القطاع الصحي أيام الثورة التحريرية الجزائرية
شعبٌ قدَّم النَّفس والنَّفيس في سبيل تحرير الجزائر، فتعذَّر على المحتل كبح نضاله وحبس إرادته، وبعد جهاد طويل مرير تحقَّق النصر ورفرَفت راية الجزائر خفَّاقة، هذه إضاءات لجانب من جوانب ثورة المليون ونصف المليون شهيد، تُثير فينا العِزَّة والنخوة، وتذكِّرنا بأمجاد أثبتوا للعالم أن الجزائر جزائرية..
بسم الله القائل في محكم تنزيله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة من الآية:249].
شعب صهرته الخطوب فتجلَّد بصبر أيوب وعقد العزم أن تحيا الجزائر، فلاذ بساحة الوغى ليُسمع الدُّنا بصوتٍ ثائر: "شعب الجزائر مسلمٌ وإلى العروبة ينتسِب"!
شعبٌ قدَّم النَّفس والنَّفيس في سبيل تحرير الجزائر، فتعذَّر على المحتل كبح نضاله وحبس إرادته، وبعد جهاد طويل مرير تحقَّق النصر ورفرَفت راية الجزائر خفَّاقة، هذه إضاءات لجانب من جوانب ثورة المليون ونصف المليون شهيد، تُثير فينا العِزَّة والنخوة، وتذكِّرنا بأمجاد أثبتوا للعالم أن الجزائر جزائرية.
"خالد، وعقبة" كلمة السر لليلة أول نوفمبر 1954م، لتنطلق أوَّل شرارة حرب بدَتْ لأوَّل وهلة غير متكافئة الجانبين؛ (1200) مجاهد، (400) قطعة سلاح، بضعة قنابل تقليدية، في مواجهة جيش جرَّار مجهَّز أحدث تجهيز، فشتَّان بين القُوَّتين! وشتَّان بين طالب حقّ ومُستدمر محتل! لم تكن إمكانيات القطاع الصحِّي أيام الثورة التحريرية بأحسن حال من التجهيزات العسكرية التي توفَّرت لجيش التحرير الجزائري، فالبداية كانت صعبة والوسائل قليلة، لكن الهمَّة ناطحت السَّحاب!
* فكيف كانت البداية؟
* وكيف تغلَّب المجاهدون على شحِّ الوسائل المادية ونقص الخبرات البشرية آنذاك؟
* ومن هم الذين ساهموا في بروز هذا القطاع وتطويره ونجاح مهمَّته؟
* وهل كان للمرأة الجزائرية دور في هذا المجال؟
نشأة القطاع الصحِّي أثناء الثورة التحريرية وتطوُّره:
لقد عانى القطاع الصحِّي في بداية الثورة التحريرية من نقص فادح على مستوى الإطارات والدَّواء على حد سواء، واعتبرت الفترة الأولى الممتدة بين (1954/1956م) المرحلة الأصعب؛ إذ كان العلاج تقليديًا بدائيًا، مع وجود مجموعة من العوائق خصَّت كيفية تنظيم نقل الجرحى وجمع الأدوية، خصوصًا وسائل التضميد وأدوات الجراحة الخفيفة وما تعلَّق بالعلاج المركَّز الذي يُقدَّم في حالات الجروح الخطيرة.
استمر الوضع إلى غاية التحاق الطلبة الجامعيين والثانويين بصفوف ثورة نوفمبر بعد إضراب (19 ماي 1956م)، بما في ذلك جمع من طلبة الطبّ والصيدلة والتمريض، فكان دافعًا قويًّا للنُّهوض بهذا الجانب المهم، وتشكَّلت بذلك النواة الأولى للقطاع الصحِّي التابع لجيش وجبهة التحرير الوطني.
نذكر من هؤلاء الأبطال الذين ارتبطت أسماؤهم بالجزائر المناضلة -على سبيل الاستشهاد لا الحصر-: (الأمين خان حسان الخطيب، عبد الكريم بابا أحمد، ابن تامي الجيلالي، ابن إسماعيل، مولود مغني، غانم الجيلالي، عبد السلام هدَّام، عبد الوهاب بشير، التيجاني هدَّام، مصطفى مقاسي، جلول أوهيب).
وقد شهد القطاع تطوُّرًا ملحوظًا في المرحلة الثانية الممتدة بين (1956- 1962م)، بحيث نشطت عمليات التكوين في مجال التمريض في مختلف الولايات التاريخية، بعد أن كانت بطيئة ومقتصرة على بعض المناطق دون أخرى، كما التحق بعض الجزائريين الشباب بمدارس التمريض الفرنسية وحصلوا على تكوين في المجال الصحِّي ليلتحقوا بعدها بصفوف جيش التحرير بعد إتمام دراستهم وتدريبهم.
كما عمدت قيادة الثورة التحريرية إلى تأسيس مدارس لتكوين الممرِّضين ببرامج دقيقة محدَّدة بفترة زمنية تلبية لمتطلَّبات الحرب، وكان يتمُّ التكوين باللغتين العربية والفرنسية، وذلك على مستوى مراكز تدريب جيش التحرير الوطني أو قرب مستشفياته، اقتُبس تنظيم الوحدات الصحيَّة أيام الثورة من التوزيع الإقليمي لجبهة وجيش التحرير بولاياته الست التاريخية.
الولاية الأولى: الأوراس.
الولاية الثانية: قسنطينة.
الولاية الثالثة: القبائل.
الولاية الرابعة: الجزائر.
الولاية الخامسة: وهران.
الولاية السادسة: الصحراء ثم المنطقة ثم الناحية ثم القسمة، وعلى رأس كل وحدة من هذه الوحدات مسؤول، مع وجود طبيب وأربعة ممرضين كفريق طبي متكامل مع الجند يقدِّمون لهم الخدمات الصحيَّة، وأقيمت لهذا الغرض مراكز يُعالج فيها المرضى من المجاهدين في الحالات العادية، والجرحى المصابين بعد المعارك بين جيش التحرير وقوات الاحتلال الفرنسي، بحيث استُحدثت مستشفيات نموذجية قارَّة -والتي ظهرت بوادرها في الولاية التاريخية الثانية-.
وسُرعان ما تحوَّلت لمستشفيات متنقِّلة خوفا من اقتحام القوات الفرنسية لهذه المراكز والاستلاء على الأدوية والعتاد، وغالبًا ما كان المقرُّ عبارة عن كوخ أو مغارة، وليس بالمفهوم المتداول حاليًا للمستشفى، بينما يضطرُّ القائمون على هذه المراكز الصحيَّة إلى إرسال الحالات الحرجة إلى المراكز الخلفية بالحدود الجزائرية المغربية أو الحدود الجزائرية التونسية.
ثم توسَّعت دائرة تقديم الخدمات الطبيَّة لتشمل المرضى المدنيين في القرى والمداشر، وحتى اللاجئين الجزائريين في المغرب وتونس، كما بدأ الدواء يجد له طريقا للأطباء والممرضين من الجهات المدنية، كنوع من التكافل بين أفراد المجتمع الواحد، إلى أن قوي دعم المساندين لثورة الجزائر، وأصبحت جبهة التحرير تستقبل المساعدات الطبية من أدوية وعتاد طبي من خارج الوطن، بالمقابل فرضت السلطات الفرنسية مراقبة شديدة على الحدود الغربية والشرقية لمنع دخول الأدوية والعتاد الطبي لأرض الوطن خوفا من وصوله للمجاهدين، بل عمِلت على معاقبة كل من علِمت بمشاركته في دعم الثورة التحريرية في هذا المجال.
وكان الطبيب والممرِّض يحمل السِّلاح ويتدرَّب على القتال، مثله مثل أي جندي تابع لجيش وجبهة التحرير الوطني، وكان يُعرف بين الجند بقطعة قماش بيضاء يلفُّها حول عضده مزيَّنة بهلال أحمر.. رغم كل المصاعب والمتاعب وقلَّة العتاد الطبي، ومباغتة قوات الاحتلال لمراكز العلاج، فقد أثبت الطبيب والممرِّض الجزائري أثناء الثورة التحريرية، أن التصميم على تحقيق النصر كفيل بأن يشحذ الهمم ويعليها، فالغاية كانت الشَّهادة أو نصر من الله وحريَّة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم!
وبعد الاستقلال كرَّس الأطباء والممرِّضون جهودهم لإعمار الجزائر بالعمل في المستشفيات والعيادات الطبيَّة، ليستمر أداء الواجب تجاه الوطن.
دور المرأة الجزائرية في النهوض بقطاع الصحَّة أيام الثورة التحريرية:
حضور نسوي متميِّز ومشرِّف بين صفوف جيش التحرير الوطني، لا سيما المرأة الممرِّضة، وأدوار مُركَّبة تلك التي عُرفت بها الممرِّضة الجزائرية أيام ثورتنا المباركة، بحيث قامت بدورها في إسعاف الجرحى من المجاهدين والمدنيين، وقدَّمت الإرشادات والنصائح للنساء وحثَّتهن على النظافة وأرشدتهن إلى طرق الوقاية من الأمراض المختلفة.
ولما أدركت قيادة الثورة التحريرية أهمية خدمات التمريض التي يمكن أن تقدِّمها المرأة الممرِّضة، بادرت بالاتِّصال بالممرِّضات اللواتي زاولن التكوين في المدارس الفرنسية أو في القواعد الخلفية في كل من تونس والمغرب، بغية الالتحاق بصفوف المجاهدين، وهذا قبل فتح مدارس التكوين الخاصة بالجبهة.
وقد التحقت الكثيرات من فتيات الجزائر المتعلِّمات بسلك التمريض التابع لجيش التحرير عقب إضراب الطلبة في 19 ماي 1956م، بعد حصولهن على التكوين اللازم في هذا المجال، نذكر من سيِّدات الجزائر المجاهدات اللواتي ناضلن من أجل تحرير الوطن من قبضة فرنسا: (أنيسة بركات درَّار، وجميلة مهدي، ومريم بلميهوب، ومليكة خرشي، ورقية غيموز، ومريم بوعتورة، وزبيدة ولد قابلية، ومسعودة باج)، وغيرهن..
الهلال الأحمر الجزائري:
تأسَّس الهلال الأحمر الجزائري بتاريخ 11 ديسمبر 1956م، بعدما وجدت الفكرة التي انبثقت في المغرب الأقصى طريقها للتجسيد الميداني، على يد كل من السيّد شنغريحه المدعو سي عبد القادر، والدكتور بن إسماعيل والصيدلي عبد الله مراد، وقد تمَّ عقد جلسة الافتتاح بتونس في 25 سبتمبر 1957م، ليتمَّ الإعلان الرسمي عن أعضاء مكتب الهلال الأحمر من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ، الذين أوكلت إليهم مهمَّة التسيير والسَّهر على تطبيق أوامر جبهة التحرير الوطني في مُسايرة الأوضاع.
كان الهدف من تأسيس الهلال الأحمر الجزائري هو إيصال صوت الجزائريين لأقطار العالم ونقل معاناتهم، وكشف سياسة فرنسا التعسُّفية، والعمل على كسب تأييد الهيئات الإنسانية عبر العالم بما في ذلك الصَّليب الأحمر الدولي، والوقوف عند متطلبات اللاجئين الجزائريين في المغرب وتونس.
أسماء ارتبطت بالقطاع الصحِّي أيام الثورة التحريرية:
هذه ترجمات مختصرة لأسماء ارتبطت بالثورة التحريرية وعايشت مختلف أطوار قطاع الصحة قبل وبعد الاستقلال، مع الاعتذار عن جرد جميع الأسماء التي تستحقُّ التقدير:
الشهيد الدكتور بن زرجب بن عودة (1921-1956م):
عاش الدكتور بن زرجب في أوساط شعبية بسيطة، وانخرط مبكِّرا في الحركات السياسية النِّضالية بالجزائر، حصل على شهادة الطب سنة 1948م بعد مناقشته لموضوع سرطان الدم، ليعود بعدها لتلمسان حيث تفرَّغ لعلاج المرضى بمقر سكناه وتقديم الإسعافات للمجاهدين في الجبال وتدريب الممرِّضين، إلى أن قبضت عليه السلطات الإستدمارية الفرنسية بعدما اكتشفت اقتنائه لآلة (رونيو) لسحب الوثائق والمناشير التي تدعو للثورة التحريرية، فأُدخل السِّجن ثم أعدم يوم 16 يناير 1956م بدوار أولاد حليمة بالقرب من سَبدو.
المجاهد الدكتور التيجاني هدَّام (1921 – 2000م):
ولد التيجاني هدّام بتلمسان في سنة 1921م، طبيب جرَّاح، زاوج بين التكوين الطبي العلمي والتكوين الديني، لبَّى نداء الجزائر الجريحة وانضمَّ لصفوف جبهة التحرير مجاهدًا وطبيبًا، وكان له الفضل الكبير في تأسيس القاعدة الصحيَّة أيّام الثورة التحريرية، وبعد الاستقلال، انتخب هدَّام نائبًا، وعيِّن بعد ذلك وزيرا للشؤون الدينية في سنة 1964م، ثم وزيرا للصحَّة سنة 1965م، ليشغل بعدها منصب سفير للجزائر في تونس ثم السعودية، وبعدها عُيِّن إمامًا لمسجد باريس بين عامي (1989 و1992م)، وعاد هدَّام للجزائر تلبية لنداء الوطن، وانضمَّ للمجلس الأعلى للدولة الذي تولّى قيادة البلاد بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، وتوفي فقيد الجزائر يوم 20 مارس 2000م.
الشهيدة مسيكة زيزة (1934 – 1959م):
الشهيدة سكينة زيزة المدعوَّة بمسيكة زيزة، التحقت بالثورة التحريرية في نهاية سنة 1956م، عيِّنت مسؤولة عن مركز صحِّي في منطقة محرمة بأعالي القل، استشهدت بعدما أدَّت واجبها على أكمل وجه، كان ذلك حين قامت طائرات قوات الاحتلال بالتحليق فوق المنطقة في إطار دوراتها التفتيشية، فأسرعت لإجلاء المرضى والجرحى والعتاد والتموين رفقة مساعديها، وبعد أن أتمَّت المهمَّة بنجاح، عادت لتأخذ محفظتها التي نسيتها لما تحتويه من وثائق هامَّة، فسقطت شهيدة في ساحة الشرف.
صديق الجزائر الدكتور فرانز فانون (Frantz Fanon 1925 – 1961م):
"ما أُخذ بالقوة، يُستعاد بالقوة" ذلك هو منطق هذا المناضل والطبيب النفساني والفيلسوف القادم من جزر المارتنيك (Fort-de-France/ Martinique) حيث ولد ونشأ، التحق بجيش فرنسا النِّظامي سنة 1943م، ثم تخصّص في الطبّ النفسي وعمل رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مستشفى البُليدة بالجزائر عام 1953م، وبعد سنتين استقال الطبيب من منصبه مساندة لجهاد الجزائر ضد فرنسا، وأعلن انضمامه لصفوف جبهة التحرير الوطني.
غادر (فرانز فانون) الجزائر عائدًا إلى باريس، أين واصل نضاله لنصرة القضية الجزائرية، فعمدت السلطات الفرنسية إلى طرده من البلاد، فالتحق بعدها بتونس حيث عمل محرِّرا صحفيًا في جريدة المجاهد الناطقة باسم جبهة التحرير الجزائرية، وأسَّس في منوبة مركزا لمعالجة الأمراض العصبية النفسية.
قبل أشهر من بزوغ فجر الحرية، توفي (فانون) بالولايات المتحدة الأمريكية إثر إصابته بسرطان الدم، ودُفن بناء على رغبته يوم 12 ديسمبر 1961م بمقبرة الشهداء بسيفانة الواقعة ببلدية عين الكرمة التابعة لولاية الطارف بالقرب من الحدود الجزائرية التونسية، وبعد الاستقلال نُقل جثمان فرانز فانون إلى مقبرة الشهداء بعين الكرمة.
خلّف صديق الجزائر ما يبرز إنكاره الصريح للاستعمار والتمييز العنصري ودفاعه عن المضطهدين في العالم، ونضاله من أجل الحرية، ودعم حركات التحرُّر في أرجاء العالم، والشاهد: (معذَّبو الأرض) (Les damnés de la terre) الذي نـُشـر قبل أقل من شهر واحد من وفاته، بمقدمة لجان بـول سارتـر، وكذا (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) (Peau noire، Masques blanc)، تلك مسيرة مختصرة لرجل آمن بحق الجزائريين في الحرية.
وأخيرا أقول:
إلى من دافع عن الحمى واستشهد، إلى من جاهد ورفع شعار: "الحياة بعزة أو الشَّهادة"، إلى من واصل الجهاد الأكبر بعد الاستقلال: أنتم قُدوتنا، أنتم فخرنا، أنتم من صنع تاريخ جزائرنا.
تلك ومضة فخر سجَّلتها بكل اعتزاز؛ لأنَّني جزائرية الهوى والهويَّة، اللهم سلِّم أوطان المسلمين من كل بليَّة ورزيَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
* المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م.
* عبد المالك بوعريوة، دور المرأة الجزائرية الممرِّضة في الثورة التحريرية (1954-1962م).
* شهادة مباشرة للمجاهد المدعو: ابن باديس (الولاية التاريخية الخامسة) والذي عايش قطاع الصحَّة أيام الثورة التحريرية مجاهدًا وممرِّضًا، وساهم في بناء الجزائر المستقلة، حفظه الله وأطال عمره في طاعته.
- التصنيف: