فتنة الحوثي مع دماج بين الماضي والحاضر

منذ 2015-01-22

في نهاية القرن الهجري المنصرم (1397 - 1398هـ) عاد شيخنا مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله - بعد أن تلقَّى تعليمه في دار الحديث بمكة المكرمة، وتخرَّج من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وحصل منها على شهادة الماجستير في الحديث.

مقدمة:

في نهاية القرن الهجري المنصرم (1397 - 1398هـ) عاد شيخنا مقبل بن هادي الوادعي - رحمه الله - بعد أن تلقَّى تعليمه في دار الحديث بمكة المكرمة، وتخرَّج من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وحصل منها على شهادة الماجستير في الحديث[1].

واستقر به المقام في بلدته «دمَّاج» من بلاد وادعة «همدان»، وقبل ذلك بعدة سنوات كان الشيخ عبد المجيد الزنداني -بعد خلاف سياسي بينه وبين الرئيس اليمني الأسبق «القاضي عبد الرحمن الإرياني» - قد أقام في منطقة وائلة (شرق دمَّاج) يعلِّم فيها ويدعو إلى السُّنة ويحاضر القبائل مع مجموعة من طلابه ومحبيه، وأسس فيها معهداً وكان لهذا النشاط تأثير كبير في نشر السنة في المنطقة، وفي هذه الفترة أو بعدها بقليل قدم الشيخ زاهر بن قاسم العمري من منطقة «كنى» (شمال صعدة) عائداً من السودان، وهو أحد دعاة أنصار السنة، وأسس في بلدته معهداً علمياً تابعاً للمعاهد العلمية، وقد كتب الله لهذا المعهد قبولاً بين الناس، إضافة إلى معاهدَ علميةٍ أخرى منها معهد في «مدينة صعدة»، ومعهد في «غراز»، ومعهد في دمَّاج كان يديره الشيخ مقبل - رحمه الله - قبل أن يختلف مع الإخوان المسلمين، وكانت كثير من قبائل صعدة قد نفرت نفوراً شديداً من دعاة التشيع، نظراً لممارستهم العنصرية الاستعلائية خلال حكم الأئمة الزيدية لليمن، وبسبب انتشار الخرافات والشعوذة على أيديهم مع ما صاحب ذلك من حرمان القبائل من التعليم، واعتبار هذا الحق من خصوصيات بعض الأسر الهاشمية! وأما القبائل فلا حظ لهم في التعليم إلا من ندَّ عن هذه القاعدة ولم يستسلم لها، ومنهم الشيخ مقبل الوادعي، والشيخ زاهر، وقلة قليلة.

وحينما ترك الشيخ مقبل إدارة المعهد التابع للمعاهد العلمية تفرَّغ في منزله للراغبين في طلب العلم (وأغلبهم ممن سمع بالشيخ مقبل من خارج محافظة صعدة واليمن)، فبدأ الطلاب يتوافدون ولا سيما الحريصون على علم الحديث النبوي القادرون على التضحية والصبر على شظف العيش والقناعة، وكان للشيخ الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله - تواصل جيد مع الشيخ مقبل، إذ كان يرعى هذه المجموعة رعايةً خاصة وشخصية لعدة سنوات حرصاً منه على نشر السُّنة في هذه المنطقة، ومواساة للشيخ مقبل الذي لم يكن لديه أي تواصل مع أي جهة أخرى.

وقد رحبت جملة من القبائل بدعوة الشيخ مقبل، وفتحت قلوبها لدعوته ولطلابه الذين كانوا يخرجون للمحاضرات والخطب، سواء في «رازح» أو «خولان عامر» أو «كنى» أو «المهاذر» أو «بني عوير» أو غير ذلك من مناطق سحار وهمدان ووائلة.

ولم يبقَ على التعصب المذهبي سوى مناطق محدودة مثل: «ضحيان» و «رحبان» و «الطلح» وبعض مناطق «ساقين» في خولان عامر.

ولا شك أن مثل هذا التحول والانتشار للسنة في منطقة صعدة التي تُعَدُّ قلعة الزيدية الهادوية ومنطلقها في اليمن قد أثار حفيظة بعض المتعصبين فيهم ممن تأثَّر بزخم الثورة الإيرانية الخمينية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، غير أن التعايش السلمي ظل هو السائد بين الجميع كما هو الحال في بقية مناطق اليمن.

وفي هذه المرحلة خلال عام (1986م) - تقريباً - قرر مجموعة من علماء الزيدية، ومنهم مجد الدين المؤيدي (أحد أكابر علماء الزيدية)، وصلاح فليتة، وبدر الدين الحوثي وآخرون أن يقوموا بتدريس مناهج الزيدية حفاظاً على المذهب من الانقراض مع إضافة تدريس مبادئ الثورة الإيرانية، واستمر هؤلاء في نشاطهم تحت مسمى «اتحاد الشباب» حتى عام (1990م) عندما قامت الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه، وفتح المجال بعدها للتعددية الحزبية، والقيام على النظام الديمقراطي، وهو ما أعلن الشيخ مقبل عن رفضه له، وتحذيره من مغبته وويلاته على المجتمع اليمني.

وأما هؤلاء فقد رحَّبوا بهذا النظام، وتضامنوا مع الحزب الاشتراكي اليمني، وتحولوا من المجال التعليمي إلى الانخراط في حزب سياسي وهو «حزب الحق» الذي كان يترأسه «أحمد محمد الشامي»، ومن خلال هذا الحزب وفي عام (1993م) وصل إلى البرلمان «حسين بدر الدين الحوثي» ممثلاً لمنطقته «حيدان»، وأصبح أحد الشخصيات البارزة في الحزب، وفي هذه الأثناء حصلت خلافات وتصدعات بين علماء الزيدية حول فتوى أصدرها مجموعة من علماء الزيدية منهم «مجد الدين المؤيدي»، حاصلها: أن اشتراط النسب الهاشمي للإمامة لم يعد مقبولاً اليوم، وأن هذا كان لظروف تاريخية، وهو ما رفضه بدر الدين الحوثي بشدة نظراً لتطرفه وميله إلى آراء الجارودية [2] التي تتوافق في بعض آرائها مع الإمامية الإثني عشرية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: " الزيدية خير من الإمامية وأشبههم بالإمامية هم الجارودية أتباع أبي الجارود الذين يزعمون أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نص على عليٍّ بالوصف لا بالتسمية فكان هو الإمام من بعده وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-" [3].

وبعد هذه الخلافات بين بدر الدين الحوثي ومن معه من جهة، وبين علماء الزيدية من جهة أخرى، يظهر أن السفارة الإيرانية كانت ترقب هذه التوترات بين الفريقين، وذلك ما جعلها تمدُّ حبال شَرَكِها لبدر الدين الحوثي وبخاصة بعد أن ألَّف كتاباً بعنوان: «الزيدية في اليمن» يشرح فيه أوجه التقارب بين الزيدية والإمامية، ويقلل من الخلافات بينهما متجاهلاً نظرة الإثني عشرية إلى الزيدية وتضليلها وتفسيقها بل وتكفيرها والعكس[4].

يقول بدر الدين الحوثي: " أنا عن نفسي أؤمن بتكفيرهم (أي الصحابة) كونهم خالفوا رسول الله -صلى الله عليه وآله-"[5].

وأما ولده حسين فلم يكن أقل تطرفاً وغلواً من والده إذ يقول: " كل سيئة في هذه الأمة...كل ظلم وقع لهذه الأمة... وكل معاناة وقعت الأمة فيها... المسؤل عنها أبو بكر وعمر وعثمان، وعمر بالذات هو المهندس لهذه العملية كلها".

ويقول عن بيعة الصحابة لأبي بكر: " شر تلك البيعة ما زال إلى الآن".

ويقول: " إن مشكلة أبي بكر وعمر مشكلة خطيرة، هم وراء ما وصلت إليه الأمة، وهم وراء العمى عن الحل".

ويقول: " السلف الصالح هم من لعب بالأمة، هم من أسس ظلم الأمة، وفرَّق الأمة؛ لأن أبرز شخصية تلوح في ذهن من يقول السلف الصالح يعني أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعائشة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وهذه النوعية هم السلف الصالح هذه أيضاً فاشلة".

وقال: " معاوية سيئة من سيئات عمر، في اعتقادي ليس معاوية بكلِّه إلا سيئة من سيئات عمر بن الخطاب وأبو بكر هو واحدة من سيئاته، عثمان واحدة من سيئاته"[6].

وله كثير من المنشورات التي يتهكم فيها ساخراً من الزيدية، وتعلُّقهم بعلم أصول الفقه، مع ما كان يقوم به من التحريض ضد دعوة أهل السُّنة وتعبئة أنصاره ضد الوهابية ولا سيما بعد عودة والده من طهران التي بقي فيها عدة سنوات زاد فيها تأثُّره بفكر الإمامية ومبادئ الثورة الإيرانية.

وقد أصدر علماء الزيدية بياناً في الرد على آراء الحوثي، ومما جاء فيه: " وبناء على ما تقدم رأى علماء الزيدية التالية أسماؤهم[7] التحذير من ضلالات المذكور (الحوثي) وأتباعه وعدم الاغترار بأقواله وأفعاله التي لا تمتُّ إلى أهل البيت وإلى المذهب الزيدي بصلة، وأنه لا يجوز الإصغاء إلى تلك البدع والضلالات، ولا التأييد لها، ولا الرضا بها (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]، وهذا براءة للذمة وتخلُّص أمام الله من واجب التبليغ" [8].

ومنذ عام (2002م) برز تيار شيعي غالٍ يميل كثيراً إلى الجعفرية الإثني عشرية، ويتبنى طقوس الرافضة مثل إحياء الحسينيات، وعيد الغدير، وعاشوراء، وفرض الخُمس، وسب الصحابة الكرام، وترديد شعارات الرافضة في إيران ولبنان «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل... الخ»، ونشر كتب الرافضة الإثني عشرية، وإرسال وابتعاث الطلاب للدراسة في إيران، ولقي هذه التوجه دعماً سخياً من الحوزات الشيعية في الخليج وإيران وكذلك الحكومة اليمنية بعد تأسيس ما سمي بـ «الشباب المؤمن» نكاية في التجمع اليمن للإصلاح المعارض للسلطة وتحقيقاً لسياسة التوازن المذهبي إلى أن توسعت أطماع الحوثيين فقرروا الدخول في مواجهات مسلحة ومعارك مع الدولة عام 2004م؛ لإقامة كيان طائفي في شمال اليمن على غرار حزب الله في لبنان، وقد استمرت الحروب بين الحوثي والدولة حتى بلغت ستة حروب كانت تنتهي بالصلح بينهما، ويرى كثير من المراقبين السياسيين أنها كانت حروباً مدعومة من نظام صالح لتصفية حساباته مع خصومه العسكريين (علي محسن الأحمر ومن معه) الذين يقفون ضد نظام التوريث من جهة ولاستدرار المعونات الخليجية بالتخويف من شبح الوجود الإيراني في المنطقة من جهة أخرى.

دوافع الحصار على دمَّاج وسبب التوقيت؟

بعد قيام الثورة الشبابية في اليمن 11/2/2011م ضد النظام والدعوة إلى إسقاطه سارع الحوثيون بالانضمام إلى ساحات التغيير بصنعاء وغيرها؛ طمعاً في توجيه ثورة الشباب وَفْقَ رؤيتهم المذهبية وحرصاً منهم على توسيع نفوذهم في اليمن بعد أن سلمهم النظام إدارة محافظة صعدة، وانشغل بمجابهة الاعتصامات والمظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، وقد تمكَّن الحوثيون بالفعل من السيطرة على أغلب مديريات صعدة، وأقاموا فيها محاكمهم ومعسكراتهم وسجونهم ونقاطهم العسكرية، وقاموا بجمع الزكوات والجبايات من الناس، ورأوا أن الفرصة سانحة لهم للتوسع في المناطق المجاورة «كالجوف» و «حجة» وبعض مناطق «عمران» فعمدوا إلى التخلص من مخالفيهم بقوة السلاح، وجعل المنطقة مغلقة على مذهبهم فحسب، رافضين مبدأ التعايش السلمي مع أي مذهب أو جماعة تخالف مذهبهم غير أنهم وجدوا مجابهة عنيفة لم يكونوا يتوقعونها بعد أن عمت مهابتهم في الآفاق بسبب حروبهم مع الدولة التي أبرزتهم كقوة عسكرية تعجز الدولة بإمكانياتها عن حسم المعركة معهم، وكذلك سعوا إلى التخلص من دار الحديث بدمَّاج، والمتابع لسير المباحثات التي كانت تدور بينهم وبين الدولة يرى أن واحداً من أهم شروطهم للتصالح مع الدولة هو إلغاء المركز بدمَّاج وبقية المراكز التي يصفونها بالوهابية في منطقة صعدة.

ويوضح هذه الرغبة الجامحة لدى الحوثيين أحد الشيعة المتعصبين للحوثي وهو «إبراهيم الوزير» صاحب صحيفة الامتياز في مقابلة له بقوله: " وصعدة للزيدية بمثابة قم للجعفرية في إيران فهي مركز نشر المذهب الزيدي، ووجود مراكز لنشر الأفكار السلفية بها من الطبيعي أن يضيق بها أهل صعدة" [9].

ومما ساعد الحوثيين وأغراهم للتخلص من مركز دمَّاج عدة أمور، يرى الحوثيون أنها كافية لحسم الأمر مع هذا المركز ومنها:

أولاً: غرور الحوثين بأنفسهم وامتلاكهم للأسلحة الثقيلة من صواريخ، وهاون، وكاتيوشا، ودبابات، وأنواع الأسلحة المختلفة التي لا يوجد شيئ منها مع طلاب العلم بدمَّاج.

ثانياً: سيطرتهم التامة على كل مرافق الدولة الأمنية والإدارية في محافظة صعدة، وانفرادهم بالتحكم في هذه المفاصل.

ثالثاً: انشغال الدولة بمجابهة ساحات التغيير والاعتصامات والمظاهرات مع إمدادهم ودعمهم من قبل بعض النافذين في الدولة.

رابعاً: وقوف طلاب دمَّاج ومشايخها إلى جانب النظام ضد مخالفيه من الثوار، وهو ما جعل الحوثيين يطمئنون من نقمة الثوار عليهم إن لم يباركوا أعمالهم.

خامساً: كثرة الخلافات بين أتباع مدرسة دمَّاج، وشدة النزاعات في ما بينهم، فالحجوري يتهجم على كثير من رفاقه كعبد الرحمن العدني وأتباعه، ومحمد الإمام وأتباعه، وقبل ذلك مع الشيخ أبي الحسن السليماني المأربي وأتباعه، ثم الشيخ الوصابي وأتباعه إضافة إلى مواقفهم الحادة مع بقية الدعاة والجماعات الإسلامية... وهكذا في سلسلة من النزاعات والردود، والمهاترات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، ولا شك أن الحوثين يرقبون مثل هذه الأمور، ويتشفَّون بها، ويرون أن المركز قد أصبح معزولاً تماماً عن كل من يمكن أن يقف إلى جانبه.

لهذه الأسباب وغيرها رأى الحوثيون أن الفرصة سانحة، وهم لا يشكون أبداً أن المسألة لن تتجاوز يوماً أو يومين حتى يسقط المركز ويغادر طلابه تماماً من هذه المنطقة، وقد أقسم قائد الحملة الحوثية «أبو علي الحاكم» بأنه سوف يصلي عشاء في مركز دمَّاج و (يخزِّن)[10]، ويؤذن بــ «حي على خير العمل» في دار الحديث كما تواردت بذلك الأنباء.

وكانت المفاجأة التي لم يحسب لها الحوثيون حساباً ذلك الصمود والثبات والتنادي للجهاد دفاعاً عن النفس، مع جَلَد ومصابرة دامت أكثر من شهرين ذهب ضحيتها ما يقارب مائة وسبعين شهيداً وجريحاً من طلاب وساكني دمَّاج وخسائر كبرى في صفوف الحوثيين.

وبالرغم من ضعف أو انعدام وسائل الإعلام لدى طلاب العلم بدمَّاج إلا أن مؤسسات إعلامية وحقوقية، ومنظمات أهلية، ومؤتمرات قامت في اليمن للتنديد بهذه المجازر التي أقدم عليها الحوثيون، وأصبح الذين كانوا يتعاطفون معه بالأمس في حروبه مع الدولة، ويرونه مظلوماً ينظرون إليه اليوم على أنه ظالم، وتحركت مجاميع وقبائل من مختلف مناطق اليمن للسعي في فك هذا الحصار الظالم، واجتمعت في وائلة «كتاف» ودارت هناك رحى الحرب بين الفريقين، ووجد الحوثي نفسه في ورطة لا يحسد عليها بسبب بغيه وعدوانه، ونكثه للعهود السابقة، وتحركت جهات ووساطات للصلح إلا أنها باءت بالفشل في ظل صمت وتخاذل من قِبَل الدولة ليس له أي تفسير إلا التواطؤ مع الحوثي، وإفساح المجال له للعبث والشغب والقرصنة التي يرى كثير من المراقبين أنها تأتي في إطار إشعال الحرائق التي يسعى النظام لافتعالها قبل سقوطه، لتكون دليلاً على أن أوضاع اليمن كانت في عهده أفضل، وبخاصة بعد أن ظهر للناس أن الحوثي ليس صادقاً في وقوفه مع الثورة من خلال إيجاد وخلق الاضطرابات في الساحات، ومحاولته افتعال منابر وساحات أخرى مضارة للساحات القائمة، فهو إذن يمارس في العلن ما يناقضه في الخفاء، وفي ظاهر الأمر مع الثوار وباطنه مع السلطة.

وبكل تأكيد فإن الحوثيين غير قادرين على أن يكونوا مشاركين في العملية السياسية، وإنما حريصون غاية الحرص على زراعة الفتن والفوضى التي لن يترعرعوا إلا في ظلها، لهذا نجدهم يرفضون المبادرة الخليجية، والمشاركة في حكومة الوفاق الوطني لعلمهم بأن حجمهم الحقيقي لا يمكِّنهم من تحقيق أطماعهم السياسية التي يريدون فرضها على الشعب اليمني بالحديد والنار.

وقد تذبذب الحوثي في تبرير حصاره لدمَّاج! فحسب رواية جاءت على لسان محافظ المحافظة «فارس مناع» المتعاطف مع الحوثي يقول: إن سبب الحصار يعود إلى التعدي بالضرب على أحد أطفال الحوثيين عمره ما بين 14 - 18 عاماً من قِبَل بعض شباب دمَّاج، وتارة يدغدغ الحوثي مشاعر الثوار بأن حربه مقدسة بسبب وقوف الحجوري ومن معه ضد الثورة السلمية، وتارة يتهمهم بأنهم تكفيريون، وأخرى بسبب وجود أجانب في مركز دمَّاج... وهكذا جملة من المغالطات التي لم تعد تنطلي على أحد، ولم يعد هناك من هو قادر على حجب رؤية الشمس، والتغافل عن الأسباب الحقيقية القائمة على النعرات الجاهلية، والعصبيات المذهبية والسلالية، والأطماع السياسية.

مساعٍ للصلح ومخاوف من نقضه:

بعد أن أفلس الحوثي سياسياً، وتعثر عسكرياً في حسم معركة دمَّاج المحاصرة، وكتاف المناصرة، وتناقلت وسائل الإعلام المختلفة شناعة الأعمال التي قام بها الحوثيون في هذا الحصار، ومنعهم أهالي دمَّاج من الغذاء والدواء والتنقل، والقيام بأعمال القصف والقنص لأهالي منطقة دمَّاج، ودار الحديث، وبعد أن عقد العلماء والوجهاء مؤتمرات للاعتصام والنصرة في صنعاء والحديدة وإب وغيرها، وما حصل من الاستنكار والتنديد بهذه الأعمال، ودعوة الجهات الرسمية وكافة شرائح المجتمع إلى القيام بنصرة المظلوم، وردع المعتدين الحوثيين، وأصبح الحديث عن مأساة دمَّاج يتجه إلى أنها كارثة إنسانية، وعقاب جماعي، وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان، يتم تصنيفه ضمن جرائم الحروب الجنائية.

بعد ذلك كله رحَّب الحوثي بجهود المصالحة التي دعا إليها الشيخ حسين بن عبد الله الأحمر (أحد أبناء الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر شيخ مشايخ حاشد - رحمه الله -)، وقد كان لهذه المساعي الحميدة أثرها الملموس في فك الحصار عن دمَّاج، ودخول الأغذية والأدوية إلى الناس رغم مماطلة الحوثي وتعنُّته في المفاوضات، وبقائه متمترساً في مناطق مختلفة تجعل من قبوله للصلح مجالاً لاستمرار الحذر، والمخاوف من نقضه، وانقلابه عليه كعادته في السابق.

وأما على الجبهة الأخرى التي جاءت لنصرة دمَّاج وهم قبائل وائلة ومن انضم إليهم من مناطق وقبائل اليمن في منطقة كتاف، فقد أجاب أهل المنطقة ومن معهم على طلب رفع الجبهة المقدَّم من الشيخ حسين الأحمر كحل شامل للقضية، بأنه لا مانع لديهم من التخلي عن جبهتهم شريطة أن يبقى الحوثي مواطناً من جملة المواطنين، وأن لا يمارس فيها صلاحيات السلطة المحلية من إحداث النقاط العسكرية، والمحاكم والسجون، والسطو على مرافق الدولة، أو القيام بأعمال الخطف والعدوان على الناس، وهي شروط موضوعية وعادلة.

ويبقى السؤال الذي لا بد منه: هل صحيح أن الحوثي جاد في مصالحته مع مخالفية السلفيين وغيرهم، وإقامة التعايش السلمي الذي دأب عليه الشافعية مع الزيدية طيلة قرون من الزمن؟

وهل سيتخلى عن المجاهرة بسب الصحابة الكرام في منابره، ومنشوراته التي أفرزت له في المجتمع اليمني عداوة وبغضاً بما في ذلك كثير من ساكني صعدة وما حولها؟

وهل سيسلم الحوثي هذه القوات العسكرية التي أخذها أو أعطيت له من الدولة من الدبابات والصواريخ والمعدات الثقيلة إلى الدولة الجديدة؟

وهل سيعود المهجَّرون من القبائل التي خالفت الحوثي في حروبه السابقة مع الدولة إلى ديارهم دون أن يتعرض لهم الحوثي بالأذى والتنكيل؟

وهل سيقوم بردِّ المساجد التي أخذها من أهل السنة إلى أصحابها؟

وهل سيُفرَج عن السجناء الذين احتجزهم الحوثي ظلماً وعدواناً من أهل السنة؟

وهل سيلتزم بتعويض المتضررين من جراء ظلمه وعدوانه؟

وهل سيتخلى عن النقاط التي أحدثها للتحكم في المارة من الناس؟

وهل سيترك أخذ الجبايات والزكوات من الناس؟

أسئلة كثيرة لا بد من الإجابة عليها، والقيام بتطبيقها إذا كان الحوثي صادقاً في أن يكون مواطناً له حقوق وعليه حقوق كبقية أبناء الشعب اليمني، إذ الحصار قائم في حقيقة الأمر على محافظة صعدة بكاملها، وما حصار دمَّاج إلا حصار ضمن حصار عام للمحافظة.

حصار دمَّاج دروس وعبر:

كانت المحنة التي تعرض لها الطلاب خلال ما يقارب ستين يوماً هي الأشد في تاريخ دار الحديث بدمَّاج، بل لا أبالغ إن قلت: إنها من أندر الوقائع التي تحدث في اليمن، ومع ذلك فقد كانت تحمل في طياتها من الألطاف والعطايا الربانية شيئاً كثيراً، وفيها من الدروس والعبر ما تحتاج إلى سِفْر خاص أو أكثر لاستخلاص الفوائد التي لن يتحصل عليها لو لم توجد مثل هذه الأحداث، وهنا يتذكر المرء قول الله - سبحانه وتعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216]، وقوله - سبحانه -: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا) [النور: 11].

ولعلِّي أكتفي في هذا المقام ببعض الدروس والعبر تاركاً بقيتها إلى وقت آخر، أو إلى من يفتح الله عليه في عرضها ونشرها للفائدة وفي ما يأتي أبرزها:

أولاً: خطورة البدعة على الأمة، ولا سيما بدع الرافضة التي تقوم على معاداة السُّنة وأهلها، والنيل من خيار هذه الأمة وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عمَّن جاء بعدهم، ولا ريب أن تاريخ الرافضة ومناصرتهم لأهل الباطل في القديم والحديث خير شاهد على أن هذه الفئة لا تكاد توجِّه سهامها إلا لأهل الإسلام والسنة، وما حدث في العراق، وما يحدث اليوم في سورية، وقبل ذلك في أفغانستان وإيران لهو أكبر دليل على صحة ذلك.

ثانياً: أهمية اجتماع أهل السنة ونصرة بعضهم بعضاً، وخطورة تفرُّقهم وتنازُعهم لقوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].

وقد رأينا بركة التعاون على البر والتقوى، وما أثمرت هذه الفريضة من كبح جماع المعتدين، ونصرة المظلومين، إذ الدفاع عن النفس يعد من جنس الجهاد في سبيل الله كما في قوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) [الشورى: ١٤]، وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ) [الحج: 60]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))[11].

ولعل في هذه الأحداث ما يدعو جميع أهل السنة في اليمن إلى إعادة النظر في علاقة بعضهم ببعض، والعمل على تجاوز الخلافات الوهمية أو القائمة على سوء الفهم وقالة السوء ووشاية الواشين، والاجتماع على كلمة سواء، وما اتفق عليه سلف الأمة يجب أن يكون هو الميزان الذي تضبط به مسائل الخلاف، وما اختلف فيه السلف الصالح ففيه فسحة مع تحرِّي الحق والتناصح بين الجميع، وما كان هناك من النوازل المعاصرة فيترك الخوض فيها للراسخين في العلم، وتعقد لذلك الندوات والمؤتمرات، وتناقش بتجرد وموضوعية ليخرج الجميع من ذلك بآراء قريبة من الرشد والصواب، والبعد ما أمكن عن لغة التجريح والتسفيه للمخطئ، ومناصحته مع بقاء حبل المودة وحسن الظن بين الدعاة إلى الله وطلاب العلم.

ثالثاً: ضرورة الاستفادة في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها اليمن من جميع المعطيات التي تبيِّن لأبناء الشعب اليمني محاسن دعوة أهل السنة وخيرها، وبركتها على الناس، وقد لوحظ في خضم هذه الأحداث أهمية العناية بوسائل الإعلام المختلفة، ومدى تأثيرها، وقد كان الحوثييون يراهنون على أنهم سوف يقومون بجريمتهم هذه بعيداً عن كشفها للرأي العام، لما يعلمونه من مواقف الإخوة بدمَّاج من حرمة التعاطي مع وسائل الإعلام المرئية، وهي آراء تحتاج إلى مناقشة، وإعادة النظر فيها، مع التقدير لكل رأي يكون له حظ من النظر عند أهل العلم، إلا أنه قد يسوغ في حالات الضرورة والاستثناء ما لا يسوغ في غيرها.

كذلك الحال بالنسبة للعمل السياسي، وأهمية أن يكون هناك أذرعة سياسية، أو إقامة كيانات سياسية تنضبط في سيرها بمعالم السياسة الشرعية، وتتجنب المزالق التي وقع فيها كثير من السالكين في العمل السياسي، ولا سيما بعد قيام ثورة الشعوب أو ما يسمى بـ «الربيع العربي».

ومثل ذلك العملُ ضمن المنظمات الأهلية، والنقابات المختلفة، والمناشط الخيرية، وتطوير أداء التعليم الشرعي، مع العناية بالجانب الإيماني والتربوي، والاستفادة من الفرص المتاحة بإذن الله، في قادم الأيام كتأسيس الجامعات والكليات المختلفة، وإنشاء القنوات والإذاعات وغير ذلك.

وبالجملة فإن التواصل مع جمهور الناس، وإقامة جسور التعاون على البر والتقوى مع شرائح المجتمع المتعددة بات من الأهمية بمكان، وفي مقدمة هؤلاء العاملون للإسلام من مختلف ألوان الطيف السني، على أنه يوجد هناك علماء معتدلون ينتسبون للمذهب الزيدي ويستنكرون أفعال الرافضة، كما يوجد بعض العلماء المنتسبين إلى التصوف وهم بعيدون عن الغلو وشطحات الصوفية وخرافاتهم، فمثل هذه الفئات من المفيد أن يعتنى بهم، وأن يكون بينهم وبين علماء السنة تواصل وتعاون في الأمور العامة التي تحتاج إلى تضافر أبناء الشعب كافة.

وقد أصدرت هيئة علماء اليمن في يوم الاثنين غرة صفر 1433هـ بياناً وقَّع عليه كثير من العلماء من مختلف الاتجاهات في اليمن، أكدوا فيه على ضرورة التعاون بين أبناء اليمن لإقامة الشريعة الإسلامية وتحكيمها، ورفض أي قانون يتعارض معها، كما دعوا في بيانهم إلى جملة من النصائح والتوجيهات التي يتحتم على الجميع وفي مقدمتهم حكومة الوفاق الوطني إلى سرعة العمل بها لتحقيق الأمن والاستقرار، وتفويت الفرص على المتربصين من جميع العابثين والمتورطين في تنفيذ أجندة خارجية تفرق أبناء الشعب اليمني، وتزرع فيهم بذور الفتنة الطائفية والمناطقية لخدمة أعداء الإسلام والمسلمين.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ــــــــــــــــــ

 [1] تحقيق رسالة «الإلزامات والتتبع للإمام الدار قطني».

[2] نسبة إلى «أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي الهمذاني، ت 150هـ»

[3] منهاج السنة: 3/9 - 10.

[4] انظر: نظرة الإمامية الإثني عشرية إلى الزيدية تأليف محمد الخضر، ص 43 - 45، تقديم الشيخ محمد المهدي، والزيدية نشأتها ومعتقداتها للقاضي إسماعيل الأكوع.

[5] نقله عنه جعفر المبخوت في لقاء معه على الموقع الشيعي المسمى المعصومين الأربعة عشر.

[6] انظر: دروس من هدي القرآن، محاضرات حسين الحوثي، سورة آل عمران، الدرس الثاني 19/1/2002م، وسورة المائدة الدرس الأول 13/1/2002م، وكتابَي خلفية الفكر الحوثي والحرب في صعدة، ص 65 - 133كلاهما لعبد الله الصنعاني.

[7] منهم حمود عباس المؤيد، وأحمد الشامي، ومحمد بن محمد المنصور، وصلاح فليته، وآخرون.

[8] انظر كتاب تاريخ الإمامة الزيدية في اليمن، لعبد الفتاح البتول.

[9] المقابلة مع «الوطن العربي» بتاريخ 24/10/2007م.

[10] أي: يتعاطى القات.

[11] أخرجه أحمد (1652)، والترمذي (1421) من حديث سعيد بن زيد، ولفظة (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) رواها (البخاري (2/877/رقم2480)، ومسلم (1/87/رقم378) من حديث عبد الله بن عمرو.

  • 1
  • 2
  • 7,050

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً