامرة بالعبر والفتوحات، والسنين الثابتات.
ولقد كانت دراية أبي العباس بالتاريخ، وتمكنه من ذلك كانت سبيلاً لإبطال أكاذيب طائلة، وشبهات ثائرة، ومن ذلك: تكذيبه جملة من القبور والمشاهد المفتعلة لصحابة أو صالحين [26]، كما أن درايته بالتاريخ جعلته يجزم بكذب ما افتراه اليهود من كتاب وضعوه على رسول الله، فأظهر أبو العباس كذبه من وجوه عدة [27].
وكذا معرفته بالتاريخ وسنن الله وعوائده في الآفاق وفي الأنفس، أعانته على تلك الفراسة الإيمانية في القطع بوقوع حوادث في المستقبل [28].
وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان العدد 326 شوّال 1435هـ، أغسطس 2014م.
[1] قالها مطرف بن عبد الله. ينظر: عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 393.
[2] المنتظم لابن الجوزي 9/ 172.
[3] العقود الدرية لابن عبد الهادي (ت: العمران) ص 13.
[4] العقود الدرية لابن عبد الهادي (ت: العمران) ص 33.
[5] الرد على المنطقيين ص 334.
[6] الرد على المنطقيين ص 332، وينظر: الدر 1/157.
[7] ينظر: الاستقامة 1/3، والفتاوى 3/421، والرد على المنطقين ص 332.
[8] ينظر: الجواب الصحيح 4/310، والرد على المنطقيين ص 337.
[9] ينظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 7.
[10] أخرجه أبو داود، وأورده مسلم في مقدمة صحيحه معلقاً. ينظر: شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص 467.
[11] الفتاوى 3/163.
[12] الفتاوى 2/138.
[13] ينظر: منهاج السنة 6/300.
[14] ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 1/289.
[15] ينظر: شرح الأصفهانية ص675، الفتاوى 13/ 225، 28/ 489.
[16] الفتاوى 4/ 20.
[17] منهاج السنة 4/ 130.
[18] أخرجه ابن ماجه ح (4019)، والحاكم (4/ 540)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب 1/321.
[19] انظر: الفتاوى 35/ 388.
[20] الفرقان بين الحق والبطلان ص 529.
[21] المرجع السابق ص 545.
[22] ينظر: الفتاوى 2/ 245، 4/ 104، 22/ 254، الفرقان بين الحق والبطلان ص 539.
[23] ينظر: الفتاوى 27/265، 469، وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وأهل الأوثان ص 151، والفرقان بين الحق والبطلان ص 532.
[24] الفتاوى 17/338، وينظر: الفتاوى 17/501.
[25] الفرقان بين الحق والبطلان ص 533=باختصار.
[26] ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/646، الفتاوى 4/516، 27/170.
[27] ينظر: المستدرك على الفتاوى 3/235.
[28] ينظر: المستدرك على الفتاوى 1/186.
- التصنيف: