الإلزام بأحكام الإسلام .. وتحرير محلّ النزاع

منذ 2015-01-29

شعرت حينئذ بأهمية تحرير محل النزاع، وإبراز محل الخلاف بشكل واضح جداً، لأن المضامين المنحرفة أصبحت تتخفّى خلف صياغات وأساليب عدة، فينتقل الحوار من صياغة إلى صياغة أخرى ويتشتت القراء عن محل النزاع.

بعد نشر مقالتي السابقة: "هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدّي إلى النفاق؟"

قال لي أحد الإخوة: إنّ القول بلزوم أحكام الإسلام متفق عليه، وليس هو محل النزاع.

شعرت حينئذ بأهمية تحرير محل النزاع، وإبراز محل الخلاف بشكل واضح جداً، لأن المضامين المنحرفة أصبحت تتخفّى خلف صياغات وأساليب عدة، فينتقل الحوار من صياغة إلى صياغة أخرى ويتشتت القراء عن محل النزاع.

الخلاف في (الإلزام) بأحكام الإسلام، هو محل النزاع تحديداً.

وسأرتب المشهد من جديد، وسأضع محل النزاع على الطاولة حتى يكون النقاش مركزاً وحول محور محدد.

دعونا من الصياغات.. (هل سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة؟) أم (مع تطبيق الشريعة؟) أو (هو تطبيق الشريعة) أو (ضامن لتطبيق الشريعة؟) أو (طريق لتطبيق الشريعة). الخ.

فالألفاظ قد يعبر عنها بمعاني باطلة وفي نفس الوقت يعبر عنها بمعانٍ صحيحة، العبرة المضمون المنحرف لا يكون مستتراً في عباءة هذه المصطلحات.

ما هو محلّ النزاع إذن بالضبط؟

الإيمان بالنصّ، خارج محل النزاع بتاتاً.

الحديث عن الإيمان بالنصّ، وأن الشخص يؤمن بأن الخمر حرام، والزنا حرام، والكفر حرام، وأن المسلم ملزم ديانة بتركها وبأداء الصلاة، وبأداء كافة الواجبات الخ.

هذا كلّه بعيد عن موضوعنا، لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ولو قال شخص إن الخمر أو الزنا حلال أو لا يلزمه الامتناع عنه لصار كافراً بإجماع المسلمين لأنه ينكر أصلاً ضرورياً من الإسلام، بل ولا يتصوّر في الحقيقة مثل هذا إلا مكذب ومستكبر، إذ كيف يقول إن الخمر حلال وهو يعلم أنها حرام.

لنقفل هذا الملفّ إذن، ولا نعود إليه مرّة أخرى.

الخلاف إذن في الإلزام بأحكام الإسلام.

الإلزام النظامي بمعنى: أن يمنع الخمر، وتمنع الفاحشة ومقدماتها، وتقام الحدود، ونحو هذه الأحكام.

فالخلاف هل (تمنع) و (يعاقب) عليها، وليس هل هي محرمة أو واجبة شرعاً.

الناس في هذا الإلزام ثلاث اتجاهات:

الاتجاه الأول: الاتجاه العلماني: الذي يرى أن الإسلام ليس فيه إلزام نظامي، إنما الالتزام شخصي ذاتي، يترك الخمر ويبتعد عن الفواحش ويؤدي الزكاة وكافة شؤون العبادات كعلاقة ذاتية بين العبد وربه، أما في النظام فليس في الإسلام أحكام ملزمة، لأن ذلك إكراه في الدين، ومخالف لرسالة الإسلام القائمة على الهداية والحرية والاختيار، وأن الدين في الآخرة وليس في الدنيا الخ هذه المبررات المشهورة والتي يستدلون لها بآيات من القرآن كقوله - تعالى -: (لست عليهم بمصيطر) (إن عليك إلا البلاغ) (وأعرض عن المشركين).

لاحظ أنهم غالباً- لا ينفون أصل الحكم أو النص، إنما ينفون أصل الإلزام.

فإن جاء الإلزام من خلال قوانين وضعية خرجت من خلال منظومة الدولة القانونية فهل يقبلون به؟

هم اتجاهات شتى، فبعضهم يرفضه بتاتاً لأنه يرى أن من شرط الدولة المدنية أن تحيد الدين بتاتاً، وبعضهم يقبله شريطة أن يفرض كقانون مدني دنيوي مصلحي، ولا يفرض عليهم كحكم ديني ونصّ شرعي، لأنه إذا فرض كدين تحول الدين عن حقيقته ورسالته، واختلط الدين بالسياسة.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الإسلامي العام: يرى أن الشريعة رسالة شمولية فيها عبادات وأخلاق ومعاملات وحدود وتفاصيل في كافة شؤون الحياة، وأن ثم إلزام بها، لما جاء في نصوصها المتظافرة، ولأن المسلم حين اختار الإسلام فقد رضي بأحكامه، ومنها أن يحكم بالإسلام، فإذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فقد رضي أن يصلي ويصوم ويمتنع عن المحرمات ويمنع منها ويعاقب عليها.

فهذا هو أصل النظام، ودور المسلمين أن يختاروا حكومة منهم تقيم لهم شأن دينهم ودنياهم وتحقق العدل وتبعدهم عن الظلم وتحقق كافة الواجبات الشرعية.

كيف يختارون الحكومة ؟

بأي طريق مناسب يحقق لهم العدل والاختيار والرضا، فاختيار الحكومة يختلف عن اختيار الشريعة، اختيار الحكومة حق للناس، وأما اختيار الشريعة فهي حق لله ولازم لدينهم لا يمكن أن تكون تحت سيادة أحد، إنما دور الناس معها التطبيق والمراقبة، وسيادتها فوق أي سيادة.

كيف نقدم ضمانات من عدم تجاوز الحكومة ؟

كما تستطيع أن تقدم ضمانات لالتزام النظام برأي الأكثرية، هي ذات الضمانات لالتزام الحكومة بالشريعة.

فهذان منهجان مطردان واضحان بينان، رؤيتهم محررة وبينة في مفهوم النظام السياسي.

الاتجاه الثالث: وهو يقول إن الإلزام ثابت شرعاً،ويجب منع الخمر والمحرمات ولا يقول إنها لا تمنع، لكنه في نفس الوقت يقول: لا يمكن أن تمنع إلا إذا اختار الناس هذا المنع، فالخمر ممنوعة لكن يجب أن يصدر المنع من خلال الناس ذاتهم.

فالأحكام الشرعية ملزمة ديانة فقط أو ديانة ونظاماً على خلاف بينهم- لكنها لا تكون ملزمة قانوناً إلا إذا اختار الناس.

وهذا الاتجاه يمارس عملية معقدة جداً.

فالخمر يجب منعها وكل أحكام الإسلام يجب الالتزام بها، لكن لا يجب منعها في النظام لا بعد أن يختار الناس وتتحول لقوانين.

لاحظ:

يحب منعها شرعاً، لكن لا تمنع واقعاً إلا بعد أن يختار الناس.

إذن فثم نظام آخر يعمل مع النظام الإسلامي.

إذا كنتَ تسلم بأن الخمر شرعاً يجب منعها والإلزام بها، فلماذا تشترط شيئاً آخر؟

كيف تقول (لا خيار لك في منع الخمر).

ثم تقول: لكن يجب أن يكون ذلك بعد اختيار الناس؟

فنحن نريد النظام الإسلامي ونبحث عنه، فإذا كنتَ تقرّ بأنه نظام يلزم بأحكامه، فلماذا تقول: لكن لا تلزم إلا بعد اختيار الناس؟

هنا المشكلة

فهذه النظرية تمارس تلفيقاً بين المفهوم الشرعي والمفهوم العلماني، لديها أصل شرعي صحيح وهو التسليم بالحكم الشرعي والتسليم بالإلزام به، ولديه تأثر بالأصل العلماني القائم على أنه لا إلزام في النظام الإسلامي، لهذا هو يمارس التلفيق، وهذا ما يفسر لك سر الاضطراب والتناقض.

لاحظ في هذا: أن النظام الإسلامي حسب هذا الاشتراط يعمل في إطار نظام آخر.

فهو يقر بوجود إلزام في النظام الإسلامي ولا ينازعك في الشواهد والنصوص الكثيرة، لكن يعلّق هذه الإلزام بموافقة الناس عليه من خلال طريقة قانونية محددة.

فثم نظام آخر أعلى من النظام الإسلامي وأقوى مصدرية منه وأعلى شرعية منه (قل هو علماني أو ليبرالي أو ديمقراطي، لا يهم، وسأسميه من الآن: النظام العلوي).

فالنظام الإسلامي إذن في تفسير هذا الاتجاه: لا يطبق إلا بعد أن يختار الناس.

فالنظام الإسلامي، والإلزام الشرعي لا تطبق لأحقيتها، بل لأنها حازت على أكثرية الناس.

لا تستحق هذه الأحكام أن تكون ملزمة قانوناً، إلا بعد أن يصدر بها قانون من الأكثرية.

فالنظام الأعلى هذا يقول: من يحوز على الأكثرية يطبق مبدأه، فحين فاز النظام الإسلامي طبق مبدأه.

فالسلطة العليا الآن لمن؟

فحين أسوق لك أدلة الشريعة على الإلزام فأريد أن أثبت لك أن الإلزام موجود في الشريعة، إذن فيجب أن تلتزم إن كنت تريد النظام الإسلامي، ويكون دورك أن تطّبق وتنفذ الحكم الشرعي فقط.

فهذا الاتجاه لديه أصلان متناقضان، وعقلان متصارعان (أقصد تحديداً في موضوع الإلزام).

يؤمن بضرورة قيام النظام الإسلامي.

ويؤمن في نفس الوقت بأن النظام الإسلامي خاضع لرؤية ونظام آخر.

سيتضح الأمر أكثر عندما تتصوّر فقط وضع النظام الإسلامي الذي يتحدثون عنه، وتنظر في صورته النهائية.

أحكام الإسلام ملزمة قانوناً- متى ما اختارها الناس، ومن حقهم أن يتركوا هذه الأحكام كما من حقهم أن يأتوا بها، فشأن حكم الإسلام كشأن أي مادة دستورية في الدستور، يضعها الناس ويرفعونها إذا أرادوا.

وإذا كان النظام العلوي هذا قد كفل لك أن تضع الإسلام في الدستور وتطبق أحكامه.

فهو كفل أيضاً لخصوم الإسلام أن يجتهدوا في إقناع الناس وتغيير أديانهم واتجاهاتهم وأن يشكلوا الأحزاب ويفتحوا وسائل الإعلام ويتحركوا في البلد بكل حرية في سبيل محاربة الإسلام وفرض دستور آخر، ويمكن أن يحذفوا هذه المادة الدستورية، أو يقيدوها مثلاً فيقولون نحكم ببعض أحكام الإسلام أو يحذفوها أو يمكن أن يأتوا بمادة تقول يجب منع الشعائر الدينية لأن دولتنا علمانية، وحينها فمن كفل لك حقّ وضع دستور (الإسلام) يكفل لغيرك أن يضع مادة (إقصائه تماماً)، ومن جعل لك مشروعية المعارضة لهم حين يتركون الإسلام يجعل لهم مشروعية المعارضة للإسلام.

إذن، فهل هذا نظام إسلامي ؟

هل الإلزام الذي يتحدث عنه أصحاب الاتجاه الإسلامي هو هذا الإلزام الذي يقولون؟

سيقول شخص: لكن لا يمكن أن يحكم الإسلام إلا بهذه الطريقة في عصرنا الحاضر؟

جميل، ولا إشكال مع من يريد الوصول إلى الحكم بشكل تدريجي، أو أن يقول إن هذا طريق مناسب لتحقيق مقاصد الشريعة أو لتخفيف الشر، هذا كله خارج محل النزاع، وكافة الحركات الإسلامية تشارك الآن في العملية الديمقراطية ولا تثير أي إشكال، فأكثر علماء الإسلام إما يرونهم مصيبين في المشاركة أو معذورين مجتهدين، فليس الخلاف في المشاركة، الخلاف في هذا التصوّر الجديد الذي يقدم تفسيراً جديداً للنظام السياسي.

ما هو هذا التصوير الجديد ؟

أن الإسلام لا يحكم إلا باختيار الناس ورضاهم، هذا هو الطريق الوحيد لذلك، وأن أحكامه لا تكون ملزمة إلا إذا تحوّلت إلى قانون، فما دامت الأكثرية رافضة فلا يحكم، وإن قبلت حكمت.

ليتهم يقولون هذا في زمننا فقط، بل يرون هذا هو الأصل والتأسيس الدائم حتى في عصر الإسلام، ويستدلون لذلك بنصوص في القرآن والسنة وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين وكلام العلماء، فالمشكلة ليست مشاركة في عملية ديمقراطية، بل فهم جديد ومختلف للنظام الإسلامي قائم على تلفيق بين أصلي (الاتجاه الإسلامي) و (الاتجاه العلماني).

أعرف جيداً أن هذا ربما يكون دقيقاً عند بعض الناس فيظنّ أنها من قبيل التفصيلات والخلافات الجزئية، وهذا غير صحيح، لأن هذا الإشكال له أثر كبير جداً على النظام الإسلامي نفسه، فأنت في الحقيقة لا تطبق نظام الإسلام استقلالاً، بل تبعاً للنظام العلوي هذا.

فهذا النظام العلوي له أصوله ومبادئه و قواعده، وستبتلع رغماً عنك هذه الأصول، حينها تأتي علمية التأويل والتحريف لغرس هذه الأصول في جسم النظام الإسلامي الشرعي.

فالنظام العلوي يفرض قيما علوية في الحريات والحقوق يجب على الجميع أن يطبقها لأن الكل على قدم المساواة.

إذن من حق كافة أفراد المجتمع أن يكون لهم الحرية التامة في الدعوة لأي فكرة أو رأي مهما كانت مصادمة للإسلام، لأن هذا من الحريات والحقوق الأساسية التي يكفلها النظام العلوي، فيجيش الناس لتغيير الدستور، وللمطالبة بحذف الشريعة، ومن حقهم أن يقيموا المحاضرات والندوات لإقناع الناس بسوء الشريعة وما يترتب على حكمها من عيوب الخ، ويطالبون بتعديل الدستور مرة بعد مرة.

فهل هذه الطريقة مقبولة في نظام الإسلام؟

ولهذا تجد بعضهم يقول: لو أن الأكثرية رفضت الإسلام فماذا تفعلون؟

وهذا سؤال مركب من تصور النظام السياسي بناءً على النظام العلوي هذا وليس بناءً على النظام الإسلامي.

لأنه في النظام الإسلامي لا يمكن أصلاً السماح لأحد أن يؤلب الناس على الشريعة من الأساس، فضلاً أن يطرح موضوع للتصويت فيحوز فيه على أقلية أو أكثرية.

فكون الأكثرية رفضت الشريعة معناه: أن النظام يسمح بحرية نشر الكفر وإشاعته وإقناع الناس به، وأن الأحزاب تتشكل بناءً على هذه الأفكار، وتجاهد في تغيير قناعة الأمة بدينها حتى تستطيع أن تشكل أغلبية، ثم يأذن النظام بوضع تصويت على الشريعة، ثم تحصل النتيجة هذه.

هذه الصورة غير متصورة بتاتاً في حكم الإسلام، وفيها إجماعات واضحة وأدلة قطعية، بل لما وقعت في التاريخ الإسلامي تعومل معها بالقوة والجهاد.

وحتى تعرف وزن هذا القول وخطورته، أقرأ هذا النص عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم أعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا وهذا مما أجمع المسلمون عليه ولهذا بعضهم يعاقب على فعله بالتعزير وأكثرهم يعاقبون عليه بالقتل، وهو مما لا يشك فيه مسلم ومن شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"[الصارم المسلول 2/404)].

لهذا لا يتصوّر في النظم الديمقراطية المعاصرة أن يقول أحد: إن الأكثرية اختارت أن تخالف أو تضييق حقاً ولو يسيراً من حقوق الأقلية؟ لأنهم أصلاً لا يسمحون لك بإمكانية أن تشكل رأياً شعبياً تجمع الناس عليه يخالف هذه الحقوق العليا.

وحتى تدرك عمق الإشكال، فهو قد جاء هنا بمثال شديد الرفض للشريعة، فما رأيك لو طرحنا مثالاً آخر.

لو قيل إنه جرى تصويت على ترك الشريعة فشارك 40% فقط من عموم الناس، واختار 51%منهم رفض الشريعة، فصاروا أغلبية بسيطة من 40% من الناس، يعني يشكلون 20% من عموم الناس، وكان بالإمكان تجاوز هذه الإشكالية بإلغاء نتيجة الانتخابات لأنها مخالفة للشريعة، من دون أن يكون ثم أي فتنة ولا دماء ولا إشكالات تذكر، فهل ترى هذا مقبولاً؟

دعك من هذا

لو أن النظام أجرى استفتاء على الشريعة وحث الناس على الموافقة، من دون أن يفتح المجال للأحزاب والدعوات المعارضة، فقط طرح الشريعة مباشرة على التصويت وضيق الخناق على المعترضين حتى حازت الشريعة على الأكثرية هل هذا مقبول؟

ستجد أن الكثير يرفض هذه الأساليب، لأن ثم نظاماً علوياً تحاكم إليه الشرع فيجب أن يتم الامتثال التام إليه، فهذا حق للأمة فلا يجوز تجاوزه بأي حال من الأحوال، فدعك من صورة 90% في مقابل 10% من الصور الضرورية التي تأتي للتشويش، وهات مثل هذه الصور وستظهر لك حقيقة الإشكالات.

يقال: هل نقاتل الأمة حتى تفرض الشريعة ؟

فيصور لك الموضوع إما مقاتلة الناس وحرب مفتوحة على الجميع، وإما أن تخضع الشريعة للتصويت، وهذا تصوّر مغلوط، لأن ثم مساحة كبيرة جداً بين هاتين الجهتين.

فما رأيك لو أمكن إلزام الناس بدون قتال ولا فوضى ولا إشكال، فقط بترك النظر في الموضوع أو بجعله مادة فوق دستورية، فهل تقبلون؟

دعك من هذا

ما رأيك في مجتمع أصلاً راضٍ بالإسلام وقابل له وخاضع له من قرون، فهل يكفي هذا؟ أم لا بدّ من استفتاء وتصويت وآليات محددة؟

في النظام السياسي لا وجود لحرية حدّ الردة بتاتاً، بل وثم عقاب محدد له، فلا يتصوّر أصلاً أن يكون ثم أحد يطالب بنقض الإسلام ويترك، حتى يجمع الناس ويحصل على الأكثرية!

ثم إن صورة إما أن تفرض الشريعة بالقوة والقتال وإبادة الناس وإما أن تخضع الشريعة للتصويت، تصوير مضلل، يعطيك أشد الصور تطرفاً والتي يمكن التنازل عنها بحكم الضرورة، حتى تسلّم له بهذا الأصل المنحرف، لهذا اختبره فأعطه الصور التي لا إشكال فيها لكنها تخالف أصول النظام العلوي وستجد النتيجة غالباً هي الرفض.

هذا النظام العلوي له قائمة طويلة من المفاهيم فوق الدستورية مفروضة على الجميع ولا يستطيع أحد أن يناقشها أو يصوت عليها ولم يقل أحد هل ستقاتلون الأمة عليها.

فالحريات والحقوق والمساواة والمواطنة وتفاصيل كثيرة لا يجرى عليها تصويت ولا يحق للأحزاب التعرض لها ولا يجوز لأي حكومة ولو فازت بالأغلبية الساحقة للأصوات أن تتعرض لها.

لماذا؟

لأن هذه الحقوق جزء أساسي من هذا النظام العلوي فلا يحق لك أن تعترض عليه، وأنت إنما تعمل في إطاره.

وأما الشريعة فلا يمكن أن يرتفع بها إلى هذا المستوى، بل يجب أن تكون داخل الإطار، وخاضعة لقواعد لعبته، يجري عليها ما يجري على أي منظومة أخرى، فهي في النهاية محكومة بالإطار العلوي.

لهذا تجد من المفارقات المبكيات: أن يخوض الشباب في الشبكات الاجتماعية شهوراً عدة في نقاشات منهكة حول سيادة الشريعة ولمن هذه السيادة، يراد منها فقط أن يتمّ الاتفاق فقط على أن الشريعة لا تتعرض للتصويت، بل تكون إطار علوياً كالمبادئ فوق الدستورية في النظم الديمقراطية فيتأبّى كثير من النفوس بأشكال الحيل والأعذار.

فلما جاءت قضية قيادة المرأة للسيارة تحدث أكثر من شخص من أولئك الخائضين في تلك المعركة بأن حق المرأة في قيادة السيارة حق طبيعي لا يجرى عليه أي تصويت!!

هل عرفت الآن أين المشكلة؟

فالنظام الإسلامي لا يحكم لوحده.

بل تحت نظام أعلى منه.

والنظام الإسلامي مجرد مادة في دستور محكومة بفلسفة أعلى منه هي التي سمحت له بأن يأخذ هذه المساحة.

هو مجرد قانون شانه شان أي قانون آخر يأتي ويذهب ويطالب بحذفه وإبقائه.

إذا حكم فإنما يحكم لأنه مادة دستورية ليس إلا.

لهذا يتعامل كثير من الليبراليين مع مثل هذا الاتجاه بنفسية مسترخية جداً لأنهم يعرفون حجم الشريعة وعمقها حين تضغط بهذه الطريقة.

ويعرفون أن مصير هذا النظام الإسلامي هو كالمادة الدستورية الشهيرة (الإسلام دين الدولة) والتي يقول عنها القانوني الشهير د. عبد الحميد متولي إنه لا قيمة قانونية لها، وإنما هي تحية كريمة لدين الأكثرية أو تكفيراً عن خطيئة تعطيل الشريعة. [أزمة الفكر السياسي 23)].

فالقضية ليست صراعات لفظية، ومماحكات سجالية، إدخال النظام الإسلامي في عباءة نظام تشريعي أعلى منه سيوقع في إشكاليتين عميقتين:

الأولى: أن يتقبل الاتجاه الإسلامي كافة القيم والشروط التي يضعها هذا النظام العلوي، فالنظام العلوي يضع لك تصورات لكيفية فرض الشريعة، وتصورات لما يجب عليك فعله وما لا يجوز لك تجاوزه حتى ولو فرضت الشريعة، فتتعامل مع الشريعة بأدوات خارجة عنها.

حينها سيجد المسلم نفسه مع قائمة طويلة من الأحكام الإسلامية والتصورات الشرعية وسيتعب من ممارسة التأويل والتحريف والتلفيق وإعادة التفسير، وسيضطر لسلوك مناهج كثيرة للموائمة والتوفيق، وسيكون لها أثر سلبي على رفض كثير من الأحكام، وعلى تقبل كثير من المناهج المنحرفة التي ستؤثر على أحكام أخر.

وهذه نتيجة طبيعية لمن يريد إسقاط المنظومة الإسلامية العظيمة وتاريخها الطويل في الحكم والسياسة في قالب ضيق له جذوره وفلسفته وتاريخه الخاص به.

لهذا قال أحد المؤلفين القانونيين المشهورين: إن الخطأ في مفاهيم الحكم والسياسة عبث بالمفاتيح الأساسية للإسلام. [مصطفى كمال وصفي في النظام الدستوري 14)].

الثاني: أن حماسته وغيرته ودفاعه عن الإسلام وأحكامه ستضعف تدريجيا، وستزداد حماسته للنظام العلوي أكثر، ولهذا يصبح البعض يستثقل الحديث جداً عن الشريعة وتطبيقها بينما تنشط نفسه كثيراً مع مفاهيم السيادة والحريات.

وهذه نتيجة طبيعية لأن المطالبة ليست متجهة للنظام الإسلامي، بل للنظام العلوي الذي يظنّ أنه سيحكم النظام الإسلامي.

هذه هي الصورة أيها الأكارم.

ومقصودي الآن تحديد هذه الصورة، وإذا تطلّب الأمر فقد أعود لمناقشة بعض التفصيلات، مؤكداً أنّي أتحدث عن محل النزاع، وليس مقصودي الآن تقييم هذه الاتجاهات فلا يظن أحد أني أجعل الاتجاه الثالث علمانياً مثلاً، فهذا بعيد جداً وشتان ما بينهما، فهم يوافقون الاتجاه الثاني في أكثر الأمور، وخلافهم هو في التجاذب بين أصلين، والذي أسهبت فيه.

لا تهمني كثيراً الصياغات (سيادة الأمة طريق لتطبيق الشريعة) أو (مع تطبيق الشريعة) أو (هو تطبيق الشريعة) كلها عبارات يمكن أن يعبر عنها الإنسان بمقصود صحيح ويمكن أن يعبر عنها بمقصود خطأ، وهو ما يحدث هذا الاضطراب في تصور الموضوع لدى كثير من الشباب.

لهذا أقول بوضوح: أن أكثر الشباب ليسوا بحاجة لكل هذا النقاش.

لأنهم باختصار: مؤمنون قطعاً بنظام الإسلام حسب التصور الصحيح، فيكفيهم أنه (حكم الإسلام)، يكفي الشاب أن يقرأ آية سورة الأحزاب، فهو في غنى عن كافة هذه التفاصيل، إنما تنفع هذه التفاصيل من أشكلت عليه وبدأت تدخل عليه بعض المضامين المنحرفة بسببها.

فلا تدققوا في الصياغات وفتشوا عن بعض المضامين المنحرفة، فتّش في موقع النظام الإسلامي في هذا النظام العلوي لتعلم أيها أعلى مصدراً وتشريعاً وسلطة.

هذا هو محل النزاع.

حين يتضح ويتجلى، تبدو بقية الأسئلة والصياغات مجرّد دوران حول محور، وستار لتغطية المضامين المشكلة.

1- كيف نضمن تطبيق الشريعة؟

2- ومن الأولى بضمانها الفرد أم المجتمع؟

3- وكيف نواجه الاستبداد والظلم والطغيان؟

4- وكيف نضمن عدم استغلالها؟

الخ..

قائمة طويلة من الأسئلة، هي ذاتها أسئلة تعترضك حين تريد المطالبة بسيادة الأمة بطريقتها العلوية.

فكيف تضمن تطبيق هذه السيادة العلوية؟ وكيف تنتقل إليها؟ وكيف تضمن أن لا تستغل بشكل سيء؟

أسئلة بدهية تأتي على أي نظام، إسلامي أو ليبرالي أو اشتراكي، فمن الطريف أن يكون مشكلاً فقط على النظام الإسلامي فقط فيهرب منه الشاب إلى نظام آخر، وذات المشكلة موجودة أصلاً في كل الأنظمة.

فلا وجود لسيادة مطلقة، الأمة لها سيادة مقيدة، إما أن تقيّد بالمفهوم العلوي هذا، وإما أن تقيد بالمفهوم الإسلامي، وثم تقييدات كثيرة لأنظمة سياسية عدة، أما سيادة مطلقة للأمة، فلا وجود لها في الحقيقة، إنما يختار الناس وفق نظام وآلية وفلسفة.

لهذا تجد إثارة هذه الأسئلة تكمن في السجالات الفكرية على شبكات الانترنت لكنها لا توجد في الكتابات القانونية الرصينة، لأنها تصلح للسجال لا للتحقيق والتدقيق.

إذن هو اتجاه يجمع بين أصلين متناقضين يعملان جميعاً، قد تغلب جهة على جهة بحسب كل شخص.

يقال: سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة.

والحرية قبل تطبيق الشريعة.

إذا كان مجرد وسيلة لتطبيق الشريعة فلا إشكال، والشريعة حق من حقوق الله وحق من حقوق المسلمين الماضين والأحياء والقادمين، فأي طريق تم به استرجاع هذا الحق بلا مفاسد غالبة فهو مقبول، وحينها فتكون الحرية وسيادة الأمة بمفهومها غير الشرعي مجرد مرحلة، وهذا ما يقوله أكثر من يتحدث في هذا الموضوع ولا نزاع معهم.

وإما أن يكون أصلاً دائماً، وطريقاً حاكماً، فتكون السيادة هذه حاكمة على الشريعة، وتكون هذه الحرية حاكمة على الشريعة فهذه هي نظرية النظام العلوي الحاكمة على النظام الإسلامي.

لهذا يقول البعض: الحرية من الإسلام، ثم يقول: الحرية قبل تطبيق أحكام الإسلام، فحكمان متناقضان تماماً، هو أثر من إشكالات التلفيق بين الأصول المتعارضة.

لهذا يقرر البعض هذا الكلام، فإذا قيل له: أنت تعارض أصل التحاكم إلى ما أنزل الله.

قال: حاشا لله وهذا ظلم وبغي وعدوان.

أتدرون لماذا؟

لأن الأمر لديه فيه اشتباك بين أصلين، يحدث مثل هذا الخلل، فهو في الحقيقة يعارض أصل التحاكم وفي نفس الوقت لا يعارضه، فهو نظرياً لا يعارضه ويتبرأ منه، لكنه في الحقيقة يعارضه.

كيف؟

أليس يجعل المطلوب من الناس أن يتحاكموا قبل تطبيق الشريعة إلى طريقة معينة في الاختيار، إن حصلت طبقت الشريعة، وإن فشلت لم تطبق الشريعة حتى ولو كان لديك القدرة والاستطاعة وأمكن بدون أي مفاسد تذكر.

ماذا يسمى هذا؟

تترك الإسلام ولا تحكمه، بل وتسلم الحكم لمن يصادمه ويعارضه وينقضه، ودورك أن تحافظ على النظام وتعطيه المشروعية وتمنع من أي اعتداء عليه، ثم تتعجب ممن يرى أن هذا معارضة لأصل الحكم بما أنزل الله!

هل الحكم بمثل هذا هو حكم بما أنزل الله؟

هل الذي أنزله الله أن تعلّق الشريعة على طريقة معينة مستفادة من فلسفة وضعية معاصرة؟

النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً)).

وهذا يقول لا يجوز أن تخرج، بل هذا نظام صحيح ولا يحق لك أن تغيره ولو أمكنك وبلا أي مفاسد، لأن الشرعية للناس وقد أعطوها لمن يريدون فليس لك خيار!

الشريعة تأمرك أن تحكم بما أنزل الله وأن تقيم شرع الله وأنت تقول يجب أن لا تتعرضوا لهم لأن الأكثرية لم تقبل بذلك حسب النظام العلوي المطبّق.

ومع كل هذا يقول: لا أجيز التحاكم وأتبرأ منه وأنكره، وهو صادق فيما يقول.

فالحقيقة أن ثم تناقض واضطراب وحيرة في الموضوع بسبب هذا الالتصاق بين الالتزام بالنظام الإسلامي وفي نفس الوقت الالتزام بالنظام العلوي.

لهذا، وقع نقاش وخلاف فكري طويل وعميق بين الإسلاميين في مفهوم الديمقراطية- وليس في مجرد المشاركة امتلأت به المكتبة الإسلامية بعشرات الرسائل والبحوث، وكان الإسلاميون فيها على اتجاهين:

الأول: يرفض الديمقراطية لأنه يرى السيادة فيها لغير الشريعة، وبينهم اختلاف في قبول الآليات والأدوات أو رفضها.

الثاني: يقبل الديمقراطية مطلقاً، ويرى أن سيادتها تحت سيادة الشريعة، فسيادة الأكثرية مقيدة بسيادة الشريعة، كما أن سيادة الديمقراطية الغربية مقيدة بالقيم الغربية فكذلك سيادة الديمقراطية في الإسلام مقيدة بالإسلام.

أما الاتجاه الذي يقول نقبل بالديمقراطية حتى على مفهوم السيادة الذي لديها، فمفهوم ما زال ناشئاً ومحدود الوجود في الدراسات المعاصرة، وأكثرية مقولاته هي مقالات مكتوبة أو مقاطع مرئية، وعدد محدود من الدراسات، وحضوره لا يتجاوز السنوات القليلة الماضية، وأكثر خطابه محتمل ويمكن قبوله على حالة الحاجة والسياسة الراجحة، والمرحلة القادمة قد تهيئ لارتفاع صوته أكثر وهي كفيلة لتجلية موقفه تماماً.

هذا هو الاتجاه الثالث الذي نتحدث عنه هنا.

لهذا ذهب عامة العلماء والمؤلفين في النظام السياسي بحرمة السماح للأحزاب المصادمة للدين كالأحزاب العلمانية والليبرالية والشيوعية والإلحادية وأن الحرية السياسية في النظام غير مكفولة لها لأنها تعارض سيادة الشريعة ولا يمكن أن يسمح لها بنقض هذه السيادة، وهو ذات تصوّر الاتجاه الثاني الاتجاه الإسلامي العام، وذهب عدد قليل جداً من الباحثين إلى أن النظام يسمح بكافة الأحزاب ولو كانت شيوعية أو ملحدة أو تتبنى أي رؤية كانت، وهذا هو مضمون الاتجاه الثالث.

كلّ هذه الإطالة لتحرير محلّ النزاع فقط، وثم نقاط كثيرة تثار مع الموضوع، مقصودي الآن وفكرتي المقالة المركزية تحرير محل النزاع حتى يزاح عنه كثير من الأمور الملتصقة به.

والله أعلم.

ولنردد دائماً: اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

فهد بن صالح العجلان

دكتور مشارك في قسم الثقافة الإسلامية في كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض

  • 3
  • 0
  • 5,245

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً