الأحكام السلطانية للماوردي - (94) التعزير (7)

منذ 2014-11-04

تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».

الفصل السادس: في التعزير (7)

 

والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه أنه تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه:

أحدها: إنَّ تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»[1].

فتدرج في الناس على منازلهم: فإن تساووا في الحدود المقدَّرة فيكون تعزير من جلَّ قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم، فمنهم من يحبس يومًا، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي: تقدَّر غايته بشهر للاستبراء والكشف، وبستة أشهر للتأديب والتقويم، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي والإبعاد إذا تعدت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها واستضراره بها[2].

واختلف في غاية نفيه وإبعاده، فالظاهر من مذهب الشافعي تقدر بما دون الحول ولو بيوم واحد؛ لئلَّا يصير مساويًا لتعزير الحول في الزنا، وظاهر مذهب مالك أنه يجوز أن يزاد فيه على الحول بما يرى من أسباب الزواجر، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الضرب ينزلون فيه على حسب الهفوة في مقدار الضرب، وبحسب الرتبة في الامتهان والصيانة.

واختلف في أكثر ما ينتهي إليه الضرب في التعزير، فظاهر مذهب الشافعى أنَّ أكثره في الحر تسعة وثلاثون سوطًا لينقص عن أقلِّ الحدود في الخمر، فلا يبلغ بالحر أربعين، وبالعبد عشرين، وقال أبو حنيفة: أكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطًا في الحرِّ والعبد، وقال أبو يوسف: أكثره خمسة وسبعون. وقال مالك: لا حدَّ لأكثره، ويجوز أن يتجاوز به أكثر الحدود. وقال أبو عبد الله الزبيري[3]: تعزيز كل ذنب مستنبط من حده المشروع فيه، وأعلاه خمسة وسبعون يقصر به عن حدِّ القذف بخمسة أسواط، فإن كان الذنب في التعزيز بالزنا روعي منه ما كان، فإن أصابوها بأن نال منها ما دون الفرج ضربوهما أعلى التعزير، وهو خمسة وسبعون سوطًا، وإن وجدوهما في إزار لا حائل بينهما متباشرين غير متعاملين للجماع ضربوهما ستين سوطًا، وإن وجدوهما غير متباشرين ضربوهما أربعين سوطًا، وإن وجدوهما خاليين في بيت عليهما ثيابهما ضربوهما ثلاثين سوطًا، وإن وجدوهما في طريق يكلمها وتكلمه ضربوهما عشرين سوطًا، وإن وجدوه يتبعها ولم يقفوا على ذلك يحققوا، وإن وجدوهما يشير إليها وتشير إليه بغير كلام ضربوهما عشرة أسواط، وهكذا يقول في التعزير بسرقة ما لا يجب فيه القطع، فإذا سرق نصابًا من غير حرز ضرب أعلى التعزير خمسة وسبعين سوطًا، وإذا سرق من حرز أقل من نصاب ضرب ستين سوطًا، واذا سرق أقلّ من نصاب من غير حرز ضرب خمسين سوطًا، فإذا جمع المال في الحرز واسترجع منه قبل إخراجه ضرب أربعين سوطًا، وإذا نقب الحرز ودخل ولم يأخذ ضرب ثلاثين سوطًا، وإذا نقب الحرز ولم يدخل ضرب عشرين سوطًا.

وإذا تعرَّض للنقب أو لفتح باب ولم يكمله ضرب عشرة أسواط، وإذا وجد معه منقب أو كان مرصدًا للمال يحقق، ثم على هذه العبارة فيما سوى هذين، وهذا الترتيب وإن كان مستحسنًا في الظاهر فقد تجرَّد الاستحسان فيه عن دليل يتقدر به، وهذا الكلام في أحد

الوجوه التي يختلف فيها الحد والتعزير.

والوجه الثاني: إنَّ الحد وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، فيجوز في التعزير العفو عنه، وتسوغ الشفاعة فيه، فإن تفرّد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم، ولم يتعلق به حق لآدمي، جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشفعوا إليّ ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء»[4].

ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي كالتعزير في الشتم والمواثبة ففيه حق المشتوم والمضروب، وحق السلطنة للتقويم والتهذيب، فلا يجوز لولي الأمر أن يسقط بعفوه حق للمشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزيز الشاتم والضارب، فإن عفا المضروب والمشتوم كان ولي الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويمًا، والصفح عنه عفوًا، فإن تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع إليه سقط التعزيز الآدمي.

واختُلِفَ في سقوط حق السلطنة والتقويم على الوجهين:

أحدهما: وهو قول أبي عبد الله الزبيري أنه يسقط، وليس لولي الأمر أن يعزر فيه؛ لأنَّ حد القذف أغلظ ويسقط حكمه بالعفو، فكان حكم التعزير بالسلطنة أسقط.

والوجه الثاني: هو الأظهر أن لولي الأمر أن يعزّر فيه مع العفو قبل الترافع إليه، كما يجوز أن يعزّر فيه مع العفو بعد الترافع إليه مخالفة للعفو عن حدِّ القذف في الموضعين؛ لأن التقويم من حقوق المصلحة العامة، ولو تشاتم وتواثب والد مع ولد سقط تعزير الوالد في حق الولد، ولم يسقط تعزير الولد في حق الوالد، كما لا يقتل الوالد بولده، ويقتل الولد بوالده، وكان تعزير الأب مختصًّا بحق السلطنة، والتقويم لا حق فيه للولد، ويجوز لولي الأمر أن ينفرد بالعفو عنه، وكان تعزير الولد مشتركًا بين حق الولد وحقوق السلطنة، فلا يجوز لولي الأمر أن ينفرد بالعفو عنه مع مطالبة الوالد به حتى يستوفيه له، وهذا الكلام في الوجه الثاني الذي يختلف فيه الحد والتعزير.

والوجه الثالث: إنَّ الحد وإن كان ما حدث عنه من التلف هدرًا، فإن التعزير يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف. قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة فأخمصت بطنها فألقت جنينًا ميتًا، فشاور عليًّا عليه السلام، وحمل دية جنينها.

واختلف في محل دية التعزير فقيل: تكون على عاقلة ولي الأمر، وقيل: تكون في بيت المال، فأمَّا الكفارة ففي ماله إن قيل: إن الدية على عاقلته، وإن قيل: إن الدية في بيت المال ففي محل الكفارة وجهان:

أحدهما: في ماله. والثاني: في بيت المال، وهكذا المعلّم إذا ضرب صبيًّا أدبًا معهودًا في العرف، فأفضى إلى تلفه، ضمن ديته على عاقلته والكفارة في ماله. ويجوز للزوج ضرب زوجته إذا نشزت عنه، فإن تلفت من ضربه ضمن ديتها على عاقلته إلَّا إن يتعمّد قتلها فيقاد بها.

وأما صفة الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا، وبالسوط الذي كسرت ثمرته كالحد.

واختلف في جوازه بسوط لم تكسر ثمرته، فذهب الزبيري إلى جوازه، فإن زاد في الصفة على ضرب الحدود، وأنه يجوز أن يبلغ به إنهار الدم. وذهب جمهور أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى حظره بسوط لم تكسر ثمرته؛ لأن الضرب في الحدود أبلغ وأغلظ، وهو كذلك محظور، فكان في التعزير أولى أن يكون محظورًا، ولا يجوز أن يبلغ بتعزير إنهار الدم، وضرب الحد يجب أن يفرق في البدن كله بعد توقي المواضع القاتلة؛ ليأخذ كل عضو نصيبه من الحد، ولا يجوز أن يجتمع في موضع واحد من الجسد.

واختلف في ضرب التعزير، فأجراه جمهور أصحاب الشافعي مجرى الضرب في تفريقه وحظر جمعه، وخالفهم الزبيري فجوّز جمعه في موضع واحد من الجسد؛ لأنه لما جاز إسقاطه عن جميع الجسد جاز إسقاطه عن بعضه بخلاف الحد، ويجوز أن يصلب في التعزير حيًّا.

قد صلب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على جبل يقال له: أبو ناب، ولا يمنع إذا صلب أداء طعام ولا شراب ولا يمنع من الوضوء للصلاة، ويصلي موميًا ويعيد إذا أرسل، ولا يتجاوز

بصلبه ثلاثة أيام، ويجوز في نكال التعزير أن يجرد من ثيابه، إلّا قدر ما يستر عورته، ويشهر في الناس، وينادي عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يتب.

ويجوز أن يحلق شعره، ولا يجوز أن تحلق لحيته. واختلف في جواز تسويد وجوههم، فجوَّزه الأكثرون؛ ومنع منه الأقلون[5].

__________

(1) صحيح: (رواه أبو داود في (كتاب الحدود [4375])، وأحمد [24946]، وصحَّحه الشيخ الألباني).

(2) في فتاوى قاضيخان وغيره: إن كان المدعى عليه ذا مروءة وكان أول ما فعل يوعظ استحسانًا فلا يعزر، فإن عاد وتكرر منه روي عن أبي حنيفة أنه يضرب، وهذا يجب أن يكون في حقوق الله تعالى، فإن حقوق العباد لا يتمكن القاضي فيها من إسقاط التعزير. قلت: يمكن أن يكون محله ما قلت من حقوق الله تعالى ولا مناقضة؛ لأنه إذا كان ذا مروءة فقد حصل تعزيره بالجر إلى باب القاضي والدعوى، فلا يكون مسقطًا لحق الله سبحانه وتعالى في التعزير (شرح فتح القدير للسيواسي: [5/ 346]).

(3) هو حمد بن محمد بن أحمد بن العباس بن محمد بن موسى، أبو عبد الله الزبيري، ينتهي إلى الزبير بن العوام، من أهل آمل طبرستان. سمع الكثير ببلده، وسافر إلى خراسان ولقي الأئمة، وجالس الكبار وتفقَّه على ناصر بن الحسين العمري، وولي القضاء بطبرستان وآستراباذ. وكان له تقدم عند السلاطين والوزراء. وكان يطوف مع العسكر ويراسل به إلى الأطراف. وقد جمع في الحديث السنن وفضائل الصحابة، وغير ذلك من التاريخ. وكان متمسكًا بآثار السلف، وله لسان في النظر والوعظ. وقدم بغداد وناظر في حلق الفقهاء، فأبان عن فضل وافر. توفِّي بنيسابور سنة أربع وسبعين وأربعمائه، وحمل إلى آمل طبرستان ودفن بها.

(4) صحيح: (رواه البخاري في (كتاب الزكاة [1432])، ومسلم في (كتاب البر والصلة والآداب [2627])).

(5) قال المرداوي: وفي تسويد وجهه وجهان: وأطلقهما في الفروع. قلت: الصواب الجواز. وقد توقف الإمام أحمد رحمه الله في تسويد الوجه.

وسئل الإمام أحمد رحمه الله في رواية مهنا عن تسويد الوجه: قال مهنا: فرأيت كأنه كره تسويد الوجه. قاله في النكت في شهادة الزور، وذكره في الإرشاد والترغيب أنَّ عمر رضي الله عنه حلق رأس شاهد الزور.

وذكر ابن عقيل عن أصحابنا: لا يركب ولا يحلق رأسه ولا يمثل به، ثم جوزه هو لمن تكرّر منه للردع. قال الإمام أحمد رحمه الله: ورد فيه عن عمر رضي الله عنه يضرب ظهره، ويحلق رأسه، ويسخم وجهه ويطاف به، ويطال حبسه (الإنصاف: [10/ 248]).

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 1
  • 7,949
المقال السابق
(93) قود الجنايات وعقلها (6)
المقال التالي
(95) أحكام الحسبة (1)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً