صور غياب الحكم الإسلامي
وباستعراض هذه الحالات نجد أن نسبة وجود مجتمع مسلم في ظل حكم إسلامي، هي 1 إلى 6 من مجموع الاحتمالات الأخرى، وهي ليست احتمالات افتراضية، بل وقعت تاريخياً في فترات زمنية طويلة نسبياً، وفي رقعة جغرافية عريضة ومختلفة، وفي ظروف متباينة، وبعض صورها لا يزال قائماً حتى اليوم.
إن من سنن الله تعالى في هذه الأمة، كما الأمم السابقة؛ أن تزول دولتها ويغيب الحكم الإسلامي عنها. وهذا الغياب له صور مختلفة ومستويات متعددة.
جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: « » (أخرجه أحمد وغيره، وصححه الحاكم).
ونقض الحكم هنا لا يكون في مرحلة واحدة، أو في صورة واحدة، وإنما في تدرج سنني كما جاء في الحديث الآخر: « »؛ ثُمَّ سكت (أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني).
وهذا التحول في المشهد السياسي للإسلام يترافق معه انسحاب في المشهد الديني (التدين) لدى الأمة، دون أن يعني ذلك بالضرورة تكفير الناس مع جهلهم وبعدهم عن عهد النبوة، وكثرة التنازع والخلاف بين مذاهبهم وطوائفهم، فقد روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعه، قال: « ». فقال صِلَةُ: "وما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك؟"، فأعرض عنه حذيفة، ثمَّ ردَّها عليه ثلاثاً، كُلُّ ذلك يُعْرِضُ عنه حذيفة، ثمَّ أقبل عليه في الثالثة، فقال: "يا صلة تنجيهم من النار".. ثلاثاً (أخرجه الحاكم في مستدركه).
وهنا يمكن رصد حالات الجماعة المسلمة أو الفرد المسلم مع الحكم الإسلامي في الصور التالية:
أولاً: وجود مجتمع مسلم في ظل دولة مسلمة:
وهذا الوضع هو الوضع الطبيعي الأكمل والأوجب عند القدرة والتمكن، حيث توجد الجماعة المسلمة المستقلة بأرضها ومصالحها ومقدراتها، ويوجد الكيان السياسي المنبثق من إرادتها والخادم لأهدافها ومصالحها، فتكون السيادة للشريعة والقرار للأمة. وهذا الوضع الأكمل والأوجب لم يكن عبر التاريخ هو الطاغي والدائم؛ لأن فئة الإيمان كانت في الغالب هي الفئة الأقل والأضعف، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في كثير من الآيات.
وللحاكم في هذا الوضع عدة أحوال:
1. أن يكون مسلماً من أهل الديانة، والإنصاف والعدل، وتتحقق فيه الكفاءة لتولية المنصب، وقائماً بمهامه ووظائفه كما أمر الله تعالى؛ وهذا هو النموذج الأكمل للحاكم المسلم الذي يجب طاعته والسمع له والاجتماع عليه.
2. أن يكون مسلماً من أهل الفسوق أو البدعة، أو من أهل الظلم والجور، أو غير كفء لتولي الحكم، أو غير قائم بمهامه ووظائفه، أو جامعاً بين سوأتين من هذه العلل أو أكثر؛ فهذا وإن كان يجب طاعته في المعروف، واحتمال أذاه، والصبر على جوره، ومناصحته، والإنكار عليه، وعدم موالاته في الباطل أو البدعة أو المعصية أو الظلم؛ إلا أنه ينبغي عزله في حال أوقع المسلمين في فساد وضعف عام لا يصلح معه دين ولا تقوم به دنيا، متى ما كان ذلك ممكناً.
وفي الحالين تظل الدولة مسلمةً تجري عليها أحكام الإسلام؛ نظراً لكون السيادة فيها للشريعة، ولكون الحاكم لا يزال متصفاً بالإسلام.
ثانياً: وجود مجتمع مسلم مع غياب الحكم الإسلامي جزئياً:
وهذا الوضع ينشأ في بلد مسلم ومع وجود مجتمع مسلم في حالتين:
1. احتلال الكفار أجزاء من بلاد المسلمين وهيمنتهم عليها: وقد جرى هذا كثيراً في تاريخ الإسلام وبلدانه، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً؛ فقد احتُلَّت أجزاء كبيرة من بلاد المسلمين في زمن العباسيين من قبل النصارى والتتر، كما احتُلَّت أيضاً من قبل الدول الأوروبية الاستعمارية خلال التاريخ الحديث، واحتلت أيضاً من قبل الاتحاد السوفييتي ودول أخرى، وكذلك الشأن بالنسبة لإسرائيل في فلسطين؛ فهذه جميعاً بلاد إسلامية فتحت ودخل معظم أهلها في الإسلام، وأقام بها المسلمون دهراً من الزمان، ثمَّ وقعت تحت حكم الكافر الأجنبي.
ولم تكن صور الاحتلال الأجنبي الكافر على قدر واحد من المعاملة مع المسلمين، فإنَّ بعض صور الاحتلال هذه كانت ظالمة ومجرمة، أهلكت الحرث والنسل، ودمَّرت العمران والمعالم، وطمست الهوية والتاريخ؛ كما جرى في الأندلس من قبل النصارى، وفي أجزاء من المشرق الإسلامي من قبل التتر، وفي مستعمرات عدة من قبل الدول الأوروبية المحتلة، وفي دول وسط آسيا من قبل الاتحاد السوفييتي. فلم يكُن للمسلمين إلا خيارات محدودة، هي: الجهاد والمقاتلة، أو الهجرة والفرار، أو البقاء تحت حكم المستعمر مع إخفاء الدين والهوية، وفي أحيان نادرة البقاء مع إظهار دينهم وممارسة شعائره، لكن مع هضم في بعض الحقوق والكرامة والعدل. وقد سجَّلَ ابن تيمية في إحدى فتاواه صورة من هذه الصور النادرة في ماردين، معتبراً إياها داراً ثالثة؛ لكونها ليست دار إسلام خالصة ولا دار حرب خالصة، وإنما فيها من هذا وذاك؛ فإن المسلمين قد أقاموا فيها معتنقين دينهم وممارسين شعائرهم دون عدوان عليهم. وهذه الصورة باتت أكثر حضوراً مع قيام مفاهيم جديدة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق الدولية المتعلقة بالسلم والحرب والأقليات الدينية والعرقية والحريات العامة؛ فتحسنت ظروف المسلمين في كثير من تلك البلدان التي احتلت، وهي كثيرة جداً.
واليوم ترضخ عدة أقاليم ومقاطعات يعيش فيها عشرات أو مئات الملايين من المسلمين تحت حكمٍ كافر، إما في ظل اضطهاد عرقي وديني وتمييز طبقي، أو في ظل حكم ذاتي يراعي خصوصيتهم، أو كجزء من المجتمع دون أي فوارق تذكر نظراً لديمقراطية الدولة.
2. تغَلُّبُ طائفةٍ من الزنادقة وأهل الإلحاد على أجزاء من بلاد المسلمين وهيمنتهم عليها: وهذا كما وقع مع القرامطة والفاطميين والحشاشين والإسماعيليين وغيرهم من الفرق التي حكم علماء الإسلام بكفرها. وقد قامت دول هؤلاء في جزيرة العرب واليمن، وفي مصر وشمال إفريقيا، وفي الشام والعراق، وفي فارس وما وراءها. وبعضها امتد لعشرات السنين واحتل رقعة جغرافية عريضة. وكثير من هذه الدول أظهرت بعد تمكنها الكفر الصراح والزندقة الواضحة، وربما أرغمت الناس على الدخول في معتقداتها قهراً وخوفاً، وهي تنطلق في ذلك من وجوب أن تكون عقيدة المجتمع ومذهبه على عقيدة الدولة ومذهبها.
وتمثل فتاوى وتعامل علماء الإسلام مع هذه الأنظمة الحاكمة في تلك الفترة، ميراثاً خصباً للرجوع إليه والاستفادة منه؛ إلا أن ما يجب مراعاته هو التفريق بين أحكامهم المطلقة وتنزيلهم لهذه الأحكام عند الفتيا؛ فإن تنزيلهم للأحكام ربما راعى في تلك الحقبة اعتبار حال الأمة قوة أو تديناً أو وعياً، والمصالح والمفاسد المترتبة على إنزال الأحكام، فلا ينبغي قياسه بالواقع إلا في ضوء نفس المعطيات وذات الظروف والمعايير.
ثالثاً: وجود مجتمع مسلم في دولة كافرة:
وهذه الصورة قد تنشأ عن:
1. قيام دعوة إسلامية في وسط مجتمع كافر ودولة كافرة، فيؤمن منهم جمع من الناس: كما هي حال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم في بداية الدعوة، وكما هي حال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته في مكة المكرمة. فالجماعة المسلمة في هذه الحال جزء لا يمكن فصله أو عزله عن نسيج المجتمع؛ لكون معتقدها طارئاً على المجتمع الأصلي، لكنها في المقابل تظل مرفوضة من الملأ عادة، نظراً لما تحمله من عقائد وتصورات وقيم تهدد مصالحهم ونفوذهم؛ من ثمَّ فهم يمارسون عليها التضييق والتشويه والحصار والكيد.
2. هجرة جموع من المسلمين إلى بلاد كافرة أصلاً طلباً للعدل أو الأمان أو الرزق أو حاجات أخرى: وهذا كما يقع لأتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عندما يضطهدون في بلدانهم فيهاجروا فراراً بدينهم إلى دول كافرة لعدلها وأمن العيش بها. والهجرة إلى الحبشة -الأولى والثانية- هي من هذا القبيل. وكذلك دخول يعقوب وأبنائه وأهله لمصر فيه طلب الأمن وضرورات العيش والاجتماع. كما أن هجرة كثير من المسلمين إلى الدول الأوروبية والأمريكية في العصور المتأخرة، كانت إمَّا فراراً بالدين، أو طلباً للأمن والعدل، أو بحثاً عن الرزق والعيش الكريم، فأوجدت مجتمعات مسلمة ضمن نسيج اجتماعي كافر كان منفتحاً ومرحباً ومتعايشاً. وغالباً ما أُعطِيَ هؤلاء المهاجرين الجنسية التي يتمتعون بموجبها بحقوق المواطنة كاملاً، أو الإقامة الدائمة مع التمتع بحقوق قانونية تمكنهم من العيش والتعلم والعمل والتملك دون الحقوق السياسية.
رابعاً: وجود مجتمع مسلم مع غياب أي سلطة كلياً:
وهذه الصورة يُمثِّلها حال المسلمين في المدينة النبوية بعد السنة الثانية عشرة للبعثة حتى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها؛ فإن المجتمع المسلم في تلك الفترة لم يكن خاضعاً لسلطة سياسية، وإن كان يتمتع بإدارة ذاته ضمن مجموعة مكونات اجتماعية (قبلية) ودينية تشكلت عبر التاريخ، وبالرجوع إلى ما يحضره من التعاليم المستجدة من مرجعيته الدينية في مكة.
وهذه الصورة تشابه -أيضاً- إلى حدٍّ ما حال الأمة في آخر الزمان، عندما يبلغ بها التفرق في الدِّين والتنازع في الدنيا حداً لا يقوم لها معه جماعة ولا كيان سياسي. وهذا أمر افترضه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- بسؤاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن لم يَكُن لهُم جَمَاعَةٌ ولا إِمَام" (أخرجه البخاري). وقد افترضه الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم)، وناقش فرضياته وأحكامه، فكان أوَّل من تعرض لهذه المسألة فيما بين أيدينا من التراث بهذا التوسع.
ويشبه هذا الاحتمال في واقعنا اليوم الفترات التي مرت بها أفغانستان بعد إخراج الاحتلال السوفييتي منها، والصومال في فترة النزاع الذي دار بين القوى السياسية والاجتماعية؛ حيث غابت سلطة سياسية جامعة، وساد التحزب والتعصب على رايات مختلفة فكرية وحركية وقبلية، ودخلت البلاد في فوضى عارمة من الاحتراب والقتال.
خامساً: وجود حاكم مسلم في دولة كافرة:
وهذه الصورة لها حالتان:
1. أن يكون الحاكم كافراً في الأساس، وفي مجتمع كافر، ثمَّ يُسلِم ويتخلف قومه عن الإسلام، سواء أمكنه إظهار دينه أو لم يمكنه ذلك، كما هي حال النجاشي -رحمه الله- مع قومه في الحبشة.
2. أن يكون الحاكم من أقلية مسلمة في مجتمع كافر ودولة كافرة، لكن نظام الحكم يسمح بتولي غير المسلم للحكم لكن بما اتُّفِقَ عليه من مبدأ حكم ودستور وقانون، كما هي حال بعض الدول الغربية التي لا تمانع من وصول مسلم إلى سدة الحكم طالما أنه سيحكمها بمبادئها وقوانينها. وهذا ما وقع مع الرئيس البوسني "علي عزت بيجوفيتش". وشبيه به ما وقع ليوسف -عليه الصلاة والسلام-.
سادساً: غياب جماعة مسلمة وحكم إسلامي:
وهذا كحال الدولة الكافرة التي لا يوجد فيها مسلمون بأي شكل من الأشكال، وقد وُجِدَ هذا عبر التاريخ، لكنه اليوم نادر؛ نظراً لانتشار الإسلام وانفتاح العالم على بعضه البعض في التنقل والإقامة. وقد يَقَعُ استثناءً في لحظة تاريخية ما كما أشارت إلى ذلك الأحاديث المخبرة بأنه: « »، وفيها: « »، وجاءت في أكثر من رواية بعضها في البخاري ومسلم.
وباستعراض هذه الحالات نجد أن نسبة وجود مجتمع مسلم في ظل حكم إسلامي، هي 1 إلى 6 من مجموع الاحتمالات الأخرى، وهي ليست احتمالات افتراضية، بل وقعت تاريخياً في فترات زمنية طويلة نسبياً، وفي رقعة جغرافية عريضة ومختلفة، وفي ظروف متباينة، وبعض صورها لا يزال قائماً حتى اليوم. وقد حفظ لنا الموروث الفقهي فتاوى عدد من العلماء في تلك الأزمنة حول تولي المناصب وتقلد الولايات العامة، وهي من دون شك فتاوى اجتهادية انطلقت من فقه الواقع وتكييفه تكييفاً شرعياً، ومن أصولها وقواعدها المذهبية في النظر والاستدلال، ومن شواهد ونصوص الكتاب والسنة، ومن المقاصد العامة للشريعة. وهذا يجعلنا بالضرورة نضعها في سياقها التاريخي أولاً، وفي سياق الشخصية ذاتها التي أنتجت الفتوى، وسياق المذهب الذي مثَّل المسار الفكري للنظر والاستدلال، ثم في سياق النصوص والشواهد التي جرى الاستناد إليها، والمقاصد والعلل التي اعتمد عليها.
أنور قاسم الخضري
- التصنيف: