الموت العذب!

منذ 2015-02-08

يستعذب المؤمن الموت حين يزود عن حياضه فلا يرضى الضيم ولا يقبل الهوان، قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».

أوردت جريدة (الحياة) اللندنية (الثلاثاء 26/11/2013) خبر: "عُثر على جثماني زوجين مسنين جديدين في العاصمة الفرنسية باريس، وذلك بعد أربعة أيام من انتحار زوجين آخرين في الثمانين من عمرهما داخل أحد الفنادق".

وأشارت صحيفة (لو باريزيان) الفرنسية اليوم (الثلاثاء) إلى: "أنه عثر على جثماني الزوجين البالغين من العمر 84 و81 عاماً أمس –الاثنين- في منزلهما، من قبل العاملة في المكان التي قالت إنهما تركا ورقة على باب حجرتهما أبلغاها فيها بأنها ستجدهما متوفين"، وكانت الصحيفة كشفت أمس عن مصرع مسنين في الـ(86) من عمرهما الجمعة الماضي وهما متشابكي الأيدي، على فراش في فندق في وسط باريس، وإلى جوارهما خطاب يؤكدان فيه على حقهما في (موت عذب)!

تلك هي الحضارة الغربية المادية بمرها الذي يحاول بعض المفتونين التغاضي عنه، وتلك هي حال الإنسان عندما يفتقد الهدى الرباني والدليل الإيماني، فيتخبط في ظلمات الضلال وهوس الأفكار الشاذة، حيث يستعذب الموت الذي سماه الله تعالى مصيبة: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة من الآية:106]، وأن له غمرات وسكرات: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام من الآية:93]، {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، وأن الموت (مُر) تفر منه النفوس حيث لا مفر {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].

إن عشت تفجع بالأحبة كلهم *** ولفقد نفسك لا أبالك أفجع

أخرج ابن عساكر أن عمرو بن العاص كان يقول: "عجباً لمن ينزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به ذكره ابنه عبد الله، وقال: صفه لنا، قال: الموت أجل من أن يوصف لكني سأصف لك منه شيئاً، كأن على عنقي جبال رضوى، وفي جوفي الشوك، وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة".

وخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يتمنَّى أحدُكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يَستَعتِب»، وفي لفظ مسلم: «لا يتمنَّى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عملُه، وإنه لا يزيد المؤمنَ عُمُرُه إلا خيرًا»، ومعنى: «يَستَعتِب»؛ أي: يسترضي الله بالإقلاع والاستغفار، وقيل: «يَستَعتِب»؛ أي: يرجع عن موجب العتب عليه؛ أي: يرجع عن الإساءة.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا» (متفق عليه). ‌

الموت العذب.. المؤمن يستعذب الموت في مواطن الجهاد، حيث نصرة الدين وإعلاء كلمة رب العالمين، مواطن التضحية والفداء التي تبذل فيها الدماء رخيصة من أجل حياة الأمة كلها.

يجودُ بالنَّفسِ أّنْ ضنَّ الجبانُ بها *** والجودُ بالنَّفس أقْصَى غايةُ الجُودِ

روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل في سبيل الله من نفسه صادقًا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد» (رواه أحمد).

قال ابن تيمية عن الجهاد: "لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها، مثل ما ورد فيه فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره، في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة".

كما يستعذب المؤمن نزول الموت عند خوف الفتنة إيثارًا للتمسك بالعقيدة الصحيحة والمبادئ النبيلة، وانظر كيف أتحف الله بلطفه سحرة فرعون حيث ثبتهم فاختاروا الموت على الكفر، حين قال فرعون لأقطعن أيديكم {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء:50]

ويستعذب المؤمن الموت حين يزود عن حياضه فلا يرضى الضيم ولا يقبل الهوان، قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (رواه أحمد)، وفي رواية: «من أتي عند ماله فقوتل فقاتل فقتل فهو شهيد» (ابن ماجة)، وفي رواية: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد» (صحيح الجامع:6011)، وفي رواية: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» (صحيح الجامع:6447).

قال ابن جرير: "هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلماً في قتال ظالمه، والحث عليه كائناً من كان لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب، فتركه من ترك النهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً".

ويستعذب المؤمن نزول الموت رضا بقضاء الله وقدرة، صابرًا محتسبًا، دون تسخط ولا تذمر..
قال صلى الله عليه وسلم: «خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد: المقتول في سبيل الله شهيد، والغريق في سبيل الله شهيد، والمبطون في سبيل الله شهيد، والمطعون في سبيل الله شهيد، والنفساء في سبيل الله شهيدة» (رواه النسائي).

وفي رواية: «الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المقتول في سبيل الله شهيد، والمطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة» (رواه أبو داود)، قوله: «وصاحب ذات الجنب»، مرض حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع.

قال ابن الأثير: "ذو الجنب الذي يشتكي جنبه لسبب الدبيلة ونحوها، إلا أن ذو للمذكر وذات للمؤنث، وصارت ذات الجنب علماً لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة، وقوله «والمرأة تموت بجمع»، أي تموت وفي بطنها ولد أو تموت من الولادة يقال ماتت بجمع أي حاملاً أو غير مطموثة".

وقال صلى الله عليه وسلم: «الطاعون كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد» (البخاري). قال ابن حجر: "ويؤخذ منه أن من لم يتصف بذلك لا يكون شهيداً وإن مات بالطاعون، وذلك ينشأ من شؤم الاعتراض الناشئ عن الضجر والسخط للقدر".

اللهم خفِّف علينا الموت وسكرته، وأَمِتْنا على دين نبيِّك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم غيرَ خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 11,439

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً