الأحلام في كهوف الماضي الجميل

منذ 2015-02-04

لا يُعرِضُ عن دراسة التاريخ، والاستفادةِ منه حكيمٌ يرجو الانتفاعَ من دروس الماضي في يومه وغده. ودراسة التاريخ القريب أو البعيد تشبه -من بعض وجوهها- حالةَ سائق سيارة لا يهمل النظر في المرآة التي تريه ما وراءه ويُحسن التقدم إلى الأمام، ولا ينشغل بما خلفه انشغالاً يُلهيه عما هو فيه، يودي به إلى كارثة.

يقول الشاعر:

مَنْ لم تُفِدْهُ عِبَراً أيامُه *** كان العمى أولى به مِنَ الهُدى 

ويقول آخر:

ومَن وعى التاريخ في صدره *** أضاف أعماراً إلى عُمْرِهِ 

ولا يُعرِضُ عن دراسة التاريخ، والاستفادةِ منه حكيمٌ يرجو الانتفاعَ من دروس الماضي في يومه وغده. ودراسة التاريخ القريب أو البعيد تشبه -من بعض وجوهها- حالةَ سائق سيارة لا يهمل النظر في المرآة التي تريه ما وراءه ويُحسن التقدم إلى الأمام، ولا ينشغل بما خلفه انشغالاً يُلهيه عما هو فيه، يودي به إلى كارثة.

وأظن أن بعضنا -نحن المسلمين- وقعنا في ما وقع فيه السائق المسكين!

التفتنا إلى الماضي الجميل نعزّي أنفسنا بعزّ الأجداد عن ذل الآباء والأبناء الأحفاد. حتى عكسنا قول الشاعر:

إن الفتى مَنْ يقول: هأنذا *** ليس الفتى من يقول: كان أبي!! 

فأصبح:

ليس الفتى مَنْ يقول: هأنذا *** إن الفتى من يقول: كان أبي!! 

ولا نزال نسمع بعض السّاذجين يردّدون في بعض المجالس: إنّ ما وصل إليه الغرب اليوم من تقدّمٍ علمي، ما كان ليصل إليه لو لم يستفد من عطاء المسلمين في الطب، والهندسة، والكيمياء، والرياضيات .. وما إليها. وينسى هؤلاء المساكين أن العلم والمعرفة تراثٌ بشري إنساني تتوارثه الأمم والشعوب، وليس حكراً على أحد، ونحن اليوم نأخذ ولا نُعطي، بل نحن أعجز من أن نأخذ كما ينبغي لنا أن نأخذ!!

ومن أكبر المصائب -في نظري، والله تعالى أعلم- إحياءُ خلافاتٍ تاريخية وعلمية، غطَّتْها بغبارها القرون، وَبَعْثُ الحياةِ فيها من جديد، والاقتتالُ حولها، والتنازع والفشل المؤدي إلى الضّعْفِ المُزري، والتباغُضِ المحرّم، متذرّعين بتلبيس إبليس علينا: "إننا نحبّ ونكره، ونوالي ونعادي في الله"، وأننا أهل الحقُّ: "وماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟!" ناسين قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا» (صحيح مسلم [54]).

فنحن بدلاً من أن ندرس القرآن الكريم، دراسة عميقةً، ونعيش معه ليخالط أرواحنا وقلوبنا ويظهرَ في سلوكنا وأعمالنا، ونفعلَ كذلك بالسنة المطهرة، نضيعُ أعمارنا بدراسة مذاهبَ فرقٍ بادتْ أصولها وفروعها، لم يَبْقَ لها اليومَ باقية، إلا في قاعات بعض الكليات على أحسن، أو أسوأ الأحوال، وبدلاً مِنْ أن ندرس أسباب تفوّق بعض الأمم علينا، وإذلالها لنا، ونَهْب خيراتنا، وسَفْك دمائنا، وضَرْب بعضنا بعضاً، نُحيي خلافات شجرتْ بين الجيل الأول رضوان الله عليه، ونثير الشكوك والشبهات، ونشتغل بما هو مَضْيَعةٌ للعمر، وربما الأجر؛ والله أعلم، إن لم يكن جالباً للوزر، ونسوّد الصفحات التي تسوّد الوجوه، نوزع مجاناً الكتب التي تعمّق هذا الخطر، وتشغل الناس عن الفرائض الفوارغ، نبتغي بذلك وجه الله! إنها لمصيبة من أعظم المصائب، لا يجوز لمقتدر على دفعها أن يَقْعد عن ذلك.

حتى الكثيرين من طلبة العلم الشرعي عندنا لا يشتغلون بالأصول ويقدّمون الأهم على (المهمّ)، بل تحاول كل فرقة منهم أن تعيش مع كتب أئمتها وعلمائها، تفصِّل الواقع الحاضر على الماضي الغابر.

يقول بشير شكيب الجابري -المتخصص في الصيدلة- في كتابه: (القيادة التغيير) تحت عنوان: أحلام الماضي الزاهر، وهو يتحدث عن العوائق الثقافية للتغيير: "لعل من أخطر المقاومات للتغيير العيش على أحلام الماضي الزاهر؛ فالأمة التي تعيش في الماضي، تفعل هذا لكي تحسّ بالاطمئنان والأمان. أنها توحي على نفسها بأنها بخير، لأنها كانت كذلك يوماً ما، وتنسى العناصر التي كانت سبباً في هذا الخير، فكأنها تشم الرائحة، ولا تذوق الطعم".

"وهذه الغيبوبة قد يطول مداها حتى تصبح مخدراً، وتصبح عملية الإيقاظ أشد صعوبة من استرجاع مُدْمن المخدرات. وفي هذه المشابهة عنصر مفيد نقف عنده: فنحن نعلم من علم العقاقير أن النيكوتين، والكوكائين، وما شابهها، من الشبه قلويات المخدرة تلتصق على مستقبلات داخل الخلية أولاً، ثم عندما تنتهي من إغلاق جميع هذه المستقبلات الداخلية، تلتصق على مستقبلات خارج الخلية، فإذا توقف الإنسان عن تعاطي هذه المواد بدأت تنفكّ عن المستقبلات الخارجية، فإذا فرغت هذه المستقبلات الخارجية أحس الإنسان بجوع رهيب إلى هذه المواد حتى تستكمل عملية التنظيف الداخلية أيضاً، لذا يُعطى جرعات مخففة، أو مواد أخرى تتغشى المستقبلات".

"وكم من الشركات الكبرى أحبطت عمليةَ التغيير فيها هذه المقاومة: الاطمئنان المرتكز على النجاحات السابقة؛ فإذا جاء من يدعوها إلى التغيير، لم تستطع أن تفهم هذه الدعوة، ولا الحاجة إليها، وهي كانت -حتى عهد قريب- متفوقة متقدمة .. ما الذي جرى؟ ولماذا؟.

وتكثر الأسئلة، ويزداد الاستغراب حتى يصل الإنسان إلى الرغبة في التوقف عن التفكير، وإغلاق أحاسيسه، ليحافظ على جمال الصورة السابقة، فيصبح بذلك غير جاهز لعملية التغيير التي تحتاج إلى:

1- وعي.
2- ورغبة.
3- وجهد".

فأين الوعي؟ وأين الرغبة؟ وأين الجهد؟ وإلى الله المشتكى!

أحمد البراء الأميري

دكتوراة في الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 0
  • 0
  • 1,506

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً