الجراحة التجميلية في الشريعة الإسلامية
الشريعة الإسلامية قامت أحكامها على جلب المصالح، ودرء المفاسد، بل إن الشريعة مصالح كلها(6). والمصالح متعلقة بالضرورات التي ترجع إلى حفظ مقصود من المقاصد الخمسة، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والإسلام جاء بأحكام تحفظ كيانها وتكفل بقاءها وتدفع عنها ما يفسدها أو يضعنها(7)، وعلى هذا الأساس إذا كانت عملية التجميل مرتبطة بأمر ضروري، فلا تدخل ضمن نطاق المسألة، وذلك لأن التجميل تحسين، والتجميل الضروري ليس كذلك.
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وصوره في أحسن صورة وميزه عن الخلق الجمعين. والإنسان بطبعه يحب كل شئ جميل، ولهذا يحرص على أن يظهر بمظهر لائق وشكل جميل متناسق، وقد قال: (إن الله جميل يحب الجمال) مسلم 91. ولكن قد تقود الإنسان تلك الرغبة الجامحة الملحة إلى إجراء بعض الجراحات في أجزاء جسمه للتجميل دون اعتبار للضوابط الشرعية، والأحكام الفقهية، والشرع قد فصَّل وأبان الأحكام المتعلقة بالجراحة التجميلية بدقة متناهية.
إن دين الاسلام دين كامل شامل شرع الله فيه أحسن الشرائع وأيسرها وما جعل عليكم في الدين من حرج(78) الحج: 78.
وقد ظهر فيما يخص النساء في هذا العصر أمور تتعلق بالجراحة التجميلية، وهذه تتطلب بيان حكمها، ومعرفة أقوال العلماء فيها، لذا كتبت هذا البحث خدمة لهذا الموضوع، أسأل الله التوفيق والسداد.
أولاً: تعريف الجراحة التجميلية وبيان حدودها:
الجراحة لغة واصطلاحاً:
الجراحة لغة: بفتح الجيم: مصدر جرح، وبضم الجيم: الشقُّ في البدن تحدثه آلة حادة(1).
الجراحة اصطلاحاً: جَرْح العضو: قطع اتصال اللحم فيه من غير تقيح، فإذا تقيح فهو القرحة(3).
التجميل لغة واصطلاحاً:
التجميل لغة: مصدر من الفعل جمل، الجيم، والميم، واللام أصلان: أحدهما: تجمع وعَظِمْ الخلق، والآخر حسن: وهو ضد القبح(3).
التجميل اصطلاحاً: عمل كل ما شأنه تحسين الشيء في مظهره الخارجي بالزيادة عليه أو الإنقاص منه(4).
الجراحة التجميلية في اصطلاح الأطباء:
عرف الأطباء المختصون جراحة التجميل بأنها: "جراحة تُجري لتحسين منظر جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، أو وظيفته إذا ما طرأ عليه نقص، أو تلف، أو تشوه"(5).
حدود المسألة:
يتضح من خلال تعريف الجراحة التجميلية حدود ومعالم المسألة بأنها تتعلق بتحسين المظهر الخارجي عن طريق شق البدن، فيخرج من المسألة ما يلي:
1- جراحات التجميل الضرورية:
الشريعة الإسلامية قامت أحكامها على جلب المصالح، ودرء المفاسد، بل إن الشريعة مصالح كلها(6). والمصالح متعلقة بالضرورات التي ترجع إلى حفظ مقصود من المقاصد الخمسة، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والإسلام جاء بأحكام تحفظ كيانها وتكفل بقاءها وتدفع عنها ما يفسدها أو يضعنها(7)، وعلى هذا الأساس إذا كانت عملية التجميل مرتبطة بأمر ضروري، فلا تدخل ضمن نطاق المسألة، وذلك لأن التجميل تحسين، والتجميل الضروري ليس كذلك.
ومثال ذلك(8): زراعة الأعضاء، فلاشك أن الزراعة فيها معنى جمالي متحقق ولكن ليس مقصوداً بذاته، وإنما رفع الضرر هو المقصد الأصلي والتجميل تبعاً له.
2- جراحات التجميل التي لا تتعلق بالمظهر الخارجي، كعملية رتق(9) غشاء البكارة.
3- التجميل الذي لا يتضمن جراحة:
ولا يدخل أيضاً في المسألة التجميل الذي لا يصاحبه جراحة، مثل: نتف شعر الوجه، ومعالجة البشرة بالأعشاب، ووصل الشعر.
ثانياً: أحكام جراحة التجميل:
أ- جراحة تجميلية منصوص عليها، وهي قسمان:
القسم الأول: جراحة تجميلية مشروعة:
1- الختان: وهو قطع الغلفة التي تغطي الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي أعلى الفرج "فرج المرأة" ويسمى ختان الرجل أعذار، وختان المرأة خفض(10).
فليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه(11)، فالختان من تمام الحنيفية ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فهو طهارة للجسم وزينة، وهو من محاسن الشرائع التي شرعها الله لعباده(12)، فضلاً عن فوائد الختان الطبية التي أوضحها الأطباء(13).
ودليل مشروعيته: قوله : "عشر من الفطرة، المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحية، وقلم الأظفار، وغسل البراجم(14)، وحلق العانة، ونتف الإبط، والختان"(15).
2- ثقب الأذن: وثقب الأذن للمرأة من أجل الزينة جائز.
دليل مشروعيته: ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: "أمرهن النبي بالصدقة فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن"(16).
وجه الاستدلال: أن النساء كن يفعلن ذلك، فلو كان مما ينهى عنه، لنهى عنه القرآن، أو النبي ، وعدم النهي يدل على الجواز(17).
القسم الثاني: الجراحة التجميلية غير المشروعة: ومن ذلك ما نهى الله - سبحانه وتعالى - عنه لتغيير خلقه.
ومثاله: الوشم. قال ابن العربي في بيان معناه: "فالواشمة هي التي تجرح البدن نقطاً أو خطوطاً فإذا جرى الدم حشته كحلاً(18).
دليل تحريمه ما يلي:
القرآن الكريم: قال - تعالى -: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) 119 النساء: 119.
فالمراد بقوله - تعالى -: "فليغيرن خلق الله" الوشم، كما قاله ابن مسعود، والحسن البصري(19).
السنة الكريمة: ما جاء عن ابن عمر عن رسول الله : "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله"(20).
وجه الاستدلال: أن رسول الله نهى عن الوشم فدل ذلك على تحريمه.
ب- جراحة تجميلية غير منصوص عليها، وهي قسمان:
القسم الأول: جراحة تجميلية حاجية:
ويقصد بهذا النوع: ما تدعو إليه الحاجة، إذا كان لعلاج التشوه(21)، وهو نوعان:
النوع الأول: العيوب الخَلْقِية التي ولد عليها الإنسان:
ويقصد به: تجميل العضو الذي ولد عليه الإنسان لوجود عيب فيه بأن ولد على غير خلقته المعهودة كالأصبع الزائدة، والشق في الشفة العليا، والتصاق أصابع اليدين والرجلين(22).
وقد اختلف العلماء في عمليات التجميل لهذا النوع من العيوب بناءً على أقوالهم في قطع الاصبع الزائدة إلى ما يلي:
القول الأول: ذهب أصحاب هذا القول إلى جواز قطع الاصبع الزائدة إذا لم يلحق الإنسان ضرر، وبهذا قال الحنفية.
قال قاضيخان: "وفي الفتاوى إذا أراد أن يقطع أصبعاً زائدة أو شيئاً آخر قال أبو النصر - رحمه الله -: إن كان الغالب على من قطع مثل ذلك الهلاك فإنه لا يفعل، لأنه تعريض النفس للهلاك، وإن كان الغالب هو النجاة، فهو في سعة من ذلك"(23).
وبالجواز أيضاً صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والافتاء(24) وبه قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ(25)، والشيخ عبد الله بن جبرين(26).
القول الثاني: ذهب أصحاب هذا القول إلى عدم جواز قطع الاصبع الزائدة، وبه قال القاضي عياض من المالكية، والإمام أحمد، وابن جرير الطبري، واستثنوا من ذلك فيما إذا كانت الزوائد مؤلمة.
قال القاضي عياض: "...إن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائدة أنه لا يجوز له قطعه ولا نزعه عنه، لأنه من تغيير خلق الله، إلا أن يكون هذا الزائد مما يؤذيه من أصبع أو ضرس يؤلمه"(27).
وقال المرداوي: "ولا تقطع الإصبع الزائدة، نقله عبد الله عن أحمد"(28) ونقل القرطبي عن ابن جرير نحو ذلك: "في حديث ابن مسعود(29) دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان، التماس الحسن لزوج أو غيره... "(30).
منشأ الخلاف:
يرجع سبب اختلافهم إلى أن هذه الزوائد هل هي من الخِلْقة الأصلية التي لا يجوز تغييرها، أم أنها نقص في الخلقة المعهودة(31).
أدلة القول الأول:
الدليل الذي ألتُمِسَ للقائلين بالجواز هو: أن الاعتداء على الزوائد لا يوجب دية المعتدي، لأنه لم يذهب منفعة ولا جمالاً، وإنما وجبت حكومة(32) عدل(33).
قال السرخسي: "ولو قطع في كف رجل أصبعاً زائدة ففيها حكم عدل، لأن الأصبع الزائدة نقصان معنى، فتفويتها لا يمكن نقصاناً في البطش وإنما يلحق به ألماً ونشيناً في الظاهر باعتبار الأثر فيجب حكم عدل باعتباره ولا قصاص"(35).
وقال الماوردي: "إذا كانت الإصبع الزائدة في كف المقطوع دون القاطع اقتصصنا من كف القاطع وأخذنا منه حكومة الأصبع الزائدة"(36).
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم قطع الإصبع الزائدة بما يلي:
من القرآن الكريم: قال - تعالى -: ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله119 النساء: 119.
وجه الاستدلال: أن الله - سبحانه وتعالى - حرم تغيير الخلقة والهيئة(36).
ومن السنة المطهرة: ما جاء عن النبي : "لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة"(37).
وجه الاستدلال: لا يحق للإنسان تغيير شيء من خلق الله بزيادة أو نقص(38).
المناقشة والترجيح:
إن في استدلال أصحاب القول الأول بجواز قطع الإصبع الزائدة وذلك بالنظر إلى أقوال العلماء في أن الاعتداء على الزوائد لا يوجب الدية، بل فيها حكومة عدل، فهذا استدلال بعيد، وذلك لأن هذه المسألة متعلقة بالمماثلة في القصاص، وقد أوردها العلماء ضمن باب الديات في كتب الفقه.
أما أصحاب القول الثاني فإنهم قالوا بعدم الجواز استناداً إلى الأدلة التي أوردوها، إلا أنهم استثنوا من ذلك أن يلحق الألم والأذى الشخص المتضرر، والألم قد يكون حسياً أو معنوياً، والذي يظهر لي والله أعلم جواز إزالة الإصبع الزائدة، وما في معناها من عيوب خلقية ولد عليها الإنسان مثل الإصبع الزائدة والشفة العليا المشقوقة، والتصاق أصابع اليدين والرجلين، وهو ما ذهب إليه الشيخ محمد الشنقيطي(39)، وذلك لأن هذه العيوب تشمل على ضرر حسي ومعنوي، وهو موجب للترخيص بفعل الجراحة لأنه يعتبر حاجة، فتنزل منزلة الضرورة ويرخص بفعلها إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة"(40).
وعلى هذا الأساس يجوز تحسين وتجميل ما كان مغايراً للخلق المعهودة ولكن بشرط:
1- أن تكون زائدة (مغايرة) عن الخلقة المعهودة.
2- أن تؤدي إلى ضرر مادي أو نفسي لصاحبها.
3- أن يأذن صاحبها أو وليه في القطع.
4- أن لا يترتب على قطعها ضرر أكبر كتلف عضو وضعفه(41).
النوع الثاني: عيوب مكتسبة أو طارئة:
وهي العيوب الناشئة بسبب خارج الجسم كما في العيوب والتشوهات الناشئة من الحوادث والحروق، ومثال ذلك: كسور الوجه التي تقع بسبب الحوادث، تشوه الجلد بسبب الحروق، تشوه الجلد بسبب الآلات القاطعة(42).
الحكم الفقهي لهذه المسألة:
ترجح في النوع الأول جواز إزالة العيب الذي ولد الإنسان به، فإذا كان هذا النوع جائزاً فمن باب أولى جواز العيوب الخلقية الطارئة والمكتسبة لما يلي:
1- ما جاء عن عرفجة بن أسعد، قال: أصيب أنفي يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذت أنفاً من ورق فأنتن علي؛ فأمرني رسول الله أن أتخذ أنفاً من ذهب(43).
2- أن إزالة تشوهات الحروق والحوادث يعتبر مندرجاً تحت الأصل الموجب لجواز معالجتها، فالشخص مثلاً إذا احترق أذن له في العلاج والتداوي(44)، وذلك بإزالة الضرر وأثره، لأنه لم يرد نص يستثني الأثر من الحكم الموجب لجواز مداواة تلك الحروق فيستصحب التداوي إلى الآثار، ويؤذن له بإزالتها.
3- أن هذا النوع لا يشتمل على تغيير الخلقة قصداً، لأن الأصل فيه أنه يقصد منه إزالة الضرر والتجميل والحسن جاء تبعاً(45).
القسم الثاني: جراحة التجميل التحسينية:
وهي جراحة تحسين(46) المظهر، وتجديد الشباب، والمراد بتحسين المظهر تحقيق الشكل الأفضل، والصورة الأجمل، دون دوافع ضرورية أو حاجية تستلزم فعل الجراحة(47).
وجراحة التجميل التحسينية نوعان:
النوع الأول: عمليات الشكل: وهي تجميل الأنف وتصغيره، وتغيير شكله، وتجميل الذقن والثديين، والأذن، والبطن بتغيير شكلها أو وضعها(48).
واختلف العلماء في هذه المسألة إلى ما يلي:
القول الأول: جواز هذه العملية، إذا كانت محققة لمصلحة. وبهذا قال ابن باز - رحمه الله -، وابن قعود، وبن غديان، وعبد الرزاق عفيفي(49).
القول الثاني: هذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضرورية أو حاجية، بل هو تغيير لخلق الله - تعالى -، وبهذا قال ابن عثيمين(50) - رحمه الله تعالى -ومحمد عثمان شبير(51)، ومحمد المختار الشنقيطي(52).
القول الثالث: ذهب بعض العلماء المعاصرين (53) إلى جواز هذا النوع مطلقاً.
أدلة القول الأول:
استند أصحاب القول الأول فيما ذهبوا إليه إلى دليل تحقيق المصلحة ما لم يترتب على ذلك ضرر(54).
وأمثلة ذلك: مراعاة الحالة النفسية للمريض الذي يسبب له شكله الخارجي انطواء وانعزالاً عن المجتمع فيرخص له إجراء هذه العملية(55).
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم الجواز بما يلي:
من القرآن الكريم: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله 119 النساء: 119.
وجه الاستدلال: أن هذه الآية الكريمة واردة في سياق الذم، وبيان المحرمات التي يسول الشيطان فعلها للعصاة من بني آدم، ومنها تغيير خلق الله(56).
وقد حمل بعض السلف هذه الآية على الوشم، وكل ما فيه تغيير للخلق. قال أبو حيان قال ابن مسعود والحسن: هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين(57).
السنة النبوية: ما روي عن الرسول : "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله"(58).
قال النووي: "وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لفلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس"(59).
القياس: لا تجوز جراحة التجميل التحسينية كما لا يجوز الوشم، والوشر، والنمص بجامع تغيير الخلقة في كلٍّ، طلباً للحسن والجمال(60).
أدلة عقلية: إن هذه الجراحة لا يتم فعلها إلا بارتكاب بعض المحظورات ومنها:
1- التخدير، إذ لا يمكن فعل شيء من عمليات التجميل الجراحة التحسينية إلا بعد تخدير المريض تخديراً عاماً وموضعياً، ومعلوم أن التخدير في الأصل محرم، وهذه العمليات لا ضرورة لقيامها، ولذا تعتبر هذه محرمة لاشتمالها على محرم ولا ضرر للجوء إليه.
2- فيها كشف للعورات بدون حاجة.
3- التجربة والواقع التي شهدتها هذه العمليات بأنها لا تخلو من الأضرار والمضاعفات(61).
أدلة القول الثالث: استدل القائلون بالجواز بما يلي:
السنة الكريمة: قال : "إن الله جميل يحب الجمال"(62).
وجه الاستدلال: إن عمليات تحسين الوجه أو الأنف داخلة في الجمال الذي يحبه الله - سبحانه وتعالى -.
القياس: قياساً على ما جاء به الشرع في سنية خصال الفطرة، كقص الشارب، وتقليم الأظافر، وغيره وعمليات التحسين بمثابتها وهي داخلة في المباح(63).
المناقشة:
بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم، يظهر لي ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وذلك لأن من قال بالجواز بإطلاق استدلالاً بحديث رسول الله : "إن الله جميل يحب الجمال" يتعلق بالزينة المباحة في الثوب الحسن، والنعل الحسن، لقوله : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: "إن الله جميل يحب الجمال"(64).
أما دليل القياس فهو قياس مع الفارق، وذلك لأن خصال الفطرة مباحة، أما التحسين عن طريق الجراحة التجميلية لا يجوز وذلك للأدلة التي ساقها أصحاب القول الثاني.
لذا فإن ما ذهب إليه أصحاب القول بجواز إجرائها إذا كان ذلك يحقق مصلحة للمريض، أي أن يكون ذلك للضرورة، ويقرر هذه الضرورة الفقيه المجتهد، وممن يوثق به من الأطباء، ومن له الخبرة بهذه الأمور، مع مراعاة الشروط المعتبرة عند إجراء هذه العملية(65) هو الصواب.
ويؤيد هذا الرأي أن الرسول كان يراعي ظروف وأحوال أصحابه عندما يستفتونه أو يسألونه عن بعض الأمور، ومثاله: أنه أفتى لأبي بردة بن نيار عندما ذبح قبل صلاة العيد أن يذبح بدلاً منها جذعة من المعز، وكان ذلك خاصاً بأبي بردة(66).
النوع الثاني: عمليات التشبيب:
وهي ما تجرى لكبار السن، ويقصد منه إزالة آثار الكبر والشيخوخة، مثل تجميل الوجه بشد تجاعيده، وتجميل الأرداف بإزالة المواد الشحمية، وتجميل اليدين ليبدو صاحبها أصغر سناً(67).
الحكم الفقهي لهذا النوع:
إذا كان النوع الأول في عمليات التجميل التحسينية لا يجوز، فمن باب أولى إن عمليات التشبيب لا تجوز، للأدلة التي ساقها أصحاب القول الثاني في النوع الأول.
ويضاف إلى تلك الأدلة ما يلي: أن هذه الجراحة تتضمن في صورها الغش والتدليس وهو محرم شرعاً(68)، دليله قوله : "من غشنا فليس منا"(69).
والله - تعالى -أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) معجم لغة الفقهاء ص: 162.
(2) معجم لغة الفقهاء ص: 162.
(3) انظر معجم مقاييس اللغة (1-481).
(4) معجم لغة الفقهاء ص: 122.
(5) أحكام الجراحة الطبية: ص: 182.
(6) انظر الموافقات (2-17-18)، ومقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام ص: 71.
(7) انظر المدخل إلى السياسة الشرعية ص: 73، ومقاصد الشريعة الإسلامية اليوني ص: 182.
(8) انظر هذا المثال في أحكام تجميل النساء ص: 365، وللشيخ عبد العزيز بن باز فتوى تتعلق بعمليات التجميل الضرورية مفادها: جواز تجميل الأنف الأعوج الكبير الذي من شأنه إعاقة التنفس، وشد الجفون المهتدلة التي من شأنها إعاقة الرؤية، وشد وتصغير الصدر الكبير للمرأة الذي من شأنه أن يشكل خطراً على العمود الفقري، انظر الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرض ص: 253.
(9) الرتق اصطلاحاً: انسداد فرج المرأة بعضلة ونحوها بشكل لا يمكن معه الجماع معجم مقاييس اللغة: ص: 219.
(10) انظر: طرح التثريب في شرح (2-75)، وقال الشوكاني في تعريفه اصطلاحاً: "قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص" نيل الأوطار (1-133).
(11) انظر التحرير والتنوير (3-205).
(12) انظر تحفة المودود ص: 45، واختلف أهل العلم رحمهم ا لله في حكم الختان على ثلاثة أقوال: عند الحنفية: سنة للرجال مستحب للنساء، انظر شرح فتح القدير (7-394) وبه قال بعض المالكية، انظر التمهيد 21-62، وعند الشافعية: واجب على الرجال والنساء، انظر المجموع (1-300)، وعند الحنابلة: واجب على الرجال، مستحب للنساء، انظر المفتي (1-10).
(13) انظر أسرار الختان ص: 30.
(14) البراجم: "هي العقد التي تكون في ظهور الأصابع يجتمع من الوسخ" لسان العرب (1-361).
(15) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة.
(16) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب القرط للنساء.
(17) انظر تحفة المودود ص: 165، وفتح الباري (10-344).
(18) أحكام القرآن (1-501).
(19) انظر جامع البيان (5-181)، زاد المسير (2-205).
(20) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن، ومسلم في صحيحه كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله.
(21) انظر أحكام تجميل النساء ص: 369.
(22) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 183.
(23) فتاوى قاضيخان (3-410-411)، وعمدة القاري (19-225).
(24) انظر الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرضى (1-257)
(25) انظر الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرض (1-256).
(26) الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية ص: 152.
(27) إكمال المعلم بفوائد مسلم (6-656).
(28) الإنصاف (1-269)، وانظر كشاف القناع (1-81).
(29) أي حديث ابن مسعود الذي أخرجه مسلم، وسبق تخريجه وهو قوله : "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله".
(30) أحكام القرآن (5-252)، وبحثت عن قول الطبري المنسوب إليه، في كتبه المعتمدة ولم أجده منها: جامع البيان، تهذيب الآثار للطبري اختلاف الفقهاء، موسوعة الطبري. وذكره ابن حجر في الفتح (10-390).
(31) انظر أحكام جراحة التجميل ص: 55.
(32) الحكومة: بضم الحاء مصدر حكم، ومنه قولهم: لو ضربه على أذنه فأفقده بعض سمعه فالواجب فيه حكومة، انظر معجم لغة الفقهاء ص: 184، أي أن "حكومة العدل" متعلقة بالجراحات التي ليس فيها دية معلومة بل ترجع لتقدير الإمام.
(33) وهذا الدليل أورده الدكتور: محمد شبير للاستدلال به على جواز قطع الأصبع الزائدة بالنظر إلى أقوال الفقهاء في باب الديات، أحكام جراحة التجميل ص: 57.
(34) المبسوط (26-166-167)، وانظر بدائع الصنائع (1-303)، الهداية (10-317).
(35) الحادي (12-179)، وانظر روضة الطالبين (7-143-144).
(36) انظر جامع البيان (5-181)، أحكام القرآن لابن العربي (1-501)، الجامع لأحكام القرآن (5-252).
(37) أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة.
(38) انظر إكمال المعلم بشرح مسلم (6-655)، الجامع لأحكام القرآن (5-252).
(39) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 185.
(40) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 91، الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 88.
(41) انظر أحكام جراحة التجميل ص: 57-58، أحكام تجميل النساء ص: 372.
(42) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 185، أحكام تجميل النساء (370، 371).
(43) أخرجه أحمد في المسند (33-367)،
أما ما استدل به بعض الباحثين في جواز الجراحة التجميلية إذا كانت لحاجة، استناداً لما روي عن النبي في أنه رد عين قتادة بن النعمان، فيناقش: بأن ذلك استدلال غير صحيح وذلك لضعف هذه الأخبار والروايات عن الرسول لدلائل (3-251)، ومجمع الزوائد (6-113).
(44) التداوي: استعمال ما يكون بن شفاء المرض بإذن الله - تعالى -من عقار أو رقية أو علاج طبيعي كالتمسيد ونحوه، معجم لغة الفقهاء ص: 126، والتداوي من حيث الجملة مشروع، انظر الفتاوى الهندية (5-354)، ا
(45) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 187.
(46) التحسين: الزيادة المتولدة من الأصل، أو الانتقاص من الأصل، زيادة أو انتقاماً يضيفان على الأصل جمالاً، انظر معجم لغة الفقهاء ص: 123.
(47) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 191، أحكام تجميل النساء ص: 369.
(48) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 192.
(49) انظر الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرض (1-258-259)، وانظر الأحكام والفتاوى الشرعية ص: 143.
(50) انظر فتاوى زينة المرأة والتجميل ص: 48.
(51) انظر أحكام جراحة التجميل ص: 66.
(52) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 190.
(53) انظر الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية ص: 4.
(54) انظر الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرضى (1-258-259).
(55) انظر الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرضى (1-258-259).
(56) أحكام الجراحة الطبية ص: 192.
(57) البحر المحيط (3-369)،
(58) سبق تخريجه.
(59) صحيح مسلم بشرح النووي (14-152).
(60) أحكام الجراحة الطبية ص: 195.
(61) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 195، وانظر بعض القصص من الواقع فيما يلحق بالإنسان من أذى إذا أجرى هذه العمليات ص: 64-65.
(62) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه.
(63) الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية ص4.
(64) أخرجه مسلم، كتاب الإتيان، باب تحريم الكبر وبيانه.
(65) انظر لهذه الشروط ص: من هذا البحث.
(66) وهذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأضاحي، باب قول النبي لأبي بردة، ضح بالجذع من المعز، ومسلم في كتاب الأضاحي، باب وقتها، ولفظ عندهما: عن البراء بن عازب قال: "وضحى خال لي يقال له: أبو برده قبل الصلاة، فقال له رسول الله : شأنك شاة لحم، فقال: يا رسول الله، إن عندي داخباً جذعة من المعز؟ قال أذبحها ولا تصلح لغيرها، "وفي رواية ولن تجزئ عن أحد بعدك" ثم قال: من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين.
(67) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 192.
(68) انظر أحكام الجراحة الطبية ص: 195، أحكام جراحة التجميل ص: 68.
(69) أخرجه مسلم في صحيحة، كتاب الإيمان، باب قوله النبي (: "من غشنا فليس منا"، وأبو داود في سننه، كتاب الإجازة، باب النهي عن الغش وابن ماجه في سننه، وكتاب التجارات، باب النهي عن الغش، والترمذي في الجامع، كتاب البيوع، باب ما جاء عن كراهية الغش في البيوع.
منى عبد الرحمن الحمودي
- التصنيف:
- المصدر: