الصمت في مقابل الكفر

منذ 2014-12-09

ولا يفهم أحد من هذا الكلام أن يكون الصمت هو رد فعلنا الوحيد، فإن هذا ضرب من الابتداع لا يقبله عاقل، ولكنني أردت أن هناك من المسائل المتعلقة بالأنفس والأعراض في زمان الفتن ما يستوجب أن نتعاطى معها في صمت إذا لم يكن هناك رادع سلطوي يكف الآثمين ويوقف المعتدين، وهذا أمرٌ قد دلت عليه تجارب الدول الغابرة والحاضرة، فلماذا نسلك سبيل الهالكين ونحن في مأمن إذا تعاملنا بالصمت، وعمقنا جذور الإيمان في النفوس، فكان منها وازع ذاتي يطرد كل مالا يوافق الحق.

زمان الفتن يلقي بظلاله على الأفكار فتضطرب، وعلى الاعتقادات فتفسد، وعلى الأساليب فتبرد، والناس لا ينفكون في دوامة متسارعة تأخذ بعقولهم إلى المجهول، وتقود قلوبهم إلى الفناء، وتحدو بأنفسهم في بيداء الحياة حيث لا يرجع الذاهبون ولا يفلح السائرون، ولا يكاد يتنبه أحد إلى ضرورة الهدوء عند هبوب العاصفة، ووجوب الصمت عند دوي الصواعق، إن خيرًا من الجري العابث المرهق الجالب شرًا، والناشر اضطرابًا.. أن يفيء الإنسان إلى وقار السكون يستمطر به الرحمات، لقد خابت الأساليب جميعها في احتواء الثورات السياسية والفكرية، ولم ينفع التعذيب، ولا أجدت السجون، ولا ربح التهجير، ولا انتصر الموت على هدير الحياة الصاخب في القلوب الثائرة، ثم أخذ الراية فارس الصمت فشتت قوة الثوار، وأدخل الريب في قلوب المناصرين، وزرع الشك في نفوس المنتظرين، ثم عادت الحياة إلى هدوئها، وامتلأت الشوارع بأحلام الغد وضرورات الحياة! الصمت خير دواء لكل داء إذا عرف كيفية التعاطي معه المسئولون، وفهم طريقة التلاعب به صناع القرار، وليس عجبًا أن يكون ثلاثة أرباع كلام العقلاء صمتًا تؤدي مراسيمه العقول، وتنفذ مشاريعه العيون، وكم فتنة قد أوقدت فزادت ضرامها أقلام مؤمنة لا عقل لها، وطوحت بشررها في المدينة بيانات صادقة لا حكمة فيها، وكثرت حطبها فتاوى مجتهدة لا مساك لها، وتحولنا إلى أمة تأكل نفسها رغم أنها تجد من تأكله من أعدائها، وقمنا بدور الحاقدين الشانئين أحق قيام فقطعنا أواصر الأخوة، وشوهنا وجه الحقيقة، وعكرنا روح الإسلام، ولم نفسح للحق أن يأخذ دوره في الحياة دون أن نتدخل بصياحنا البائس الدال على ضعفنا وقلة حيلتنا، وأصبحنا بذلك -شئنا أم أبينا- لعبة بأيدي المتلاعبين بالعقول، ووسيلة عظيمة في متناول صناع الفساد في هذا العالم، وكأننا بمعزل عما جرى في دول مرت بتجارب مشابهة بما نمر به، ثم تعافت أو كادت وأخذت تصدر إلينا بضاعتها الفاسدة عبر كتب لا تساوي جهد طباعتها...

مجتمعنا كأي مجتمع إسلامي يعيش حالته الخاصة به، المتكونة من إفرازات عامة وضغوط خاصة لا نملك حيالها حولاً ولا طولاً إلا المضي في ركابها إلى نهايتها التي يقدرها الله، ثم نتج من هذه الحالة تصرفات لا تتصل بالأخلاق بوشيجة، وأقوال لا تمت إلى الدين بصلة، وأصبحت قضايا المجتمع والسياسة والدين تحت وصاية أقلام فاجرة تنادي صباح مساء على مزادها الخاص، يدفعها دافع الحرية والتعبير عن الآراء، ولو كانت هذه الحرية وتلك الآراء دورانًا في فلك لا ينتمي إلى فلكنا، وسيرًا في طريق لا يؤدي إلى غايتنا، وهذا الصراع لا ينفك يتجدد بين الفينة والأخرى كلما غمست الأمة في أهوائها، أو غمرت برغباتها، أو دفنت تحت أنقاض شهواتها، ليعيد صياغة الأمة فينفي خبثها، ويقوي عقيدتها، ويجلو إسلامها، ويوحد صفها، ولقد يكون في الجمرة المتوقدة تصيح بالخراب معنى من معاني النعيم يشعر بالفرج ويوعد بغد أحسن، فإذا رأينا من يمس عقيدتنا أو يتهجم على رسولنا أو يسخف أمر ديننا فلنعلم أن هناك معركة تدار في النفوس والعقول قبل أن تدار في الصحف والانترنت، طموحنا أن نخرج منها أعمق فهمًا، وأوسع علمًا، وأذكى تفكيرًا، وأدق حيلة، وطموح غيرنا أن نظل في سدرة لا نبصر فيها، وغاشية لا تنكشف نواحيها، فتزداد فرقتنا، ويتخلخل صفنا، وتتبدد عزائمنا..

من السهولة بمكان على العالم أن يطبق قواعد الإسلام في تكفير من زاغ عن الصواب، واتخذ هواه مطية، ونكب عن طريق الحق، وناصب الدين العداء، وخرق أبجدياته التي لا تخطئها الأعين المسلمة، ولكن هل تنتهي القضية عند هذا الحكم وتعود الحياة إلى سيرها ويرجع المسلمون إلى بيوتهم آمنين؟ كلا؛ لأن الذي كتب ما كتب وقال ما قال لم يرد أن تنتهي المعركة عند الكلمة التي قيلت لإبليس في الملكوت الأعلى إنك رجيم، ولم يرغب في ساعة من الساعات أن يصنع معركة تكون أعلام بدايتها هي بنود خاتمتها، بل فكر وقدر، فقتل كيف قدر، وأعانه على مشروعه أناس لهم سابق تجربة يعرفون ما تؤول إليه الأمور، ويعلمون ردة الفعل مسبقًا، وكيف ستكون، وما حجمها، ومن سيرفع لواء المعركة دون تهيب أو خوف، وتبعًا لذلك رتبوا أمورهم، ونظموا حملتهم، وجيشوا إعلامهم، وعقدوا للوقائع عقدها، واستعدوا بأفعال كأفعال الدجال ظاهرها المعجزة وباطنها الكفر، يدعو إليها بصوت نكير: من هنا طريق الجنة، وإن على جبينه من ميسم النار، ما يقول: إليك يا عبد الله إنها خطوة ولست تخطو أختها إلا إلى النار!

إننا في عالم لم يعد لنا فيه سلطان يحكم أو أحكام تزع، ونحن نعيش في ظل منظومة عالمية فرضت القوة الغاشمة أنظمتها، ولم يعد للمخالفين من سبيل يمكنهم الفرار من خلاله من ربقة الاستعباد، وما كان سابقًا شأن من شؤون البلاد أصبح اليوم خطرًا يهدد العالم، ويقض مضاجع الأحرار، وينذر بشر على مرتكبيه، فأصبح من السهل أن يصرح غراب أبقع بالكفر الصراح، فإذا تناوشته سهام الحق صرخ في الوجود: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة تدق! ونادى العقلاء من أبناء العالم أن يقفوا معه، ثم لا يلبث إلا كرجع البصر حتى يتوافد إليه الصحافيون من كل مكان يعضدونه من جهة ويقتاتون دمه من جهة!

إن الصمت الجبار هو خير دواء لمثل هذه الحماقات؛ لأنها يضعها في إطارها الصحيح، وإذا كان الصمت سلاحًا استخدمه الباردون من أهل المناصب لمواجهة الأذكياء، وأرباب العقول حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الغرب ليعيشوا عقولهم، ويفجروا إبداعاتهم، فنحن أولى من استخدمه لأغراض سلمية تحمي كيان الأمة من التصدع، ومن المعلوم عند أهل النظر أن حكم التكفير إن لم تدعمه قوة تنفيذية، وسلطة سياسية، فإن إطلاقه لا يأتي بخير أبدًا؛ لأنه يفتح بابًا للحمس من أهل الإسلام في تنفيذ مستلزماته، وتطبيق مقتضياته في غفلة من أعين الرقيب، فينتج من ذلك فتنة لا يختم نهايتها إلا ختم الدم... ! وفي ما حصل في بغداد من مآس بسبب فتنة القشيري وغيره وما تبع ذلك وما سبقه من خلاف بين الحنابلة والأشاعرة من جهة، والحنابلة والشيعة من جهة، ووقوع الشر بين المسلمين وانتهاك حرمة الدين، واستحلال الدم.. ما يجعلنا نفكر جيدًا في مآل أقوالنا وأفعالنا المستفزة من قبل من لا يخاف الله ولا يرجو الآخرة!

لساني عَلى الصمت الطَويل مواظب***وَفي الصدر آراء يضيق بها صَدري

ولا يفهم أحد من هذا الكلام أن يكون الصمت هو رد فعلنا الوحيد، فإن هذا ضرب من الابتداع لا يقبله عاقل، ولكنني أردت أن هناك من المسائل المتعلقة بالأنفس والأعراض في زمان الفتن ما يستوجب أن نتعاطى معها في صمت إذا لم يكن هناك رادع سلطوي يكف الآثمين ويوقف المعتدين، وهذا أمرٌ قد دلت عليه تجارب الدول الغابرة والحاضرة، فلماذا نسلك سبيل الهالكين ونحن في مأمن إذا تعاملنا بالصمت، وعمقنا جذور الإيمان في النفوس، فكان منها وازع ذاتي يطرد كل مالا يوافق الحق.

ويا خبيراً على الأسرار مُطّلِعاً***اصْمُتْ ففي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ!


سلمان بن محمد العنزي

  • 0
  • 0
  • 1,472

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً