العهدة العمرية، النصوص الواردة ومناقشتها

منذ 2014-10-22

مناقشة نص كتاب الصلح الذي قيل إن عمر بن الخطاب قد منحه لأهل القدس كان من عادة المسلمين أن يمنحوا أهل الذمة، في المدن التي يفتحونها صلحًا، عهدًا يتعهدون بموجبها، حمايتهم ومنحهم حرية العبادة وممارسة حياتهم المعتادة، مقابل دفعهم الجزية والدخول في طاعة المسلمين.

مناقشة نص كتاب الصلح الذي قيل إن عمر بن الخطاب قد منحه لأهل القدس كان من عادة المسلمين أن يمنحوا أهل الذمة، في المدن التي يفتحونها صلحًا، عهدًا يتعهدون بموجبها، حمايتهم ومنحهم حرية العبادة وممارسة حياتهم المعتادة، مقابل دفعهم الجزية والدخول في طاعة المسلمين.

وقد تفاوتت هذه العهود في الشروط التي اشترطتها عليهم، والحقوق والامتيازات التي ضمنتها لهم، حتى أن نصوص العهد الواحد قد رويت بصيغٍ مختلفة. وقد كان التحريف أو التزوير يحدث من قبل أهل الذمة أنفسهم - طمعًا في اكتساب حقوق جديدة إضافة إلى الحقوق التي منحهم إياها المسلمون، أو تخفيفًا لبعض الشروط التي اشترطها المسلمون عليهم. وهم في هذا متأكدون بأن ذلك سينطلي على المسلمين، في الأغلب، ذلك أن المسلمين في ذلك العهد المبكر، لم يكونوا يحتفظون بنسخ من هذه العهود، حتى أن بعض أهل الذمة قد وضعوا عهودًا ليس لها أصول على الإطلاق، وفي بعض الأحيان كان النصارى خاصةً يحرفون في عهودهم عندما يلمسون ضعفًا من المسلمين في بلادهم.

ومن العهود المشهورة التي شغلت المؤرخين والباحثين زمنًا طويلًا (العهدة العمرية) وهو الاسم الذي أُطلِق على العهد الذي قيل إن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد منحه لأهل القدس حينما جاء لتسلمها من بطريرها صفرونيوس في العام الخامس عشر للهجرة!

ومن الغريب أن المصادر الإسلامية الأولى لم تُشِر إلى ذلك العهد، فأول مصدر إسلامي أشار إليه هو اليعقوبي، ثم أورده من بعده ابن البطريق وابن الجوزي، والطبري، ومجير الدين العليمي، وأورد فيما يلي مجموعة الروايات المختلفة التي وردت في هذه المصادر التاريخية لهذا العهد. 

1- نص اليعقوبي:

أورد اليعقوبي [المتوفى عام 284هـ] نصًا مختصرًا لهذا العهد جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدسِ: إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تُسكن ولا تخرّب، إلا أن تُحدِثوا حدثًا عامًا، وأشهد شهودًا" (اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي: ج2، ص: [46]).

2- نص ابن البطريق:

وقد أورد أفثيشيوس (ابن البطريق) [المتوفى سنة 328هـ]، صيغة تشبه صيغة اليعقوبي جاء فيه: "بسم الله، من عمر بن الخطاب لأهل مدينة إيلياء، إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، لا تهدم ولا تسكن، وأشهد شهودًا" (ابن البطريق: التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، ج2، ص: [147]).

3- نص ابن عساكر:

أورد ابن عساكر [المتوفى عام 571هـ] عهد عمر على صيغة شروط وضعها أهل الذمة على أنفسهم في كتاب وجهوه للخليفة عمر بن الخطاب عندما جاء إلى الشام وهذا نصه:

"عن عبد الله ابن غنم أن عمر بن الخطاب كتب له النصارى حين صالحوه عهدًا يقولون فيه: 

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وأهالينا وأموالنا وأهل ملتنا، على أن نؤدي الجزية عن يد ونحن صاغرون، وعلى ألا نمنع أحدًا من المسلمين أن ينزل كنائسنا في ليل أو نهار، ونضيفهم فيها ثلاثًا، ونطعمهم الطعام ونوسِّع لهم أبوابها، ولا نضرب فيها بالنواقيس إلا ضربًا خفيفا، ولا نرفع فيها أصواتنا بالقراءة، ولا نؤوي فيها ولا في شيء من منازلنا جاسوسًا لعدو لكم، ولا نحدث كنيسة ولا ديرًا ولا صومعة ولا قلاية، ولا نجدِّد ما خرب منها، ولا نقصد الاجتماع فيما كان منها من خطط المسلمين وبين ظهرانيهم، ولا نُظهِر شركًا ولا ندعوا إليه، ولا نظهر صليبًا على كنائسنا، ولا في شيء من طرق المسلمين وأسواقهم، ولا نتعلم القرآن، ولا نُعلِّمه أولادنا، ولا نمنع أحدًا من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إذا أراد ذلك، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ونلزم ديننا، ولا نتشبه بالمسلمين في لباسهم ولا في هيئتهم، ولا في سروجهم، ولا في نقش خواتيمهم فننقشها نقشًا عربيًا، ولا نتكنى بكناهم.. 

وعلينا أن نعظمهم ونوقرهم، ونقوم لهم من مجالسنا، ونرشدهم في سبلهم وطرقاتهم، ولا نطلع في منازلهم، ولا نتخذ سلاحًا ولا سيفًا، ولا نحمله لا حضر ولا سفر في أرض المسلمين، ولا نبيع خمرًا ولا نُظهِرها، ولا نُظهِر نارًا مع موتانا في طريق المسلمين، ولا نرفع أصواتنا مع جنائزهم، ولا نجاور المسلمين بهم، ولا نضرب أحدًا من المسلمين، ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهامهم. شرطنا ذلك كله على أنفسنا وأهل ملتنا. فإن خالفنا فلا ذمةَ لنا ولا عهد، وقد حل لكم مِنّا ما يحل لكم من أهل الشقاق والمعاندة" (ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، ج1، ص: [179]، انظر مجير الدين: ج1 ص: [254]، الطبري: ج3، ص: [609]، شذرات الذهب، ج1، ص: [28]، ذكر أن عقد الصلح كتب على جبل الطور بالقدس).

وذكر مجير الدين [المتوفى سنة 927هـ] أن الخليفة عمر بن الخطاب عندما جيء إليه بهذا الكتاب زاد فيه "ولا نضر بأحد من المسلمين. شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا شيئًا مما شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا". وأضاف مجير الدين بأن هذا العهد قد رواه البيهقي أيضًا واعتمده أئمة المسلمين والخلفاء الراشدون وعملوا به (مجير الدين: الإنس الجليل وتاريخ القدس والخليل؛ ج1، ص: [255]، انظر جرجي زيدان؛ ج4، ص: [109]، تاريخ العرب).

4- نص ابنِ الجوزي:

أورد ابن الجوزي المتوفى في عام 597هـ ما يلي: "كتب عمر (بن الخطاب) لأهل بيت المقدس إني قد أمنتكم على دمائكم وأموالكم وذراريكم وصلاتكم، وبيعكم، لا تكلفون فوق طاقتكم، ومن أراد منكم أن يلحق بأمته فله الأمان، وأن عليكم الخراج كما على مدائن فلسطين" (ابن الجوزي: فضائل القدس، ص: [123-124]).

5- نص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسيِ:

أوردَ مجير الدين العليمي المقدسي [المتوفى سنة 927هـ] نصًا منقولًا عن نص الطبري، الذي أسنده لسيف عن أبي حازم وأبي عثمان عن خالد وعبادة، بأن عمر بن الخطاب صالح أهل إيلياء بالجابية وكتب لهم:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر، أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حدها ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن -يقصد مدن فلسطين-، على أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعتهم وصليبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وصليبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أرضه، فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليه من الجزية.

شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. كتب وحضر سنة خمس عشرة (محير الدين: الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ج1، ص: [253]). 

6- النص المعتمد حاليًا: 

وآخر هذه النصوص، النص المعتمد حاليًا لدى كنيسة القدس الأرثوذكسية والذي نشرته بطريركية الروم الأرثوذكس عام 1953م، وهو الأساس الذي ينظم العلاقة بين السلطات الإسلامية الحاكمة للقدس، والنصارى فيها.. وهذا نصه:

"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، وهدانا من الضلالة، وجمعنا بعد الشتات وألَّف قلوبنا، ونصرنا عَلى الأعداء، ومكّن لنا من البلاد، وجعلنا إخوانًا متحابين، واحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة.

هذا كتاب[1] عمر بن الخطاب لعهدٍ وميثاق أُعطي إلى البطرك المبجل المكرّم وهو صفرونيوس بطرك الملة الملكية في طورزيتا بمقام القدس الشريف في الاشتمال على الرعايا والقسوس والرهبان والراهبات حيث كانوا وأين وجدوا، وأن يكون عليهم الأمان، وأن الذمي إذا حفظ أحكام الذمة وجب له الأمان والصون مِنّا نحن المؤمنين وإلى من يتولى بعدنا وليقطع عنهم أسباب جوانحهم كحسب ما قد جرى منهم من الطاعة والخضوع، وليكن الأمان عليهم وعلى كنائسهم وديارهم وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلًا وخارجًا وهي القمامة وبيت لحم مولد عيسى عليه السلام كنيسة الكبراء، والمغارة ذي الثلاثة أبواب، قبلي وشمالي وغربي، وبقية أجناس النصارى الموجودين هناك، وهم الكرج والحبش، والذين يأتون للزيارة من الإفرنج والقبط والسريان والأرمن والنساطرة واليعاقبة والموارنة تابعين للبطرك المذكور..

يكون متقدمًا عليهم لأنهم أعطوا من حضره النبي الكريم والحبيب المرسل من الله وشرفوا بختم يده الكريم، وأمر بالنظر إليهم والأمان عليهم، كذلك نحن المؤمنون نُحسِن إليهم إكرامًا لمن أحسن إليهم، ويكونوا معافًا (معافيين) من الجزية والغفر (الخفر) والمواجب، ومسلمين من كافة البلايا في البر والبحور وفي دخولهم للقمامة وبقية زياراتهم لا يؤخذ منهم شيء، وأما الذين يقبلون إلى الزيارة إلى القمامة، يؤدي النصراني إلى البطرِك درهم (درهمًا) وثلث من الفضة، وكل مؤمن ومؤمنة يحفظ ما أمرنا به سلطانًا كان أم حاكمًا واليًا يجرى حكمه في الأرض، غني أم فقير من المسلمين المؤمنين والمؤمنات. وقد أعطى لهم مرسومنا هذا بحضور جم الصحابة الكرام، عبد الله، وعثمان بن عفان وسعد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وبقية الأخوة الصحابة الكرام. فليعتمد على ما شرحنا في كتابنا هذا ويعمل به، وأبقاه في يدهم، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين حسبنا الله ونعم الوكيل. 

في العشرين من شهر ربيع الأول سنة خامس وعشر للهجرة النبوية. وكل من قرى (قرأ) مرسومنا هذا من المؤمنين وخالفه من الآن والى يوم الدين فليكن لعهد الله ناكثًا ولرسوله الحبيب باغضًا" (انظر: أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب، رسائل الخلفاء الراشدين). 

مناقشة هذه النصوص:

من المرجح أن مكانة القدس لدى النصارى من أهم أسباب تعدُّد الرِوايات للعهدة العمرية، واختلاف نصوص هذه الروايات، وقد كان هذا الاختلاف قليلًا، كما نراه بين روايات اليعقوبي وابن البطريق وابن الجوزي، أو جزئيًا أحيانًا أخرى كما هو الحال بين هذه النصوص ونص الطبري ومجير الدين. أو كليًا، في الصيغة والأسلوب والمحتوى، كما هو يبين الروايات المذكورة ورواية ابن عساكر، ورواية الوثيقة التي نشرتها بطريركية الروم الأرثوذكس سنة 1953م.

ومكانة القدس لدى النصارى تعود إلى أنها تضم أقدس مقدساتهم، ومحجهم الذي يحجون إليه، ومقر بطريركية الروم الأرثوذكس. فكان هذا التحريف تلبية لرغبتهم في الحصول على أكبر قسط من الامتيازات والتسهيلات لهم، وللحجاج من الطوائف الأخرى، وخاصةً حجاج الإفرنج، مستغلين في ذلك عِلمهم بأن المسلمين لا يحتفظون بنسخةٍ من هذا العهد، وبعض فترات ضعف السلطة الإسلامية.

إنّ المطلع على أسلوب الكتابة عامة، وكتابة العهود والمواثيق والمراسلات الرسمية خاصة في عصر صدر الإسلام، يدرك أنها كانت تعمد إلى الاختصار، وتبتعد عن المقدمات، وألفاظ التفخيم، والمحسنات، وتعالج الموضوع المقصود مباشرة، بأوضح الألفاظ وأقل الكلمات. كما أن من غير المحتمل ولا المقبول عقلًا أن ترد في هذه الروايات شروط وعهود تُنظِّم أحوالًا وأوضاعًا لم تكن قد وُجِدَت بعد.

لذلك يتوقع المطلع والمؤرخ أن يكون هذا العهد مصوغًا بأسلوب ذلك العصر، وأن يتضمن نصًا يعطي لأهل الذمة أمانًا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وعبادتهم، مقابل دفع الجزية والدخول في طاعة المسلمين . 

وبناءً على ذلك نستنتج أن أقرب النصوص توافقًا مع مثل هذه الصيغة المتوقعة هو ما نقلناه عن اليعقوبي، وابن البطريق، وابن الجوزي. وذلك لأن هذه النصوص قد جاءت مختصرة، ومعانيها وألفاظها أقرب ما تكون لما هو متوقع من عهدٍ كُتِب في ذلك العصر، وإنها وإن اختلفت بعض الكلمات فيما بينها، تشير إلى أنها قد أخذت عن مصدر واحد. والأرجح أن اليعقوبي قد روى عن مصدر أقدم منه قد يكون سيف وإن لم يُشِر إلى ذلك، كما يرجِّح أن ابن البطريق قد نقل عن اليعقوبي أو عن مصدر نصراني. أما ابن الجوزي فإنه قد نقل عن أحدهما، على الأغلب.

أما النص الذي أورده الطبري عن سيف، والنص الذي أورده مجير الدين عن سيف أيضًا وعن آخرين، فبالرغم من ورود بعض الاختلافات بينهما، إلا أنه من المرجح أنهما أخذا عن مصدرٍ واحد، وإن مجير الدين قد أخذ عن الطبري، مع بعض التصرُّف في النص، هذه واحدة، أما الثانية فهي أن ما ورد فيهما من تحفظات وشروط قصد بها مصلحة النصارى، كالتعهد بعدم هدم الكنائس، وعدم إكراههم على دينهم، وعدم مساكنة اليهود لهم بالقدس، وغيرها، يدعو للشك فيهما، ومما يقوى هذا الشك أنهما وردا مفصلين ومطولين، مع أن عهود المدن الأخرى جاءت مختصرة وبسيطة، بالغة البساطة كعهد حمص، ومما يؤكده أيضًا أن الطبري ومجير الدين الذي نقل عنه، أشارا إلى أنه أعطي لأهل القدس في الجابية، مع أن المشهور أنه أعطى لهم في القدس نفسها، كما أن التحفظات المذكورة تنافي الواقع ولم تذكر الروايات الأولى ما يؤيدها. 

ومن المحتمل أن هذا العهد قد وُضِع في فترةٍ لاحقة حيث يذكر الدكتور عبد العزيز الدوري "أن الأمر لم يخل من ادعاءات يهودية". كما تدعي رواية يهودية بأن اليهود طلبوا من عمر بن الخطاب السماح لهم باستقدام مائتي عائلة يهودية من مصر للسكن في القدس، ولكن البطريق صفرونيوس عارض ذلك، فسمح عمر بن الخطاب لسبعين عائلة بالحضور من مصر وأسكنهم جنوب الحرم القدسي. ويسهل كشف كذب هذا الادعاء ببساطة، فمصر قد فتحت بعد فتح القدير بأربع سنوات. 

ومن المحتمل أن عبارٍة [ألا يساكنهم فيها اليهود] المذكورة في النصين إنما تدل على أن القدس كما هو معلوم تاريخيًا كانت خالية من اليهود، ولم يشأ النصارى أن يسكنها اليهود من جديد تحت حكم المسلمين. وليس كما فسّرها اليهود سن أن اليهود كانوا يسكنون في القدس، واشترط النصارى على المسلمين إخراجهم منها.

أما النص الذي أورده ابن عساكر، والذي أورد مجيرالدين نصًا يشبهه بالإضافة للنص المذكور سابقًا، فمن المستبعد جدًا أن يكون صحيحًا، بالإضافة إلى أنه يفيد بأنه وضع لأهل الشام عامة وليس لأهل القدس خاصةً كما ذكر مجيرالدين. كما أنه من المستغرب أن يضع المغلوبون الشروط التي يرتضونها لينعقد الأمان لهم على يد الغالب، كما أنه من غير المنطقي أن يتعهد النصارى بعدم قراءة القرآن في الوقت الذي يستشهدون بآية منه في النص نفسه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة من الآية:29]. 

ويلفت النظر أيضًا اختلاف هذا النص المطول عن عهود المدن الأخرى التي كانت بالغة البساطة، وإنه نص يدل على وجود صلات قوية بين المسلمين والنصارى أقوى من الصلات الفعلية التي كانت في مستهل أيام الفتح، وأنه احتوى شروطًا لأمورٍ لم تكن موجودة في ذلك الزمن، كجز المقادم وشد الزنانير ونقش الخواتم والتكني بكنى المسلمين... ويبدو أن مثل هذا النموذج من العقود كانت تضعه المدارس الفقهية الإسلامية لتصور واجبات وحقوق لأهل الذمة كالنموذج الوارد في كتاب الأم للشافعي.

من هذا كله نرى أن هذه الروايات لنصوص العهود المُسمَّاة بالعهدة العمرية قد وسعت وطورت على الزمن تبعًا لتطور أحوال أهل الذمة منذ عهد عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد والمتوكل إلى عهود بعدها لأنها احتوت شروطًا لأمور لم تكن موجودة أو معروفة زمن الفتح، فطورت من نصوص مختصرة، أقرب ما تكون للحقيقة، كنصوص اليعقوبي، وابن البطريق وابن الجوزي، إلى نصوص مطولة تحتوي شروطًا مستهجنة كنص الطبري ومجير الدين أو نص مختلف في الصيغة والشروط والمحتويات كنص ابن عساكر. 

أما النص الأخير الذي نشرته بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس عام 1953 ميلادية، فإن جميع الدلائل، من أسلوب، وألفاظ، وأحكام، ومعلومات تاريخية، تشير إلى أنه غير صحيح. وسوف أقوم بتفنيده في بحثٍ آخر إن شاء الله.

ولعل من المفيد أن نعلم في نهاية البحث أن المؤرخ فيليب حتي ينكر وجود العهدة العمرية ذاتها، بدعوى أن مؤتمر الجابية الذي عقده الخليفة عمر بن الخطاب، لبحث الأمور الإدارية بالشام، لم يعرف بالضبط ما الذي دار فيه وما هي القرارات التي اتخذها معتمدًا في ذلك مع المؤرخ ترتون على اختلاف روايات تلك النصوص، واحتوائها على معلومات وأحكامًا وجدت في عصور تالية لعصر الفتح. وإنني لا أوافقه على نفي وجود مثل هذا العهد أصلًا. 

والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- (لدي نسخة مطبوعة عام 1953م نشرتها بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس، وفي أعلاها صورة للخليفة عمر بن الخطاب يقود جملًا يركبه خادمه أمام أسوار القدس التي وقف عليها النصارى يشاهدون هدا المنظر، صفرونيوس يتقدم لاستقبال الخليفة). 

المرا جع:

1- (ابن البطريق، أفشيشيوس الإسكندري [المتوفى عام 328هـ]؛ التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، بيروت 1904م). 

2- (ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن علي بن الجوزي [المتوفى 597هـ]، فضائل القدس، تحقيق د. جبرائيل سليمان بيروت 1980م).

3- (ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله… الدمشقي الشافعي أبو القاسم [المتوفى عام 571هـ]، تاريخ تهذيب دمشق وأخبارها... "التاريخ الكبير"، دمشق دار المسيرة/ بيروت 1329هـ)

4- (أحمد زكي صفوت: جمهرة رسائل العرب مصر 1917م).

5- (البلاذري؛ أحمد بن يحي بن جابر بن داود البغدادي "القرن الثالث الهجري": فتوح البلدان، القاهرة 1956م).

6- Tritton (A.s) the calisphs and their non _ moslim subjects oxford 1930

7- (حتى، تاريخ العرب، مطول بيروت).

8- (الشافعي؛ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي الشافعي الحجاز المكي أبو عبد الله [150-204هـ]، الأم، القاهرة 1325هـ). 

9- (الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير [224-310]: تاريخ الرسل والملوك، طبعة طهران).

10- (عارف الغارف: المسيحية في القدس، القدس 1951م).

11- (د. عبد العزيز الدوري: "فكرة القدس في الإسلام" بحث أعده للمؤتمر التاريخي لبلاد الشام [فلسطين] المنعقد بالجامعة الأردنية سنة 1980م).

12- (مجير الدين الحنبلي، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي، [810-927هـ]، الإنس الجليل بتاريخ القدس عمان 1977م).

 

شفيق جاسر أحمد محمود

المصدر: مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، العدد: [62]
  • 23
  • 5
  • 109,021

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً