الأحكام السلطانية للماوردي - (63) أحكام الخراج (3)
لَا تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا.
الباب الثالث عشر: "في وضع الجزية والخراج"
فصل: "أحكام الخراج" (3)
وَأَمَّا الْخَرَاجُ[1] فَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا، وَفِيهِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ بَيِّنَةٌ خَالَفَتْ نَصَّ الْجِزْيَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون من الآية:72].
وَفِي قَوْلِهِ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَجْرًا، وَالثَّانِي: نَفْعًا.
وَفِي قَوْلِهِ: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فَرِزْقُ رَبِّكَ فِي الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَالثَّانِي: فَأَجْرُ رَبِّكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: فَأَجْرُ رَبِّكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ؛ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ أَيْضًا، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ أَنَّ الْخَرْجَ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَرَاجُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْكِرَاءِ وَالْغَلَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
»[2]، وَأَرْضُ الْخَرَاجِ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فِي الْمِلْكِ وَالْحُكْمِ.
وَالْأَرْضُونَ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ إحْيَاءَهُ، فَهُوَ أَرْضُ عُشْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ؛ وَالْكَلَامُ فِيهَا يُذْكَرُ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ، فَتَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْضَ عُشْرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا خَرَاجًا أَوْ عُشْرًا، فَإِنْ جَعَلَهَا خَرَاجًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ إلَى الْعُشْرِ، وَإِنْ جَعَلَهَا عُشْرًا جَازَ أَنْ تُنْقَلَ إلَى الْخَرَاجِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا مُلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً وَقَهْرًا، فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ غَنِيمَةً تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَتَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَجَعَلَهَا مَالِكٌ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَهِيَ الْأَرْضُ الْمُخْتَصَّةُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا خَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا فَحَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، وَيَكُونُ أُجْرَةً تُقَرُّ عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامٍ وَلَا ذِمَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رِقَابِهَا اعْتِبَارًا لِحُكْمِ الْوُقُوفِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا أَقَامَ فِيهِ أَهْلُهُ وَصُولِحُوا عَلَى إقْرَارِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُضْرَبُ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ مِلْكِهَا لَنَا عِنْدَ صُلْحِنَا، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَاَلَّذِي انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِمْ أُجْرَةً لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ رِقَابِهَا، وَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهَا مَا أَقَامُوا عَلَى صُلْحِهِمْ، وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، سَوَاءٌ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ أَمْ أَسْلَمُوا، كَمَا لَا تُنْتَزَعُ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ مُسْتَأْجِرِهَا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَرَاجِ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ إنْ صَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مُسْتَوْطِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلُوا إلَى الذِّمَّةِ، وَأَقَامُوا عَلَى حُكْمِ الْعَهْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرُّوا فِيهَا سَنَةً، وَجَازَ إقْرَارُهُمْ فِيهَا دُونَهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَبِقُوهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَلَا يَنْزِلُوا عَنْ رِقَابِهَا، وَيُصَالِحُوا عَنْهَا
بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَتَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى مَنْ شَاءُوا مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ تَبَايَعُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى حُكْمِهَا فِي الْخَرَاجِ، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى مُسْلِمٍ سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى ذِمِّيٍّ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا لِبَقَاءِ كُفْرِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا بِخُرُوجِهِ بِالذِّمَّةِ عَنْ عَقْدِهِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي هَذَا الْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا، فَإِنْ وُضِعَ عَلَى مَسَائِحِ الْجُرْبَانِ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ قَدْرٌ مِنْ وَرِقٍ أَوْ حَبٍّ، فَإِنْ سَقَطَ عَنْ بَعْضِهَا بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ كَانَ مَا بَقِيَ عَلَى حُكْمِهِ، وَلَا يُضَمُّ إلَيْهِ خَرَاجُ مَا سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ الْمَوْضُوعُ عَلَيْهَا صُلْحًا عَلَى مَالٍ مُقَدَّرٍ لَمْ يَسْقُطْ عَلَى مِسَاحَةِ الْجُرْبَانِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُمْ مِنْ مَالِ الصُّلْحِ مَا سَقَطَ مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مَالُ الصُّلْحِ بَاقِيًا بِكَمَالِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ هَذَا الْمُسْلِمِ مَا خَصَّهُ بِإِسْلَامِهِ، فَأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ ضَرَبَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ[2] قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَجَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مَا اسْتَوْفَقَهُ مِنْ رَأْيِ كِسْرَى بْنِ قُبَاءَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَسَّحَ السَّوَادَ وَوَضَعَ الْخَرَاجَ وَحَدَّدَ الْحُدُودَ وَوَضَعَ الدَّوَاوِينَ وَرَاعَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ بِمَالِكٍ، وَلَا إجْحَافٍ بِزَارِعٍ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ قَفِيزً[3] وَدِرْهَمًا، وَكَانَ الْقَفِيزُ وَزْنُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، وَثَمَنُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ، وَلِانْتِشَارِ ذَلِكَ بِمَا ظَهَرَ فِي جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سَلْمَى "مِنَ الطَّوِيلِ":
فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا *** قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ
وَضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى غَيْرَهَا غَيْرَ هَذَا الْقَدْرِ، فَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ[4] عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ، وَوَضْعِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا، فَمَسَحَ وَوَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ عَشْرَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمْضَاهُ وَعَمِلَ فِي نَوَاحِي الشَّامِ عَلَى غَيْرِ هَذَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ رَاعَى فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا تَحْتَمِلُهُ.
وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاضِعُ الْخَرَاجِ بَعْدَهُ يُرَاعِي فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا تَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي زِيَادَةِ الْخَرَاجِ وَنُقْصَانِهِ:
أَحَدُهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِنْ جَوْدَةٍ يَزْكُو بِهَا زَرْعُهَا، أَوْ رَدَاءَةٍ يَقِلُّ بِهَا رِيعُهَا.
وَالثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِالزَّرْعِ مِنِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، فَمِنْهَا: مَا يَكْثُرُ ثَمَنُهُ، وَمِنْهَا: مَا يَقِلُّ ثَمَنُهُ، فَيَكُونُ الْخَرَاجُ بِحَسَبِهِ.
وَالثَّالِثُ: ُ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّقْيِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَ الْمُؤْنَةَ فِي سَقْيِهِ بِالنَّوَاضِحِ وَالدَّوَالِي لَا يَحْتَمِلُ مِنَ الْخَرَاجِ مَا يَحْتَمِلُهُ سَقْيُ السُّيُوحِ وَالْأَمْطَارِ.
وَشُرْبُ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا سَقَاهُ الْآدَمِيُّونَ بِغَيْرِ آلَةٍ كَالسُّيُوحِ[5] مِنَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ يُسَاقُ إلَيْهَا، فَيَسِيحُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَهَذَا أَوْفَرُ الْمِيَاهِ مَنْفَعَةً وَأَقَلُّهَا كُلْفَةً.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا سَقَاهُ الْآدَمِيُّونَ بِآلَةٍ مِنْ نَوَاضِحَ[6] وَدَوَالِيبَ أَوْ دَوَالِيَ، وَهَذَا أَكْثَرُ الْمِيَاهِ وَأَشَقُّهَا عَمَلًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ بِمَطَرٍ أَوْ ثَلْجٍ أَوْ طَلٍّ وَيُسَمَّى الْعِذْيُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا سَقَتْهُ الْأَرْضُ بِنَدَوَاتِهَا، وَمَا اسْتَكَنَّ مِنَ الْمَاءِ فِي قَرَارِهَا، فَيَشْرَبُ زَرْعُهَا وَشَجَرُهَا بِعُرُوقِهِ، وَيُسَمَّى الْبَعْلُ، فَأَمَّا الْغِيلُ وَهُوَ مَا شَرِبَ بِالْقَنَاةِ، فَإِنْ سَاحَ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَسِحْ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْكَظَائِمُ فَهُوَ مَا شَرِبَ مِنَ الْآبَارِ؛ فَإِنْ نُضِحَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَإِنْ اُسْتُخْرِجَ مِنَ الْقَنَاةِ فَهُوَ غِيلٌ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا بُدَّ لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ مِنِ اعْتِبَارِ مَا وَصَفْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، مِنِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِينَ وَاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ وَاخْتِلَافِ السَّقْيِ؛ لِيَعْلَمَ قَدْرَ مَا تَحْمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا، فَيَقْصِدُ الْعَدْلَ فِيهَا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تُجْحِفُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ، وَلَا نُقْصَانٍ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ نَظَرًا لِلْفَرِيقَيْنِ؛ وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَبَرَ شَرْطًا رَابِعًا وَهُوَ قُرْبُهَا مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَسْوَاقِ وَبُعْدُهَا؛ لِزِيَادَةِ أَثْمَانِهَا وَنُقْصَانِهَا، وَهَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ خَرَاجُهُ وَرِقًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ خَرَاجُهُ حَبًّا، وَتِلْكَ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْحَبِّ وَالْوَرِقِ؛ وَإِذَا كَانَ الْخَرَاجُ مُعْتَبَرًا بِمَا وَصَفْنَا، فَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُهُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ كُلِّ نَاحِيَةٍ مُخَالِفًا لِخَرَاجِ غَيْرِهَا، وَلَا يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلْيَجْعَلْ فِيهِ لِأَرْبَابِ الْأَرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ.
حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ أَمْوَالِ السَّوَادِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ: لَا تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ الْخَرَاجُ بِمَا احْتَمَلَتْهُ الْأَرْضُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا رَاعَى فِيهَا أَصْلَحَ الْأُمُورِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزَّرْعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَهَا مُقَاسَمَةً، فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ، وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزَّرْعِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلَهُ مُقَاسَمَةً كَانَ مُعْتَبَرًا بِكَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَخْذِهَا مُقَدَّرًا بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ صَارَ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا،
لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ مَا كَانَتِ الْأَرْضُونَ عَلَى أَحْوَالِهَا فِي سَقْيِهَا وَمَصَالِحِهَا.
__________
(1) الخراج: ما يخرج من غلة الأرض، ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجًا، فيقال: أدى فلان خراج أرضه، وأدى أهل الذمة خراج رءوسهم، يعني: الجزية (أنيس الفقهاء: ص [185]).
(2) حسن: (رواه أبو داود في (كتاب البيوع [3508])، والترمذي في (كتاب البيوع [1285])، والنسائي في (كتاب البيوع [4490])، وابن ماجه في (كتاب التجارات [2242])، وحسنه الشيخ الألباني).
(3) الجريب من الأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة، كل قفيز منها عشرة أعشراء، فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب (اللسان: [1/ 260]).
(4) هو عثمان بن حنيف بن وهب بن العكيم بن ثعلبة بن الحارث بن مجدعة الأنصاري، من بني عمرو بن مالك بن عوف بن الأوس، أخو سهل؛ استشار عمر بن الخطاب الصحابة في رجل يوجهه إلى العراق، فأجمعوا جميعًا على عثمان هذا، وقالوا: لن تبعثه إلى أهم من ذلك! فإن له بصرًا وعقلًا ومعرفة وتجربة، فأسرع عمر إليه فولَّاه مساحة أرض العراق، فضرب عثمان على كل جريب من الأرض يناله الماء عامرًا وغامرًا وقفيزًا، فبلغت جباية سواد الكوفة قبل أن يموت عمر بعام مائة ألف ونيفًا. ونال عثمان بن حنيف في نزول عسكر طلحة، والزبير ما زاد فضله، ثم سكن الكوفة وبقي إلى زمان معاوية.
(5) السيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وفي التهذيب: الماء الظاهر على وجه الأرض، وجمعه سيوح (اللسان: [2/ 492]).
(6) النضح: سقي الزرع وغيره بالسانية، ونضح زرعه: سقاه بالدلو، والناضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والأنثي: ناضحة وسانية (اللسان: [2/ 619]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: