نجوم في فضاء العلوم
ليتنا ننشر سير هؤلاء الأعلام بين النشءِ، ليت إعلامنا الفاسد يصبح أداة مُصلحة تعرض لتراجمهم، وتحمِّس للاقتداء بهم، بدل الترويج للسفهاء وأراذل القوم، الذين أفسدوا الأفكار والأذواق والقيم والمبادئ، ليت تعليمنا يغير سياساته العرجاء، ويستقيم على أصوله؛ لينجب طلابًا يكونون مفخرة للأمَّة.
وأنت تطالعُ تراجم العلماء الأعلام من سلف الأمة الصالح، تلمحُ ذاك التجانس المثير للفخر والإعجاب في تحصيلهم للعلوم بشتَّى مشاربها، وذاك النَّهم الشديد الذي كان يستوطن نفوسًا أبيَّة، لم يخنقها حبل التخصص، ولا حجبَها عن زيارة رياض الفكر والأدب للنَّهل من طيب رياحينِه ما ارتاحتْ له نفوسُهم، وتناغمتْ معه ألبابُهم، بل إنك تكادُ تتميز غيظًا وأنت تُبصر ذاك البَوْن الشاسع بين تحصيلهم الذي بلغ المدى، وتحصيلنا الذي ما جاوز حدَّ أنوفنا.
وإليكم ابن النفيس، ذاك العالم الموسوعي، والطبيب العربي المسلم، الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى، وخلَّف أبحاثًا عظيمة في الطب، ما زال الاعتماد عليها ليومنا هذا، هذا العالم الجليل لم ينحصر همُّه في الطب فحسب، بل نَهَل من شتَّى العلوم الدنيوية والشرعية، فكان له باعٌ في البحث والـتأليف، فأنجب في الطب الموسوعة الطبية الشهيرة (الشامل في الصناعة الطبية)، وفي اللغة (طريق الفصاحة)، وفي المنطق (شرح الهداية لابن سينا)، وفي السيرة النبوية (الرسالة الكاملية)، كما كانت له مصنفات في علم الحديث، والفقه وأصوله، وفي علم الكلام، والفلك والحساب، وها هو الخوارزمي عالم الرياضيات الشهير، يبدع -أيضًا- خارج مجال تخصصه، حيث كانت له إسهامات في علم الفلك والجغرافيا، والعلامة أبو الفرج ابن الجوزي ترك إرثًا علميًّا نفيسًا في علوم شتى، سواء في التفسير أو الحديث أو التاريخ أو اللغة أو الطب أو الفقه، وغيرها من العلوم، وجاء الخبر اليقين أن ابن رشد كان فيلسوفًا وطبيبًا وفلكيًّا وفيزيائيًّا، كما كان فقيهًا متمكنًا، وكتابه (بداية المجتهد، ونهاية المقتصد) خير دليل على ذلك، وورد الأثر عن الإمام الطبري أنه كان محدثًا وفقيهًا ومؤرخًا، قال عنه الإمام الذهبي: "كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاَّمة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك".
أليس مدعاةً للفخر هذا الثراء الفكري الذي دأب عليه سلفنا؟ ألاَ يبعث هذا في نفوسنا جملة من الاستفسارات عن سرِّ هذا التفوق الممزوج بهذا التنوع الجميل؟ ألا تُيَمِّمُ غيرتُنا بوجهها شطر هذا الجانب المشرق من سلفنا، فتقتفي أثره، وتُحيي رميم أمتنا؟
إن هذا التنوع البهيج في التحصيل العلمي والإبداع الفكري، يجعلك تؤمن أن العلوم كلها كانت أسرة واحدة، تحنو على طلابها، وتفتح ذراعيها لكل ابنٍ بارٍّ شاء أن يروي ظمأه الفكري، ويسقي عطشه الروحي، وما أن تقهقرت الأمة حتى تمزقت عروة هذه الأسرة، وتباعد أبناؤها، وهامَ كلٌّ منهم في واديه، دون أن يُلقي بالاً للآخر، بل بِتْنا نشعر أن العلوم صار يناصب بعضها بعضًا العداء، ويكفي أن تلقي نظرة على مناهجنا التعليمية، وعلى مستوى مُدرِّسينا وطلابنا؛ لتقف على ذاك الشَّرخ العميق بين العلوم.
وعودًا على بدءٍ أحبُّ أن أنوِّه بأمرٍ جميل أثارني في سير هؤلاء الأعلام، وهو تركيزهم على تعلم العلوم الدينية، رغم ميولهم العلمية أو الأدبية، بل إنهم لم يكتفوا بالارتشاف منها بضع رشفات، وانبروا يؤلفون في هذه العلوم، ويبدعون فيها ما أفادهم وأفاد أجيالاً بعدهم، بخلافنا نحن، فطالب العلوم البحتة لا علاقة له بالعلوم الشرعية، بل مما يندى له الجبين أن تجد عالمًا مسلمًا أو أستاذًا جامعيًّا في علوم دنيوية لا يكاد يميز سنن الوضوء من فرائضه، ويستفسر في أمور هي من المُسلَّمات والبديهيات الفقهية، وأضحى خوض غِمار العلوم الدينية حكرًا على أهل التخصص الذين حرَّموا على أنفسهم كذلك الدنو من العلوم الدينية واللغوية.
حواجز عقيمة بين العلوم شيدناها بجهلنا وتقاعسنا، فصار طالب العلم يبرح مقاعد الدراسة وقد فقه جزئية من جزئيات العلم، وغابت عنه كلياته، وصار -مثلًا- تدريس القيم والأخلاق مسؤولية مدرس التربية الإسلامية، وتدريس قواعد اللغة وضوابطها من اختصاص أستاذ اللغة العربية، وسائر المواد باتت تدرس باللهجات العامية، دون مراعاة لأيِّ تكامل يفترض أن يكون بين مواد التدريس.
ولعلَّ أهم سبب جعل علماء السلف يبزُغ نجمهم ولا يأفل رغم مرور كل هذه القرون، تعاملُهم الراقي مع العلم الذي امتزج فيه الجانب العقدي بالروحي والوجداني؛ إذ لم تكن نيتهم في التحصيل العلمي والمعرفي الظفر بمنصب دنيوي، بل سَمَتْ نيَّاتهم، فجعلوا طلب العلم ركيزة من ركائز الحياة التي تقوم عليها أمةٌ، هم مسؤولون أمام الله عن رقيها وصلاحها، وغدا طلب العلم فريضة يواظبون على أدائها، ولا يبغون عنها حِوَلًا:
يا طالب العلم لا تبغي به بدلًا فقد ظفرت ورَبِّ اللوح والقلمِ
العلم أشرف مطلوب، وطالبه لله أفضلُ من يمشي على قدمِ
بل إن طلب العلم كان بالنسبة لهم عبادة وقربة من القربات التي يتعبَّدون الله بها، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما تُقرَّب إلى الله بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم".
وقال الإمام الماوردي: "العلم أشرف ما رَغِب فيه الرَّاغب، وأفضلُ ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفعُ ما كسبَهُ واقتناهُ الكاسب؛ لأن شرفه يُثْمر على صاحبه، وفضله ينمي عند طالبه".
ولهذا سَمَت همتهم، فلم يرضوا من غنيمة العلم بالإياب، واقتحموا بكل شغف علومًا شتى، فكانت إبداعاتهم تتسم بالشمولية والموضوعية، ورسخت في الذاكرة العلمية للإنسانية.
ولأنه عبادة؛ فقد كان إخلاص النية في تحصيله ديدنهم، فما ابتغوا به غير وجه الله تعالى، وإن التبستْ نيتهم في بدء تحصيله، فإنهم سرعان ما يعدلون بوصلة قلوبهم صَوْب مَن أغدق عليهم نعمة الفَهْم والفقه، حتى قال مجاهد: "طلبْنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثم رزقنا الله النية بعد"، وبعضهم قال: "طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبَى العلم أن يكون إلا لله".
وهذا الفهم الثاقب لماهية العلم وكُنْهِ التعامل معه ينسجم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: « »، وقوله عليه الصلاة والسلام: « »؛ يعني: ريحها؛ (رواه أحمد، وأبو داود)، واللفظ له، وقال صلى الله عليه وسلم: « »؛ (رواه الترمذي)، وحسنه الألباني، لكن هذا لا يمنع -كما قال العلماء- أن يبتغي المرء من تحصيله للعلوم الدنيوية وظيفة أو مالاً أو مكانة، لكنه إذا أخلص لله تعالى أُثيب بقدر إخلاصه.
وقال الحافظ الذهبي -في كتابه (سير أعلام النبلاء) ج18، ص192:-
"فَمَنْ طلَبَ العِلمَ لِلعَمل، كَسَرَهُ العلمُ، وبَكَى على نفسه، ومَن طلب العلم للمدارس والإفتاء، والفخر والرياء، تَحَامَقَ، واخْتَالَ، وازْدَرَى بالناس، وأهلَكَهُ العُجْبُ، ومَقَتَتْهُ الأنفُسُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]؛ أي: دسَّسَها بالفجور والمعصية"؛ ا.هـ.
فالإخلاص طوق النجاة الذي لاذ به سلفنا الصالح؛ ولهذا بارك الله في سعيهم، فأينعت أشجار علمهم، وأثمرت ثمارًا انتفعت بها أجيال عديدة على مدى أزمنة مديدة، أما نحن فغاية همنا من التحصيل العلمي الظفر بشهادة تُسعفنا في الحصول على وظيفة تعيننا على نوائب الحياة، ثم ننسى بعدها كل علاقة بالدراسة، ونُطلِّق الكتب طلاقًا بائنًا، إلا من رحم ربي.
كما لا يجب أن نغفل طبيعة التنشئة والتربية التي نما بين أحضانها هؤلاء العلماء، والتي كان لها دور مهم جدًّا في بلورة فكرهم، حيث كانت التربية الدينية اللبنة الأساس التي تشيد دعائم الأسرة المسلمة، فكان الطفل ينشأ بدءًا على حفظ كتاب الله، ثم يُعرِّج على كتب الحديث والفقه، ومِن ثَمَّ يطلق العنان للبحث في المجال الذي يستهويه، فينشأ مستقيمًا في علمه وعمله دون عوج ولا أمْتٍ، نافعًا لنفسه ولمجتمعه ولدينه.
ليتنا ننشر سير هؤلاء الأعلام بين النشءِ، ليت إعلامنا الفاسد يصبح أداة مُصلحة تعرض لتراجمهم، وتحمِّس للاقتداء بهم، بدل الترويج للسفهاء وأراذل القوم، الذين أفسدوا الأفكار والأذواق والقيم والمبادئ، ليت تعليمنا يغير سياساته العرجاء، ويستقيم على أصوله؛ لينجب طلابًا يكونون مفخرة للأمَّة، لا عالة عليها، ليتنا نعي هذا الكلام الجميل للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد: "فإن الهمم لتخمد، وإن الرياح لتسكن، وإن النفوس ليعتريها الملل، وينتابها الفتور، وإن سيَر العظماء لمِن أعظم ما يذكي الأُوَار، ويبعث الهمم، ويرتقي بالعقول، ويوحي بالاقتداء، وكم من الناس من أقبل على الجِد، وتداعى إلى العمل، وانبعث إلى معالي الأمور، وترقى في مدارج الكمالات، بسبب حكاية قرأها، أو حادثة رُوِيَت له"؛ مقدمة كتابه (تراجم لتسعة من الأعلام، ص:1).
- التصنيف: