لماذا لا تكتب؟
الكتابة تكون أول الأمر فكرة تخطر بالخاطر فتشوش البال وتصحبك في حلك ترحالك فإذا رسخت أقضت مضجعك وجعلت لِخِنْزَب عليك سبيلاً آخر فلا تدري كيف ولا كم صليت، ولا أدل على ذلك من مثل هذا السؤال فإنه بعد طرحه ذهب صاحبي إلى بيته قرير العين فأحيا فيّ خاطرًا وأدته قبل سنين لأخلد إلى راحة البال فكان كمن ألقى حجرًا في بركة يلهو ولم يدر ما أحدثه هذا الحجر في أعماق البركة من آثار.
قال لي صديق كريم مرة: لماذا لا تكتب؟
فشدهت ولم أُحر جواباً، لأني في الحقيقة لا أعرف كيف أجيب.
وها أنا ذا أحاول التعاطي مع هذا السؤال.
كيف يسألني هذا السؤال الغريب، وقد بدأت تعلم الكتابة في التحضيري وإن لم أتقنها إلا في ما بعد، وقد ملأت من الدفاتر والأوراق ما ينوء به العصبة أولو القوة. ثم ها أنا ذا أخط هذه الكلمات، ولولا أني على ثقة أنكم لا تشكون مثل صاحبي هذا لذهبت إلى الموثق ووثقت هذه المقال عنده بخط يدي حتى لا أدع مجالا للشك.
ثم كيف خطر لحضرته المحترمة مثل هذا التساؤل؟
هل طلب مني سعادته ملء استمارة فجعلت أقلبها لا أعرف رأسها من قدمها؟
أم طلب مني توقيعاً فبصمت بدله؟
أفلا يحق لي يا سادة مع كل هذا أن أغضب وأثيرها عليه حرباً داحسية أو بَسوسية ثأراً لكرامتي؟
أو على الأقل أن أروغ إلى الوضوء لأطفئ جمرة هذا الغضب؟
لا يا سادة لا تتسرعوا، فإن هذا الطرح واهٍ، ومن اقتنع به ورجحه فليعلم أنه لا يختلف قضاؤه عن قضاء جحا ولا فتاويه عن فتاوى الحكيم توما، وهذا مع الأسف مما استفحل في زماننا هذا، وعمت به البلوى بسبب وسائل الإعلام التي ترينا ما تريد أن نراه، وتضرب الذكر صفحاً عما لا تريد حتى توجهنا إلى حيث شاءت، فتنبه ودعك من دعوى الحيادية ولا تحكم حتى تتثبت وتعرف السياق والقرائن والأحوال.
إن البث في الدعاوى يحتاج إلى التؤدة والروية ولا تحكم لمن جاءك وقد قلع ضرسه حتى تسمع لخصمه فلربما قد قلع له أكثر من ضرس.
ثم سوء الفهم للمقصود مزلة الأقدام فقبل رد قول أو قبوله -بفتح القاف على غير القياس- لابد من تقليبه من كافة الوجوه الممكنة:
وكم من عائِبٍ قولاً صحيحاً *** وآفتُه من الفهْمِ السّقيمِ
قد تقولون قد ظهر المقصود بالسؤال ولا يخفى على البليد بله اللبيب، فقد كان يقصد: لماذا لا تكتب مقالات أو كتابًا؟
أرأيتم كيف وصلنا إلى نتيجة نتفق عليها وصار لزاماً علي أن أجيب ولأنني لا أملك الإجابة المباشرة فسألجأ إلى القياس العكسي فأتساءل: لماذا أكتب؟
إن الكتابة مثل الولد حذو القدة بالقدة كيف ذلك؟
أليست النطفة أولَ مراحل الوليد ثم تنمو بتكاثر الخلايا إلى أن تصير جنيناً ثم يحين وقت المخاض ثم إذا ولد احتاج إلى الرعاية حتى يكبر فإذا كبر فقد يميل إلى العقوق أو يكون بارًا.
فكذلك الكتابة تكون أول الأمر فكرة تخطر بالخاطر فتشوش البال وتصحبك في حلك ترحالك فإذا رسخت أقضت مضجعك وجعلت لِخِنْزَب عليك سبيلاً آخر فلا تدري كيف ولا كم صليت، ولا أدل على ذلك من مثل هذا السؤال فإنه بعد طرحه ذهب صاحبي إلى بيته قرير العين فأحيا فيّ خاطرًا وأدته قبل سنين لأخلد إلى راحة البال فكان كمن ألقى حجرًا في بركة يلهو ولم يدر ما أحدثه هذا الحجر في أعماق البركة من آثار.
فإذا ترسخت الفكرة انقسمت إلى أفكار أساسية تدور كلها حول الفكرة الأم فلا تسأل عن محاولة جمع شتاتها وتنميق عباراتها لتصل إلى المتلقي خالصة من كل كدر فلا يكاد الفكر يستقر على تعبير ما حتى يستحسن غيره فيكون كمن يجري وراء السراب.
ثم إذا استقرت المعاني وجاء المخاض العسير، حرن الخاطر واستحال باقلاً بعد أن كان سحبان، وماذرا وكان حاتماً، وصارت رياضه بلاقعَ وكانت بساتين فيحاء، ورضابه حنظلاً وكان عسلاً، فتجلس تفكر في ماذا تكتب فلا تجد تلك الأفكار القشيبة بل صارت شريدة كأنك تريد أن تفكر في الموضوع للوهلة الأولى فتعصر خاطرك فما يبض بجملة ترضى عنها وربما كتبت أسطراً ثم مسحتها كأنك تحرث بالجمل كما يقول المثل العامي.
وهبك نجحت في ترصيف الجمل وأكملت الكتابة وزال ألم الطلق رغم ذلك يبقى هذا الوليد خديجاً لا تظن أنك عبرت عما يختلج في خاطرك، ويبق البون شاسعًا بين الخيال والواقع، ولو بقيت مسترسلاً مع هواجس الإصلاح لما بلغ الوليد الفطام وكل ذلك رغبة منك في أن تخر له الجبابرة ساجدين وهيهات فذاك أمر دونه خرط القتاد ونسف الجبال ونزف البحار، وحسب العاقل أن ترجح كفة الرضى.
وهب بنات الأفكار شبت عن الطوق، وتوفر شرط الجمال أو على الأقل غضضت عنه الطرف، اعترضك شرط الكفاءة فاحترت إلى من تزفها؟!! أإلى من رضي بالعجمة بدل الإعراب، ويروي مخرج الراء عن واصل بن عطاء من طريق حسن نصر الله، وكفر بمدرستي الكوفة والبصرة وآمن بالسربون وأوكسفورد، فأصبح لا يفرق بين الكاف التشبيهية والكاف الأعجمية، شُغب بأدب الغرب وإن كان مأفوناً، وكره شعر العرب ولو كان موزونا، أحب شيء إليه ما كتب موليير وفولتير وغوته، ولا تحدثه عن البحتري ولا أبي تمام ولا المتنبي، فضلا عن حافظ أو شوقي أو البارودي، قد فسد عنده الذوق، فلا يستسيغ كلام البلغاء وكُتاب العربية الفحول، فلا الجاحظ عنده حظيظ، ولا عبد الحميد حميد، ولا الرافعي مرضي لأنه كان عن الأدب الفاضح الوضيع رفيعاً، ومن نشأ بين الخنافس مات حين تهب عليه نسمة من الطيب.
ثم هل تعلم أن متوسط ما يقرأه الفرد في بلاد العرب هو ست دقائق في السنة؟
فهل أشغل إخواني القراء العرب عن قراءة محتويات المأكولات والرسائل القصيرة والإلكترونية؟!!
الحسن بكري
- التصنيف: