الأحكام السلطانية للماوردي - (38) في ولاية المظالم (3)
حُكِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، فَنَهَضَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ مَجْلِسٍ نَظَرَهُ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ فِي ثِيَابٍ رَثَّةٍ فَقَالَتْ:
الباب السابع: في ولاية المظالم (3)
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّعْوَى عِنْدَ التَّرَافُعِ فِيهَا إلَى وَالِي الْمَظَالِمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُقَوِّيهَا، أَوْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُضْعِفُهَا، أَوْ تَخْلُوَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ اُقْتُرِنَ بِهَا مَا يُقَوِّيهَا فَلِمَا اُقْتُرِنَ بِهَا مِنَ الْقُوَّةِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ، تَخْتَلِفُ بِهَا قُوَّةُ الدَّعْوَى عَلَى التَّدْرِيجِ.
فَأَوَّلُ أَحْوَالِهَا: أَنْ يَظْهَرَ مَعَهَا كِتَابٌ فِيهِ شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ حُضُورٌ، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْتَدِئُ النَّاظِرُ فِيهَا بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ.
وَالثَّانِي: الْإِنْكَارُ عَلَى الْجَاحِدِ بِحَسَبِ حَالِهِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ، فَإِذَا أُحْضِرَ الشُّهُودُ، فَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ مِمَّنْ يُجَلُّ قَدْرُهُ؛ كَالْخَلِيفَةِ أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَوْ أَمِيرِ إقْلِيمٍ، رَاعَى مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَنَازِعِينَ مَا تَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّاظِرِ بَيْنَهُمَا إنْ جَلَّ قَدْرُهُمَا، أَوْ رَدَّ ذَلِكَ إلَى قَاضِيهِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ، أَوْ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ إنْ كَانَا خَامِلَيْنِ.
حُكِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، فَنَهَضَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ مَجْلِسٍ نَظَرَهُ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ فِي ثِيَابٍ رَثَّةٍ فَقَالَتْ "مِنَ الْبَسِيطِ":
يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهْدَى لَهُ الرَّشَدُ *** وَيَا إمَامًا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْبَلَدُ
تَشْكُو إلَيْكَ عَمِيدَ الْمُلْكِ أَرَمَلَةٌ *** عَدَا عَلَيْهَا فَمَا تَقْوَى بِهِ أَسَدُ
فَابْتَزَّ مِنْهَا ضِيَاعًا بَعْدَ مَنْعَتِهَا *** لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْهَا الْأَهْلُ وَالْوَلَدُ
فَأَطْرَقَ الْمَأْمُونُ يَسِيرًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ "مِنَ الْبَسِيطِ":
مِنْ دُونِ مَا قُلْتِ عِيلَ الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ *** وَأَقْرَحَ الْقَلْبَ هَذَا الْحُزْنُ وَالْكَمَدُ
هَذَا أَوَانُ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَانْصَرِفِي *** وَأَحْضِرِي الْخَصْمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَعِدُ
الْمَجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الْجُلُوسُ لَنَا *** أُنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلَّا الْمَجْلِسُ الْأَحَدُ
فَانْصَرَفَتْ وَحَضَرَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا الْمَأْمُونُ: مَنْ خَصْمُكِ؟ فَقَالَتْ: الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِقَاضِيهِ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ[1]، وَقِيلَ: لِوَزِيرِهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ: أَجْلِسْهَا مَعَهُ وَانْظُرْ بَيْنَهُمَا، فَأَجْلَسَهَا مَعَهُ وَنَظَرَ بَيْنَهُمَا بِحَضْرَةِ الْمَأْمُونِ، وَجَعَلَ كَلَامُهَا يَعْلُو، فَزَجَرَهَا بَعْضُ حُجَّابِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: دَعْهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ أَنْطَقَهَا، وَالْبَاطِلَ أَخْرَسَهُ، وَأَمَرَ بِرَدِّ ضِيَاعِهَا عَلَيْهَا، فَفَعَلَ الْمَأْمُونُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ كَانَ بِمَشْهَدِهِ، وَلَمْ يُبَاشِرْهُ بِنَفْسِهِ لِمَا اقْتَضَتْهُ السِّيَاسَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ رُبَّمَا تَوَجَّهَ لِوَلَدِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَصْمَ امْرَأَةٌ يَجِلُّ الْمَأْمُونُ عَنْ مُحَاوَرَتِهَا، وَابْنُهُ مِنْ جَلَالَةِ الْقَدْرِ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَى إلْزَامِهِ الْحَقَّ، فَرَدَّ النَّظَرَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إلَى مَنْ كَفَاهُ مُحَاوَرَةَ الْمَرْأَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى وَاسْتِيضَاحِ الْحُجَّةِ، وَبَاشَرَ الْمَأْمُونُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ وَإِلْزَامَ الْحَقِّ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا كِتَابٌ فِيهِ مِنَ الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا تُعَجِّلُ مِنْ إقْرَارِهِ بِقُوَّةِ الْهَيْبَةِ مَا يُغْنِي عَنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ.
وَالثَّانِي: التَّقَدُّمُ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ إذَا عَرَفَ مَكَانَهُمْ وَلَمْ يُدْخِلِ الضَّرَرَ الشَّاقَّ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّالِثُ: الْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَيُجْهِدُ رَأْيَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْحَالِ مِنْ قُوَّةِ الْإِمَارَةِ وَدَلَائِلِ الصِّحَّةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي الذِّمَّةِ كَلَّفَهُ إقَامَةَ كَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا قَائِمًا كَالْعَقَارِ حَجَرَ عَلَيْهَا فِيهَا حَجْرًا لَا يُرْفَعُ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ، وَرَدَّ اسْتِغْلَالَهَا إلَى أَمِينٍ يَحْفَظُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنْهُمَا.
فَإِنْ تَطَاوَلَتِ الْمُدَّةُ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ حُضُورِ الشُّهُودِ، جَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ مَعَ تَجْدِيدِ إرْهَابِهِ، فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ دُخُولِ يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَلِلنَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ اسْتِعْمَالُ الْجَائِزِ، وَلَا يَلْزَمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ أَجَابَ بِمَا يَقْطَعُ التَّنَازُعَ أَمْضَاهُ وَإِلَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا شُهُودٌ حُضُورٌ، لَكِنَّهُمْ غَيْرُ مُعَدَّلِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاظِرُ فِيهَا بِإِحْضَارِهِمْ وَسَبْرِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِدُهُمْ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ:
إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَأَهْلِ الصِّيَانَاتِ فَالثِّقَةُ بِشَهَادَاتِهِمْ أَقْوَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَرْذَالًا فَلَا يَقْوَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يُقَوَّى بِهِمْ إرْهَابُ الْخَصْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَوْسَاطًا فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِإِحْلَافِهِمْ إنْ رَأَى قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا.
ثُمَّ هُوَ فِي سَمَاعِ شَهَادَةِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: إمَّا أَنْ يَسْمَعَهَا بِنَفْسِهِ فَيَحْكُمُ بِهَا.
وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ إلَى الْقَاضِي سَمَاعَهَا لِيُؤَدِّيَهَا الْقَاضِي إلَيْهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا بِشَهَادَةِ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُ.
وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ سَمَاعَهَا إلَى الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ، فَإِنْ رَدَّ إلَيْهِمْ نَقْلَ شَهَادَتِهِمْ إلَيْهِ لَمْ يُلْزِمْهُمْ
اسْتِكْشَافَ أَحْوَالِهِمْ، وَإِنْ رَدَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ بِمَا يَصِحُّ مِنْ شَهَادَتِهِمْ لَزِمَهُمْ الْكَشْفُ عَمَّا يَقْتَضِي قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ؛ لِيَشْهَدُوا بِهَا بَعْدَ الْعِلْمِ لِصِحَّتِهَا؛ لِيَكُونَ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ بِحَسَبِهَا.
وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ مَوْتَى مُعَدَّلِينَ، وَالْكِتَابُ مَوْثُوقٌ بِصِحَّتِهِ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يَضْطَرُّهُ إلَى الصِّدْقِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ.
وَالثَّانِي: سُؤَالُهُ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَوَابِهِ مَا يَتَّضِحُ بِهِ الْحَقُّ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْحَالِ مِنْ جِيرَانِ الْمِلْكِ وَمِنْ جِيرَانِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِ؛ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى وُضُوحِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ رَدَّهَا إلَى وَسَاطَةِ مُحْتَشَمٍ مُطَاعٍ، لَهُ بِهِمَا مَعْرِفَةً وَبِمَا تَنَازَعَاهُ خِبْرَةً؛ لِيَضْطَرَّهُمَا بِكَثْرَةِ التَّرْدَادِ وَطُولِ الْمَدَى إلَى التَّصَادُقِ وَالتَّصَالُحِ، فَإِنْ أَفْضَى الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا إلَى أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا بَتَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْقَضَاءِ.
وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُدَّعِي خَطُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَى، فَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِيهِ يَقْتَضِي سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْخَطِّ؛ وَأَنْ يُقَالَ لَهُ أَهَذَا خَطُّكَ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ يُسْأَلُ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ عَنْ صِحَّةِ مَا تَضَمَّنَهُ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ صَارَ مُقِرًّا وَأُلْزِمَ حُكْمَ إقْرَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، فَمِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَطِّهِ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ الْحُقُوقِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُوهُمْ، وَمَا يَرَاهُ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مِنْهُمْ أَنْ يَحْكُمَ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِصِحَّةِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ لَا يُبِيحُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِيهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ مِنْ خَطِّهِ، فَإِنْ قَالَ: كَتَبْتُهُ لِيُقْرِضَنِي وَمَا أَقْرَضَنِي، أَوْ لِيَدْفَعَ إلَيَّ ثَمَنَ مَا بِعْتُهُ وَمَا دَفَعَ، فَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ مِنَ الْإِرْهَابِ بِحَسَبِ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْحَالُ وَتَقْوَى بِهِ الْأَمَارَةُ، ثُمَّ يُرَدُّ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتْ إلَى الصُّلْحِ وَإِلَّا بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْخَطَّ، فَمِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ مَنْ يَخْتَبِرُ الْخَطَّ بِخُطُوطِهِ الَّتِي كَتَبَهَا، وَيُكَلِّفُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْكِتَابَةِ مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَنُّعِ فِيهَا، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ، فَإِذَا تَشَابَهَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اعْتِرَافَهُ الْخَطَّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِإِرْهَابِهِ،
وَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مَعَ إنْكَارِهِ لِلْخَطِّ أَضْعَفَ مِنْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِهِ، وَتُرْفَعُ الشُّبْهَةُ إنْ كَانَ الْخَطُّ مُنَافِيًا لِخَطِّهِ، وَيَعُودُ الْإِرْهَابُ عَلَى الْمُدَّعِي، ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتِ الْحَالُ إلَى الصُّلْحِ وَإِلَّا بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالْأَيْمَانِ.
وَالْحَالَةُ السَّادِسَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: إظْهَارُ الْحِسَابِ بِمَا تَضَمَّنَتِ الدَّعْوَى، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِسَابِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إمَّا أَنْ يَكُونَ حِسَابَ الْمُدَّعِي أَوْ حِسَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ حِسَابَ الْمُدَّعِي فَالشُّبْهَةُ فِيهِ أَضْعَفُ، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ يَرْجِعُ فِي مِثْلِهِ إلَى مُرَاعَاةِ نَظْمِ الْحِسَابِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلًّا يُحْتَمَلُ فِيهِ الْإِدْغَالُ كَانَ مُطْرَحًا، وَهُوَ بِضَعْفِ الدَّعْوَى أَشْبَهُ مِنْهُ بِقُوَّتِهَا، وَإِنْ كَانَ نَظْمُهُ مُتَّسِقًا وَنَقْلُهُ صَحِيحًا فَالثِّقَةُ بِهِ أَقْوَى، فَيَقْتَضِي مِنَ الْإِرْهَابِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِهِ، ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى الْوَسَاطَةِ، ثُمَّ إلَى الْحُكْمِ الْبَاتِّ.
وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَتْ الدَّعْوَى بِهِ أَقْوَى، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى خَطِّهِ أَوْ خَطِّ كَاتِبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى خَطِّهِ فَلِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ فِيهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَهَذَا خَطُّكَ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ قِيلَ: أَتَعْلَمُ مَا هُوَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَعْرِفَتِهِ قِيلَ: أَتَعْلَمُ صِحَّتَهُ؟ فَإِنْ أَقَرَّ بِصِحَّتِهِ صَارَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ مُقِرًّا بِمَضْمُونِ الْحِسَابِ، فَيُؤْخَذُ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ خَطُّهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمَ بِالْخَطِّ مِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ حِسَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، وَجَعَلَ الثِّقَةَ بِهَذَا أَقْوَى مِنَ الثِّقَةِ بِالْخَطِّ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ الْحِسَابَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَبْضُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحِسَابِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّةِ مَا فِيهِ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي مِنْ فَضْلِ الْإِرْهَابِ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْخَطُّ الْمُرْسَلُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْعُرْفِ، ثُمَّ يُرَدَّانِ بَعْدَهُ إلَى الْوَسَاطَةِ، ثُمَّ إلَى بَتِّ الْقَضَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَطُّ مَنْسُوبًا إلَى كَاتِبِهِ سُئِلَ عَنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِ كَاتِبِهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا فِيهِ أُخِذَ، بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ يُسْأَلْ عَنْهُ كَاتِبُهُ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ ضَعُفَتْ الشُّبْهَةُ بِإِنْكَارِهِ وَأُرْهِبَ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا، وَلَمْ يُرْهَبْ إنْ كَانَ مَأْمُونًا، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ وَبِصِحَّتِهِ صَارَ شَاهِدًا بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ إنْ كَانَ عَدْلًا، وَيَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إمَّا مَذْهَبًا وَإِمَّا سِيَاسَةً تَقْتَضِيهَا شَوَاهِدُ الْحَالِ، فَإِنَّ لِشَوَاهِدِ الْحَالِ فِي الْمَظَالِمِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا فِي الْإِرْهَابِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْأَحْوَالِ بِمُقْتَضَى شَوَاهِدِهَا[2].
__________
(1) هو أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان بن مشنج، التميمي الأسيدي المروزي، من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب، وعالمًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي رضي الله عنه.
وقال الخطيب في "تاريخ بغداد": كان يحيى بن أكثم سليمًا من البدعة، ينتحل مذهب أهل السنة، سمع عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما.
(2) قال ابن قدامة من الحنابلة: وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل في المال أو ما يقصد به المال حلف المدعي مع شهادته وحكم له به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. (رواه مسلم). فإن أبي أن يحلف وقال: أريد يمين المدَّعَى عليه حلَّفنَاه، فإن نكل المدَّعَى عليه قضي عليه، ومن قال: ترد اليمين، فهل ترد ههنا، يحتمل وجهين:
أحدهما: لا ترد؛ لأنها كانت في جنبته وقد أسقطها بنكوله عنها، وكانت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدَّعَى عليه إذا نكل عن اليمين فردت على المدَّعِي فنكل عنها.
والثاني: ترد عليه؛ لأن اليمين الأولى؛ ولأنَّ سبب الأولى قوة جنبة المدعي بالشاهد، وسبب الثانية نكول المدَّعَى عليه، فبسقوط إحداهما لا يوجب سقوط الأخرى، فإن سكت المدَّعَى عليه فلم ينكر ولم يقر حبسه الحاكم حتى يجيب، ولم يجعله بذلك ناكلًا. ذكره القاضي في المجرّد، وذكر أبو الخطاب أنَّ الحاكم يقول له: إن أجبت وإلّا جعلتك ناكلًا وحكمت عليك، ويكرّر ذلك ثلاثًا، فإن أجاب وإلّا حكم عليه؛ لأنه ناكل عمَّا يلزمه جوابه، فأشبه الناكل عن اليمين. (الكافي في فقه أحمد بن حنبل: [4/ 465]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: