ألوان من العقوق

منذ 2015-02-16

ثم أوجه هذه النصيحة إلى الآباء والأمهات، حتى لا يذوقوا غداً العقوق من أبنائهم، أقول: ربوا أبناءكم على تعاليم الإسلام، وأؤكد على الصلاة، فإنه من يربي أبناءه من الصغر على الصلاة، وبناته على الحشمة وعلى الحجاب فإن الصلاة والقرآن كفيلةُ بأن تصلحهم، وأن تهذب أخلاقهم.

الخطبة الأولى:

الحمد لله على إحسانه، الحمد لله كما ينبغي لعظيم وجهه وسلطانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله كما وصاكم بذلك الله، فقال جل في علاه:

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)

(يا أيها الناس اتقوا الله وقولوا قولا سديدا )

ثم اعلموا أن خير الكلام......

إخوة الإيمان، لا زالت قلوب كثير من الآباء والأمهات تئن من عقوق أبنائهم، ولا زالت عيونهم تدمع ألماً وقهراً من جرم أبنائهم، عقوق وقطيعة يندى الجبين لها، وتقشعر الأبدان عند سماعها، بل إن العقل ليكاد ينكرها لبشاعتها

غدوتك مولوداً وعلتك يافعاً *** تُعَل بما أدني إليك وتُنهل

إذا ليلةٌ نابتك بالسقم لم أبت *** لذكرك إلا ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي *** طرقت به دوني وعيني تُهمِل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها *** لتعلم أن الموت حتمٌ مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي *** إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي منك سوءً وغلظةً *** كأنك أنت المنعم المتفضل

وسميتني باسم المفند رأيه *** وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل

تراه معداً للخلاف كأنه *** برد على أهل الصواب موكل

فليتك إذا لم ترع حق أبوتي *** فعلت كما الجار المجاور يفعل

فأوليتني حق الجوار ولم تكن *** علي بمالي دون مالك تبخل

أمسلمٌ تربى على الإسلام يعق والديه؟!! إنها جريمة كبرى ورزيةٌ عظمى، ألم يجعل الله حق الوالدين في القرآن بعد حقه - سبحانه -؟، فقال - سبحانه -: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وأمرنا الله بشكرهما بعد شكره - سبحانه -، فقال - عز وجل -: أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وقد سُأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين)، فأولاً: الصلاة على وقتها، هذا حق الله، ثم بر الوالدين.

ثم إن الله - سبحانه وتعالى - حرّم الإساءة إليهما ولو بكلمة أف، هذا في حق من يقضي حاجتهما لكن بتأفف، بتضجر يقضي حاجتهما، لكن بضيق صدر وعبوس وجه، فهذا من العقوق، فكيف بمن يرفض قضاء حاجتهما أصلاً؟! فالأمر أشد، بل كيف بمن يقطعهما البتة؟ بل كيف بمن يشتمهما؟ بل كيف بمن يضربهما؟!! نعم والله، إن من القلوب من هي أشد قسوة من الحجارة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار.

بعضهم يعتقد أنه ما دام الأب سيء الخلق فيستحق أن يُعامل بالمثل، ونقول والله لو كانا أبواك مشركين كافرين لما جاز لك عقوقهما، ولوجب عليك مصاحبتهما بالمعروف، ألم يقل - سبحانه -:وإن جاهداك على أن تشرك بما ليس لك به علم فلا تطعهما) إن أمراك بالشرك، إن أمراك بالكفر فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا، هذا في حق الأبوين المشركين، فكيف بأبويك المسلمين؟!

قضى الله أن لا تعبدوا غيره حتما *** فيا ويح شخص غير خالقه أمّا

وأوصاكمُ بالوالدين فبالغوا *** ببرهما فالأجر في ذلك والرحما

فكم بذلا من رأفةٍ ولطافةٍ *** وكم منحا وقت احتياجك من نعما

وأمك كم باتت بثقلك تشتكي *** تواصل مما شقها البؤس والغما

وفي الوضع كم قاست وعند ودادها *** مُشقاً يذيب الجلد واللحم والعظما

وكم سهرت وجداً عليك جفونها *** وأكبادها لهفاً بجمر الأسى تحما

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** حنواً وإشفاقاً وأكثرت الضما

فضيعتها لما أسنت جهالةً *** وضقت بها ذرعاً وذوقتها سما

وبت قرير العين ريان ناعماً *** مكباً على اللذات لا تسمع اللوما

وأمك في جوعٍ شديدٍ وغربةٍ *** تلين لها مما بها الصخرة الصماء

أهذا جزاها بعد طول عنائها *** لأنت لذو جهل وأنت إذاً أعمى

وما أشد العقوق وما أبشعه حينما يكون الأبوان في حال كبرهما وضعفهما أشد ما يكونان حاجةً إليك، فتتخلى عنهما وتنسى جميلهما، بعضهم يُقدّم زوجته على أمه، وآخر تغره وظيفته ومنصبه، وآخر يطغيه ماله ومرتبه، وآخر يرسلهما إلى دار العجزة والمسنين، وآخر يصلهما لكن بتضجر وكأنه ينتظر بفارغ الصبر ساعة موتهما، ألوانٌ من العقوق وصنوف من الواقع في الجحود، ويل هؤلاء من رب العالمين، ويلهم من الله، لماذا يعيش هؤلاء؟ أي خيرٍ يريدونه وأي رحمةً يرجونها؟! وأي بركة في حياتهم ينتظرونها؟!! ليس لهم إلا السخط والغضب من رب العالمين، ألم يقل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن سخط الرب في سخط الوالد وإن رضا الرب في رضا الوالد) إنهم لو صدقوا في طلب مرضاة الله ورحمته لوجدوها في بر الوالدين.

جاء رجلٌ يريد الغزو، جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه، فقال له الرسول - عليه الصلاة والسلام -: (هل لك من أم؟ قال نعم، قال: فالزمها فإن الجنة عند رجلها) رواه أحمد.

وقد أكد الله على بر الوالدين حال ضعفهما وكبرهما، فقال - سبحانه - :إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح.... الخ الآية.

وقال - عليه الصلاة والسلام -: (رغِم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم، والمعنى أن من أدرك والديه أو أحدهما عند الكبر ولم يبر بهما لم يدخل الجنة، ورغم أنفه، أي وأنفه لصقُ بالتراب من الذل، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المتفق عليه: (لا يدخل الجنة قاطع).

أيها العاق أراك لو أحسن إليك حيوان مرةً واحدة لما نسيت الجميل فكيف بأمك وأبيك وقد أحسنا إليك الدهر كله؟!

ما أعجب حنان الأم؟ ما هذه الرحمة التي في قلبها؟ ترى ابنها يعقها ويقطعها ولا تريد أن تدعو عليه، إن الرحمة التي في قلبها تنسيها مرارة العقوق وآلام القطيعة، إنها أمه لا تزال تحبه وترجو له الهداية، وتطمع في ذلك ولا تيأس.

أعرف رجلاً قطع أمه ما يقارب الثلاثين عاماً، ثلاثون عاماً لم يسافر إليها لزيارتها يا عباد الله، مع قدرته، ما منعه إلا الكبر، ومع ذلك لما جاءت ساعة وفاتها، أرسلت إليه تريد أن تراه، وتستأنس بلقياه قبل أن تفارق الدنيا، رحماك يا الله بها، وبجميع الأمهات الأحياء منهن والأموات.

لأمك حق لو علمت كبير *** كثيرك يا هذا لديه يسير

فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي *** لها من جواها أنةٌ وزفير

وفي الوضع لو تدري عليك مشقةٌ *** فكم غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** ومن ثدييها شربٌ لديك نمير

وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها *** حنواً وإشفاقاً وأنت صغير

فضيعتها لما أسنت جهالةً *** وطال عليك الأمر وهو قصير

فآهٍ لذي عقل ويتبع الهوى *** وواهاً لأعمى القلب وهو بصير

فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعو إليه فقير

ذكر الشيخ الدكتور المطلق في إذاعة القرآن الكريم هذه القصة القصيرة المؤثرة، أن رجلاً تزوج بامرأةٍ وسرعان ما نشبت الخلافات بين أمه وزوجته، ودامت هذه المشاكل كثيراً، فلما يئس من حلها وقطع الأمل في إصلاحها قرر أن يذهب بأمه إلى شعب فيه ذئاب كي تأكلها الذئاب ويستريح من أمه، فأخذ أمه وذهب بها حتى أتى الشعاب فوضعها ثم مضى، وفي الطريق أفاق من غفلته وأدرك فداحة عمله وقبيح جرمه، فعاد إلى أمه مسرعاً، ولكن متنكراً متلثماً، فلما رأته أمه ولم تعرفه قالت له: يا أخي، أرجوك أدرك ولدي، ذهب من هذا الطريق، إني أخاف عليه من الذئاب.

لا إله إلا الله، ما هذا الحنان، وما هذه الرحمة، وما هذا الذي يُقابله من العقوق والإجرام؟!

فلا تطع زوجةً في قطع والدة *** عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا

فكيف تنكر أماً ثقلك احتملت *** وقد تمرغت في أحشائها شهرا

وعالجت بك أوجاع النفاس وكم *** سرت لما رأت مولودها ذكرا

وأرضعتك إلى حولين كاملةً *** في حجرها تستقي من ثديها الدررا

ومنك ينجسها ما أنت راضعه *** منها ولا تشتكي نتناً ولا قذراً

وعاملتك بإحسانٍ وتربيةٍ *** حتى استويت وحتى صرت كيف ترى

فلا تفضل عليها زوجةً أبداً *** ولا تدع قلبها بالقهر منكسرا

والوالد الأصل لا تنكر لتربيةٍ *** واحفظه لا سيما إن أدرك الكبرا

أنسيت تلك الأيام، يوم كنت ترفس في بطنها، أنسيت تلك الليالي يوم كنت تُسهرها وترهقها، لأجلك أنت أمك لم تذق مناماً، ولم تستسغ طعاماً، تبكي لآلامك، وتحزن لبكائك، تضمك إلى صدرها، وترضعك من ثديها، وتحمل أذاك بديها، وذلك الأب كما جاع لتشبع أنت، وكم تعب لتستريح أنت، ما جمع المال إلا لك، وما أفنى عمره إلا ليبني مستقبلك، يعمل ولا يكل ولا يمل، حتى احدودب الظهر ورق العظم وشاب الرأس، أما آن لهذا الفارس أن يترجل ويستريح؟ ثم بعد ذلك تنسى جميلهما، وتنكر فضلهما.

أيها المسلمون، ولعلي أشير إلى ألوانٍ من العقوق يغفل عنها الكثير:

أن تجعل زوجتك بجوارك في السيارة، وأمك في الخلف، هذا عقوق، أن تصعد في سلم الدرج وأبوك خلفك هذا عقوق، أن يجوع أبوك يوماً وأنت لا تدري عنه عقوق، أن تمرض أمك ولا تجد ثمن الدواء وأنت غافلٌ عنها هذا عقوق، رفع الصوت عندهما عقوق، أن تبخل على والديك بجزء من مرتبك مع قدرتك وحاجتهما عقوق، الإبطاء والتأخر في زيارتهما عقوق.

أيها المسلمون، كم من أمٍ عجوز، وكم من أب شيخ هرم، أصبحوا رهائن بيوتٍ لا يزارون وأسرى جدران وسرر لا يُذكرون، لا يُسأل عنهم ولا يعطف عليهم، لقد تنكر لهم أبناء هذا الجيل إلا من رحم الله، تتحدث الأم العجوز فلا أحد يلتفت إليها من أبنائها، ولا يصغون إليها، لماذا، قالوا: إنها عجوز ثرثارة كثيرة الكلام، ويتحدث الأب الهرم فلا يُستمع إليه ولا يبالى به، لماذا؟ قالوا: إنه شيخ خرف لا يدري ماذا يقول، هذا عقوق والله، وكان الواجب إن تكلمت أمك أن تصغي إليها وتظهر إعجابك بحديثها، وإن تكلم أبوك أقبلت عليه وأبديت سروراً وانبساطاً بالحديث معه.

أيها المسلمون، ولعظم حق الوالدين جعل الله دعوة الوالد على ولده مستجابة، فالحذر كل الحذر.

هذا والد له ولد منحرف، فكان أبوه كثيراً ما ينصحه، فضجر الابن يوماً فرفع يده وضرب أباه، فأقسم الأب بالله ليأتين إلى بيت الله الحرام، وليدعون على ابنه عند الكعبة، فلما وصل الحرم، تعلق بأستار الكعبة، وأخذ يدعو على ولده أن يصيبه الله بالشلل، فما استتم كلامه إلا وقد استجاب الله دعاءه، فأصيب ابنه بشلل نصفي، حتى أنه لم يستطع معه الكلام. قال - عليه الصلاة والسلام -: (ثلاث دعوات مستجاباتٍ لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم) حديث حسن.

أيها المسلمون، ولأن عقوق الوالدين ظلمٌ عظيم، فإن الله يعجل بعقوبة العاق في الدنيا قبل الآخر، قال - عليه الصلاة والسلام -: (كل الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات) وإليكم هذه القصة الواقعية المؤلمة:

رجل خلّف ثلاثة أبناء، جمع الأموال، وبنا العمارات، وزوّج أبناءه الثلاثة من ثلاث أخوات، وكبر الأب، وماتت زوجته، فسكن مع أبنائه حتى بلغ من الكبر عتياً، ورد إلى أرذل العمر، وأصبح لا يعلم من بعد علمٍ شيئاً، فأبدت البنات حينها تضجراً وتذمراً من أبيهم، من أبي أزواجهم، وبعد إلحاح من الزوجات قرر الأبناء أن يذهبوا بأبيهم إلى الملجأ وهناك أخبروا المدير أنهما وجدوه في الطريق وأنه تبين لهم، أنه معتوه، فأتوا به إلى الملجأ يبتغون الأجر من الله، فشكرهم المدير على فعلهم الجميل، ولما خرجوا من الملجأ قالوا للحارس: إذا مات ذلك الشخص فاتصل بنا فنحن سنتبرع بأمور كفنه ودفنه لوجه الله، وعرضوا عليه جزءاً من المال إن هو اتصل بهم، وفي مساء ذلك اليوم أخذا الأب المسكين ينادي زوجات أبنائه: يا فلانة، يا فلانة، هاتوا الإبريق لأتوضأ، فقال له رجل بجواره: من فلانة هذه، إنك في ملجأ المسنين، وهنا أفاق الرجل ورد الله إليه عقله، فأخذ يسأل: من أتى بي إلى هذا المكان؟ فقيل له: ثلاث رجال شهامٍ كرام، فلما عرف صفاتهم، قال: هؤلاء أبنائي، ثم طلب اللقاء مع مدير الملجأ، ثم تبرع للملجأ بجميع ما يملك من عقارات وعمارات، وأحضر مدير التسجيل؛ لأنه رفض أن يخرج من الملجأ إلا ميتاً، وصُدّق على الأوراق، واشترط أن يخرج جميع الساكنون من عماراته ولو عرضوا دفع الإيجار، ثم ما لبث الرجل أن مات بعدها بيومين، إذ لم يحتمل الصدمة، وسمعه جيرانه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: اللهم اشهد إني غاضبٌ عليهم، اللهم كما حرمتهم من نعيم الدنيا فاحرمهما من نعيم الآخرة، اللهم لا ترني وجوههم في الآخرة إلا وهي ملتهبة بالنيران، اللهم، اللهم. حتى فارق الحياة.

اتصل الحارس بالأبناء، فجاءوا مُسرعين، وبعد أن دفنوه عادوا فرحين كي يتقاسموا الإرث، فإذا بالشرطة قد سبقتهم تبلغهم بمغادرة الشقق؛ لأنها أصبحت في ملك الملجأ، فلما تحققوا من الأمر طلبوا البقاء على أن يدفعوا الأجرة، فقالت الشرطة: هناك شرط بعدم البقاء ولو دفعتم مليونا، فنظر الرجال والنساء لبعضهم نادمين كلٌ يلقي اللوم على الآخر، وأُخرجوا وقد خسروا دنياهم، وأما جزاءهم في الآخرة فعلمها عند ربي.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل لذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حق حمده، والشكر له حق شكره، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فلعل تائبٌ من العقوق أن يسأل: وكيف أؤدي حق والدي؟ ونقول: لن تستطيع ولكن اتق الله فيهما، وسيجازيك الله على القليل كثيراً.

هذا رجل جاء بأمه من خراسان إلى مكة وهي على ظهره، وقضى بها المناسك من طوافٍ وسعي إلى غير ذلك وهي على ظهره، هل ترون أيها المسلمون صورةً للبر والرحمة أعظم من هذه؟ ومع ذلك رأى هذا الرجل الصحابي الجليل عبد الله بن عمر فسأله وقال له: (حملتُ أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها، قال: لا، ولا طلقة من طلقاتها، ولكن أحسنت وسيثيبك الله على القليل كثيراً).

وهذه أمٌ عجوز لا تستطيع قضاء حاجتها إلا على ظهر ابنها، لا تستطيع أن تخرج الأذى منها إلا على ظهر ابنها، وكان ابنها يصرف وجهه عنها ويحملها على ظهره ثم يزيل عنها الأذى ويوضئها بيده، فجاء إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له: هل تراني يا أمير المؤمنين أديت حق أمي؟ فقال عمر: لا، قال الرجل: أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها، فقال عمر: إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاؤك، وأنت تصنع ذلك بها وتتمنى فراقها، فهل يستوون يا عباد الله؟

 

قال - عليه الصلاة والسلام -: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه.

ثم هذه قصيدة في حنان الأم لم أر قصيدة أروع منها، فقد وفق الشاعر أيما توفيق، وهي مؤثرة للغاية، وهي قصيدة تعبيرية تصويرية ليست حقيقية، لكنها والله معبرة:

قال الشاعر:

أغرى امرؤٌ يوماً غلاماً جاهلاً *** بنقوده كي ما ينال به الضرر

رجل عنده مال، أغرى طفلاً صغيراً بنقوده، كي ما ينال به الضرر.

قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى *** ولك الدراهم والجواهر والدرر

قال يعني اذبح أمك واعطني قلبها ولك الدراهم والجواهر والدرر.

فمضى (مضى هذا الطفل)

فمضى وأغرز خنجراً في صدرها *** والقلب أخرجه وعاد على الأثر

لكنه من فرط سرعته هوى *** فتدحرج القلب المقطع إذ عثر

سقط القلب من يد الابن وهو يركض بسرعة.

ناداه قلب الأم وهو معفرٌ (بالتراب والدم)

ناداه قلب الأم وهو معفر *** ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟!

فكأن هذا الصوت رغم حنوه (رغم أنه رقيق)

فكأن هذا الصوت رغم حنوه *** غضب السماء على الغلام قد انهمر

فارتد نحو القلب يغسله بما *** فاضت به عيناه من دمع العبر

حزناً وأدرك سوء فعلته التي *** لم يأتها أحدٌ سواه من البشر

لقد فاق من غفلته وندم، وقرر أن يقتل نفسه بنفس الخنجر:

واستل خنجره ليطعن نفسه طعناً *** فيبقى عبرةً لمن اعتبر

ويقول: يا قلب، ينادي قلب أمه:

ويقول يا قلب انتقم مني *** ولا تغفر فإن جريمتي لا تغتفر

ناده قلب الأم كف يداً *** ولا تذبح فؤادي مرتين على الأثر

زر والديك وقف على قبريهما *** فكأنني بك قد نُقلت إليهما

ما كان ذنبهما إليك فطالما *** منحاك محض الود من نفسيهما

كانا إذا ما أبصرا بك علةً *** جزعا لما تشكوه شق عليهما

كانا إذا سمعا أنينك أسبلا *** دمعيهما أسفاً على خديهما

وتمنيا لو صادفا لك راحةً *** بجميع ما يحويه ملك يديهما

أنسيت حقهما عشية أسكنا *** دار البلا وسكنت في داريهما

فلتلحقن بهما غداً أو بعده *** حتماً كما لحقاهما أبويهما

ثم أوجه هذه النصيحة إلى الآباء والأمهات، حتى لا يذوقوا غداً العقوق من أبنائهم، أقول: ربوا أبناءكم على تعاليم الإسلام، وأؤكد على الصلاة، فإنه من يربي أبناءه من الصغر على الصلاة، وبناته على الحشمة وعلى الحجاب فإن الصلاة والقرآن كفيلةُ بأن تصلحهم، وأن تهذب أخلاقهم.

نسأل الله - جل وعلا - أن يصلح أبناء المسلمين.

نسأل الله - جل وعلا - أن يردهم إليه مرداً جميلاً.

عبد العزيز الحكمي

قارئ وداع إلى الله من أرض الجزيرة العربية

  • 5
  • 0
  • 12,544

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً