الشبابُ والمشيب!
الأمّة في مسيرتها الحضاريّة الطويلة عرفت كثيراً المواقف المتطرّفة، والاستنتاجات السلبيّة، المجافية لمنهج النبوّة، الذي هو القدوة والميزان، وترى أصحابها يدعون إليها، ويرغّبون بها، ويظنّون أنّها المثاليّة الشرعيّة المطلوبة، ويستشهد الآخرون بأقوالهم، مستحسنين لها، مرغّبين بها.
الإسلام ينظر إلى الدنيا نظرة إيجابيّة بنّاءة، من خلال حقائق الإيمان بالله واليوم الآخر، وتكليف الإنسان ومسئوليّته، وأمر الله لعباده بعمارة الأرض وفق منهجه، الذي ارتضاه لهم. ولكنّ الأمّة في مسيرتها الحضاريّة الطويلة عرفت كثيراً المواقف المتطرّفة، والاستنتاجات السلبيّة، المجافية لمنهج النبوّة، الذي هو القدوة والميزان، وترى أصحابها يدعون إليها، ويرغّبون بها، ويظنّون أنّها المثاليّة الشرعيّة المطلوبة، ويستشهد الآخرون بأقوالهم، مستحسنين لها، مرغّبين بها.
نقرأ نموذجاً من ذلك قول أبي العتاهية في التزهيد بالدنيا:
هيَ الدارُ دارُ الأذى والقذَى ودارُ الفناءِ ودارُ الغِيَر
ولو نلتَها بحَذافِيرها لمتَّ ولم تقضِ منها الوَطَر
أيا مَن يُؤمّلُ طُولَ البقا وطُولُ الخُلُودِ عَليهِ ضَرَر
إذا ما كَبِرتَ وفاتَ الشبابُ فلا خيرَ في العَيشِ بعدَ الكِبَر
فالبيتان الأوّل والثاني وصف لطبيعة الدنيا، وأنّ الإنسان راحل عنها مهما عمّر، وأنّه لن يقضي منها كلّ أوطاره، مهما متّع بها.
وفي البيت الثالث حصر الشاعر عاقبة رغبة الإنسان بطول البقاء بالضرر، الذي يعانيه الإنسان في شيخوخته من العلل والأمراض، وفي ذلك من التشاؤم وضيق النظر ما فيه.
وتمادى الشاعر في البيت الأخير في نظرته المتشائمة، فلم يوفّق، ولم يسدّد، إذ نظر للأمور من زاوية ضيّقة؛ جعلته يندب فوات الشباب، ويزري بحال الكبر والمشيب، وما علم أنّ في الكبر خيراً عظيماً: من بعد النظر، وحسن التقدير للمواقف، ونضج التجرِبة وغَنائها، وسداد الرأي واتّزانه، وقطف ثمار العمل الجادّ في مرحلة الشباب، وهو ما يفتقده الشباب في أكثر الأحوال. وأعظم من ذلك كلّه التزوّد للآخرة بالعمل الصالح، فخيركم من طال عمره، وحسن عمله.
وقد رصد ذلك الإمام الربّانيّ ابن الجوزيّ رحمه الله، فأحسن عرضه وتصويره، إذ يقول في كتابه الماتع (صيد الخاطر) (1/109): "دعوت يوماً فقلت: اللهمّ بلّغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحبّ من ذلك، فعارضني وسواس من إبليس فقال: ثمّ ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟ فقلت له: يا أبله: لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنّه ليس بعبث، أليس في كلّ يوم يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي فأشكر يوم حصادي؟ أفيسرّني أنّني متّ منذ عشرين سنة؟ لا والله لأنّي ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم، كلّ ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلّة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطّلعت على علوم زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثمّ زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي. وقد قال الله لسيد المرسلين: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]".
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا يَزيدُ المؤمنَ عُمرُه إلاّ خَيراً».
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من السعادة أن يطول عمر العبد، ويرزقه الله عزّ وجلّ الإنابة» (السلسلة الضعيفة: 885)، فيا ليتني قدرت على عمر نوح، فإنّ العلم كثير، وكلّما حصل منه حاصل رفع ونفع".
وقال في (كشف الخفاء) (1 / 384) في الحديث: «خَيرُكم مَن طالَ عُمُرُه وحَسُنَ عَملُه» [1].
ويؤكّد معنى الحديث ما رواه أحمد وغيره أن ثلاثة من بني عذرة أسلموا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من يكفيهم؟ قال أبو طلحة: أنا، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج أحدهم فيه فقتل، ثمّ آخر فقتل، ثمّ مات الثالث، فرآهم أبو طلحة في الجنة، والميّت على فراشه أمامهم وأوّلهم فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتكبيره وتحميده وتسبيحه وتهليله» [2].
فالشباب من أجلّ نعم الله على العبد، وقليل من يقدّر هذه النعمة، ويحسن استثمارها، والمشيب نعمة ومنحة، ليحسن العبد العمل، ويستدرك قبل حلول الأجل. فالحمد لله الذي منّ بنعمة الشباب، وأتمّ النعمة بحكمة المشيب، ومتّع بالعافية، ونسأله سبحانه حسن الختام والعاقبة.
------------------------------
[1] رواه أحمد والترمذي وصححه عن عبد الله بن بشر بلفظ: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله»، ورواه أحمد والحاكم وصححه الترمذي بهذا اللفظ، وزاد عقبة: «وشرّ الناس من طال عمره وساء فعله».
[2] رواه أحمد عن طلحة بن عبيد الله، رمز المصنف لصحته وهو كما قال، فقد قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. ورواه من الستة النسائي أيضا فما أوهمه اقتصار المصنف على أحمد من أنه لم يخرج في أحدها غير جيد. (فيض القدير: 5 / 461).
د. عبد المجيد البيانوني
- التصنيف:
- المصدر: