بر الوالدين من الإيمان
فقد وفَّرت المجتمعات الغربيَّة لأصحابها الرفاهية، والمتعة، والطعام، والشراب، ولكنها دمرت الإنسانيَّة، والطمأنينة الاجتماعيَّة، والأمان، وسائر القِيَم الأخلاقيَّة، فقد قطعت الأرحام، وما عرفت للوالدين حقًّا، ولا فضلاً، بل سنَّت لهم سُنَّة أن يلقوا في دُور المسنين حتى يتوفَّاهم الله، ولا مانع من أن يتصل بهم أبناؤهم في المناسبات، أو يرسلوا إليهم برقيَّات تهنئة!
ما أروعَ الحياةَ في رحاب الإسلام! حيث الطريق الصحيح الذي ينير للمسلم دنياه، ويحفظه من عذاب النار في أُخراه، هذا الطريق يسلكه من عَمَّر الإيمان قلبه؛ فإن الإيمان هو جوهر الدين، والعقيدة الصحيحة هي قاعدته السليمة التي ينهض عليها، وهي الدافع القوي إلى العمل الصالح، والانحراف عن العقيدة الصحيحة مهلكة، وضياع، والفرد بلا عقيدة ربَّانيَّة يكون فريسة للأوهام، والشكوك، التي ربَّما تتراكم فتحجب عنه الرؤية الصحيحة لدروب الحياة، ورسالته فيها، والمجتمع الذي لا تسوده عقيدة ربَّانيَّة هو مجتمع بهيمي، وحشي، همجي، يفقد كلَّ مقومات السعادة، والطمأنينة، وإن كان يملك كلَّ مقومات الحياة الماديَّة، والتي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار، والانحلال الاجتماعي، والأخلاقي، كما هو مشاهد في بعض المجتمعات الغربيَّة، التي تملك قوة ماديَّة، ولا تملك عقيدة إيمانيَّة صحيحة.
رفاهية بلا دين، لا قيمة لها:
فقد وفَّرت المجتمعات الغربيَّة لأصحابها الرفاهية، والمتعة، والطعام، والشراب، ولكنها دمرت الإنسانيَّة، والطمأنينة الاجتماعيَّة، والأمان، وسائر القِيَم الأخلاقيَّة، فقد قطعت الأرحام، وما عرفت للوالدين حقًّا، ولا فضلاً، بل سنَّت لهم سُنَّة أن يلقوا في دُور المسنين حتى يتوفَّاهم الله، ولا مانع من أن يتصل بهم أبناؤهم في المناسبات، أو يرسلوا إليهم برقيَّات تهنئة!
من هنا، وفي صراعات هذا العصر الذي يُغرق حياة المسلم بالمسائل التافهة من لهوِ الحياة، ولغوها، ليس هناك من عمل أنفع، وأشرف من أن يتعلَّم الإنسان أمورَ دينه، وأركان إيمانه، ومقتضياته، وأن يتعرَّف على معاني، ومزالق الكُفْر، والضلال، ويحترس منها، ويعلِّمها غيره من إخوانه المسلمين.
بر الوالدين قرين توحيد الله، وعقوقهما قرين الشرك بالله:
لا بد أن نعلم أن الله - عز وجل - قد حثَّنا على طاعة الوالدين، وقرنها بتوحيده – سبحانه -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23 - 24]. ولقد قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقوق الوالدين بالشرك بالله حيث قال: ((إن من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس؛ وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة)) أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي، وابن حِبَّان في صحيحه.
التأدب مع الوالدين ولو كانا كافرين:
حتى لو وصل الأمر بالوالدين إلى الكفر، فلا بد من الأدب معهما، ومصاحبتهما في الدنيا بالمعروف، كما قال ربنا - جل وعلا -: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت: 8] (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان: 15] فلا بد إذًا من الأدب معهما في كل الأحوال، حتى لو وصل الحال إلى الكفر، والشرك، فلهما حقُّ البرِّ، والمصاحبة.
لنا في خليل الرحمن قدوة:
ولنا في أبينا خليل الرحمن – إبراهيم عليه السلام - القدوة الحسنة، إذ ابتلي في أبيه الذي كان يصنع الأصنام، فماذا فعل معه؟ وكيف دعاه؟ يقول الله - عز وجل - في كتابه عن هذا الموقف العصيب: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)[مريم: 41 - 47]. هكذا ظلَّ الخليل إبراهيم - عليه السلام - يدعو والده بكل أدبٍ، واحترام، وودٍّ، واختار أفضل، وأرق الأساليب (يَا أَبَتِ)؛ كي يستميل قلب أبيه، ويدعوه بالحسنى، ولكن أباه أبى، واستكبر، فماذا قال له؟ قال: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)[مريم: 47].
بر الوالدين أولى من الجهاد:
نعلم جميعًا قصة الصحابي الذي جاء إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فقال: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ارجع ففيهما فجاهد)). هكذا يعلمنا الحبيب - عليه السلام - قيمة بِرِّ الوالدين، بل يجعله أهم من الرِّباط، والجهاد في سبيل الله، وهذا بالطبع إذا لم يتعيَّن عليه الجهاد بأن كان جهاد تطوُّع.
عيد الأم في الإسلام كل يوم:
لم يُغفِل الإسلام قيمةَ الأم، ولم يقتصر في تكريمها على أن يجعل لها يومًا فقط في العام يُحتفل به، بل جعل عيدها في كلِّ الأيام، حيث قال لأحد أصحابه: ((الزم قدميها، فثمَّ الجنة)). وعندما سأله أحد أصحابه قائلاً: من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) قال: ثم مَن؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) أهناك إكرام أعرق، وأشرف من هذا الإكرام؟! كلاَّ إنه الإسلام الذي احترم الإنسان صغيرًا، وكبيرًا، وصانه، وعرف حقوقه.
بر الوالدين سبب إجابة الدعاء:
نعلم جميعًا قصة أصحاب الصخرة، الثلاثة الذين دخلوا غارًا فوقعت صخرة على بابه فأغلقته، فتوسَّل كلٌّ منهم بأحب الأعمال إلى الله، وكان منهم من توسَّل ببرِّه لوالديه، حيث كان له أبوان كبيران، وكان يرعى غنمه، ويذهب إليهما باللبن؛ كي يتناولا عشاءهما، فذهب إليهما ذات مرة فوجدهما نائمين، فظل يحمل إناء اللبن على يديه، وأولاده تحت قدميه يتضورون جوعًا، ولم يرد أن يزعج والديه حتى استيقظا، فتقرَّب إلى الله بهذا العمل، فانفرجت الصخرة، واستجاب الله له دعاءَه ببركة بِرِّه لوالديه.
جمال عبد الناصر
- التصنيف:
- المصدر: