قرآن الفجر

منذ 2014-12-04

فما كان من بعض المسلمين إلا أن خالفوا هذه السنة الإلهية، فجعلوا الليل في غير ما أمر الله تعالى، فشاع السهر إلى قبيل الفجر في كثير من البلاد العربية والإسلامية، وهو ما يستتبع ضياع صلاة الفجر في جماعة، فضلاً عن فوات وقت ما بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، والذي يختص بمزايا وخصائص فيه العلاج والدواء لمعاناة الناس وشكواهم.

كثيرًا ما يتردد على الأسماع شكوى كثير من المسلمين من ضيق الصدر واكتئاب النفس وانقباض القلب، ناهيك عن انعدام البركة في الرزق المادي الذي يكدر صفو حياة كثير من الأسر، فمن المعلوم أن الرزق مكتوب ومعلوم، ولكن ما يفتقده غالبية الناس هو البركة في ذلك الرزق، ناهيك عن فقدان الرزق الروحي المعنوي الذي قد لا يسترعي انتباه كثير من المسلمين، بينما هو في الحقيقة أهم وأخطر من الرزق المادي لو فقهوا.

ولا يتوقف بحث هؤلاء عن حل لهذه الحالة النفسية الضاغطة على حياتهم، ولا ينتهي سعيهم في مخرج من قلة الرزق -حسب تعبيرهم- إلى سعته، ومن ضيق الصدر إلى انشراحه، وما دروا أن الحل كامن في تطبيق شرع الله تعالى، وأن الداء ناجم عن مخالفة أوامر الله ومعاكسة نهجه.

لقد جعل الله تعالى بحكمته الليل لباسًا وسكنًا وراحة، ليتقوى المسلم به على عمل النهار الذي جعله الله معاشًا وسعيًا ونشورًا، وهو سبحانه أدرى بما يصلح العباد في المعاش والمعاد، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا . وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:10-11].

فما كان من بعض المسلمين إلا أن خالفوا هذه السنة الإلهية، فجعلوا الليل في غير ما أمر الله تعالى، فشاع السهر إلى قبيل الفجر في كثير من البلاد العربية والإسلامية، وهو ما يستتبع ضياع صلاة الفجر في جماعة، فضلاً عن فوات وقت ما بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، والذي يختص بمزايا وخصائص فيه العلاج والدواء لمعاناة الناس وشكواهم.

لم يكن هذا السهر في طلب العلم كما كان شأن السلف الصالح من علماء هذه الأمة وفقهائها، بل كان غالبه في اللهو واللعب وضياع الأوقات دون فائدة، بل ربما في معصية أو ذنب وخطيئة وللأسف الشديد.

إن من يدقق في الآيات والأحاديث الواردة عن فضل صلاة الفجر في جماعة، وعن فضل وقت ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس في الإسلام، يستطيع أن يؤكد أن علاج مشكلات المسلمين المادية والروحية التي يعانون ويشتكون منها تكمن في استدراك هذا الخلل الواقع في حياتهم، والعودة إلى السنة الإلهية في أعمال الليل والنهار.

خصائص صلاة الفجر وآثارها
اختص الإسلام صلاة الفجر بكثير من الخصائص التي إن استثمرها المسلمون نعموا براحة البال وهدوء النفس وسعة الرزق في الدنيا، ومغفرة الله وثوابه في الآخرة، ولعل من أبرز هذه الخصائص:

1. صلاة الفجر مشهودة من ملائكة الليل والنهار: اختص الله تعالى صلاة الفجر بميزة ليست في غيرها من الصلوات المفروضة، فقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].

قال ابن كثير والطبري: "{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: صلاة الفجر أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن، وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصب قوله {وَقُرْآنَ الْفَجْرِعلى الإغراء، كأنه قال: وعليك قرآن الفجر، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار»" (تفسير ابن كثير[5/102] و تفسير الطبري [17/520]).

وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الخاصية لصلاة الفجر بقوله: «وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: "فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}" (صحيح البخاري برقم [648]).

وإذا اعتبرنا هذه أولى خصائص صلاة الفجر، فإن لها من الأثار الروحية والنفسية الكثير، فهي تستوجب استغفار ملائكة الليل والنهار للحاضرين في صلاة الفجر جماعة، وهو ما يبعث على الراحة النفسية والسكينة وانشراح الصدر، وعلى العكس من ذلك، فإن النوم عن هذه الصلاة المفروضة إلى الظهر بسبب السهر، هو السبب الرئيس مما يشتكي منه كثير من المسلمين من الضيق والكدر والهم والغم.

ومما يؤكد ذلك ما ورد عن النبي صلى الله علييه وسلم في الحديث الصحيح: 
«يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَان» (صحيح البخاري برقم [1142]).

2. سعة الرزق المادي والمعنوي: فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأمته بالبركة في بكورها فقال:
«اللهم بارك لأمتي في بكورها» (صحيح ابن ماجة للألباني برقم [2229]، وفي رواية: «بورك لأمتي في بكورها»).

كما ورد في سنن الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية أو جيشًا، بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار، فأثرى وكثر ماله. (سنن الترمذي برقم [1230]، وقال: "حديث صخر الغامدي حسن").

وفي هذا ما يشير إلى أن البركة لهذه الأمة في بكورها -أي من بعد صلاة الفجر- سواء فيما يخص الناحية المادية أو الروحية والمعنوية، وأن من يفوته هذا الوقت فقد فاتته البركة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أن من يعزم على استثمار هذا الوقت المبارك فيما يصلح حاله ماديًا ومعنويًا، فإنه بلا شك سيجد العلاج المناسب لما كان يشتكي منه من انعدام البركة في الرزق وضيق الصدر وكدر العيش.

3. الدخول في ذمة الله ورعايته: فقد ورد في الحديث عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «من صلى الفجر فهو في ذمة الله وحسابه على الله» (المعجم الكبير للطبراني برقم [8188]، وحسنه الألباني).

وقد ورد الحديث بعدة روايات ذكرها الألباني في كتابه صحيح وضعيف الجامع و كلها روايات صحيحة: «من صلى الغداة كان في ذمة الله حتى يمسي» (برقم [6343]) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية:  «من صلى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته» (برقم [6344]).

وفي هذه الروايات ما يشير إلى دخول من أدى صلاة الفجر في ذمة الله تعالى، ولا شك أن من دخل في ذمة الله فلا يمكن أن يصيبه الكدر والهم والغم وضيق الصدر وكدر العيش ماديًا ومعنويًا، بل سيجد سعة في الرزق المادي والروحي.

قال الشيخ العثيمين في شرح الحديث: «في ذمة الله» أي في عهده، يعني أنه دخل في عهد الله فكأنه معاهد لله عزّ وجلّ أن لا يصيبه أحد بسوء (شرح رياض الصالحين للشيخ العثيمين [28/21]).

4. عظيم الأجر والثواب من الله: فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة»،  قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تامة تامة تامة»" (قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب وصححه الألباني، سنن الترمذي برقم [583]).

ولا شك أن مثل هذا الثواب العظيم المختص بصلاة الفجر في جماعة وما بعدها، سيبعث في نفس صاحبه السعادة والفرح بفضل الله ورحمته: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون} [يونس:58]، وسيطرد عنه ما كان يجده من الضيق والكدر، وسيدفعه التفاؤل والثقة بالله تعالى إلى المزيد من العمل والطاعة.

5. نيل أجر قيام الليل: فقد ورد في الحديث الصحيح عن عثمان بن حكيم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» (صحيح مسلم برقم [1523]).

إن الخصائص والمميزات لقرآن الفجر -صلاة الفجر- التي سبق ذكرها، كفيلة بحل مشكلات المسلمين المادية والروحية التي يعانون منها، كما أنها تطبيقها وامتثالها وتحويلها إلى حقيقة وواقع في حياة المسلمين، كفيل بإحداث نهضة اقتصادية مادية كبيرة، ناهيك عن الحياة الروحية للقلب في ذلك الوقت المبارك، الذي هو أثمن وأغلى من كل كنوز الأرض.

وأختم بعبارات أدبية رفيعة ومؤثرة خرجت من قلب مصطفى صادق الرافعي، وهو يحكي قصة صلاة الفجر مع والده في جماعة وهو طفل صغير تحت عنوان (قرآن الفجر): "لا أنسى أبدًا تلك الساعةَ، ونحن في جَوِّ المسجد، والقناديلُ معلَّقة كالنّجوم في مَناطها من الفلك.. والناس جالسون عليهم وَقار أرواحهم، ومن حوْلِ كُلِّ إنسانٍ هُدُوءُ قَلْبِه.. لا أَنسى أبدًا تلك الساعة، وقدِ انْبَعَثَ في جوِّ المسجد صوتٌ غرِدٌ رَخِيم.. وهو يُرَتّل آياتِ من آخِرِ سورة النحل.. كنا نسمع قرآن الفجر وكأنما مُحِيَتِ الدنيا التي في الخارج من المسجد، وبَطَلَ باطِلُها، فلم يبقَ على الأرض إلا الإنسانيةُ الطاهرة، ومكانُ العبادة؛ وهذه هي معجزة الرُّوح، متى كان الإنسان في لَذَّةِ رُوحِه، مرتفعًا على طبيعته الأرضية". 

د. عامر الهوشان 
16/10/1435 هـ

  • 1
  • 1
  • 9,739

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً