الكتابة لعصرنا

منذ 2015-03-10

كتب علماؤنا الأوائل وصنفوا وأبدعوا، وتركوا لنا تراثًا فكريًا وثقافيًا وأدبيًا نفخر به على مر التاريخ، ونسترشد بهدية في مسيرتنا وحلّنا وترحالنا، إلا أن اللافت في هذا التراث الشامخ أن أصحابه كتبوه بالأخص لعصرهم، ففندوا الشبهات وحلوا المعضلات التي انتشرت في أيامهم، الأمر الذي يستلزم منا أيضًا أن نعيد صياغة هذا التراث بما يلائم عصرنا ويواكب مشكلاته اليومية، هذا فضلاً عن الإضافات التي تستلزمها موجة التغيير التي يتسم بها كل عصر ومصر..

بسم الله الرحمن الرحيم..
كتب علماؤنا الأوائل وصنفوا وأبدعوا، وتركوا لنا تراثًا فكريًا وثقافيًا وأدبيًا نفخر به على مر التاريخ، ونسترشد بهدية في مسيرتنا وحلّنا وترحالنا، إلا أن اللافت في هذا التراث الشامخ أن أصحابه كتبوه بالأخص لعصرهم، ففندوا الشبهات وحلوا المعضلات التي انتشرت في أيامهم، الأمر الذي يستلزم منا أيضًا أن نعيد صياغة هذا التراث بما يلائم عصرنا ويواكب مشكلاته اليومية، هذا فضلاً عن الإضافات التي تستلزمها موجة التغيير التي يتسم بها كل عصر ومصر..

هذه الصياغة لا يقصد بها إلغاء هذا التراث الخالد بقدر ما هو تطويع شكله المعرفي؛ لكي يتماشى مع روح العصر مع إضافة التقنيات الحديثة التي لم تتوفر للأوائل، والتي من شأنها أن تجعل المعرفة سهلة مستساغة لكل من ينشدها.

ركبة البعير:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه» (أحمد:2/381).

قال الإمام الطحاوي في (مشكل الآثار:1/169): "فقال قائل: هذا كلام مستحيل، لأنه نهاه إذا سجد أن يبرك كما يبرك البعير. والبعير ينزل على يديه، ثم أتبع ذلك بأن قال: «ولكن ليضع يديه قبل ركبتيه»، فكان ما في هذا الحديث مما نهاه عنه في أوله، قد أمره به في آخره..!

فتأملنا ما قال مِن ذلك، فوجدناه محالاً، ووجدنا ما رُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مستقيماً لا إحالة فيه، وذلك أن البعير ركبتاه في يديه، وكذلك كل ذي أربع من الحيوان، وبنو آدم بخلاف ذلك، لأن رُكَبَهم في أرجلهم، لا في أيديهم.

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المصليَ أن يَخرَّ على ركبتيه اللتين في رجليه، كما يخر البعير على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن يَخرُّ لسجوده على خلاف ذلك، فيخر على يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه بخلاف ما يخر البعير على يديه اللتين فيهما ركبتاه، فبان بحمد لله ونعمته أنَّ الذي في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام صحيح لا تضاد فيه ولا استحالة فيه والله نسأله التوفيق".

وقد ذهب الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد الميعاد:1/224-226)، وفي حاشيته على (سنن أبي داود:3/74-75): إلى نفي أن تكون ركبتا البعير في يديه، وبين أن آخر الحديث: «وليضع يديه قبل ركبتيه»، مناقض لأوله، وحكم رحمه الله بأنه منقلب على الراوي، وأن الصواب: "وليضع ركبتيه قبل يديه" لأجل أن يوافق آخر الحديث أوله، لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتناقض.

والخلاف في هذا الأمر قديم مشهور قد انسحب على علمائنا المعاصرين أيضًا على نفس القولين، لكن العجيب أن من يقول بأن ركبة البعير في يديه من السلف والخلف يرجع إلى المعاجم اللغوية، وإن كان هذا مقبولاً في زمن السلف فهو جمودًا في زمن الخلف، الذي يعج عصرهم بعشرات من كليات الطب البيطري وفيها ثلة عامرة من علماء تشريح الحيوان الأفذاذ الذين أولى أن نرجع إليهم في حسم هذا الخلاف، وهذا مما لم يتبادر للأذهان ولم أجد في كتب الفقه المعاصرة أي إحالة من هذا القبيل.

وقس على هذا: الخلاف في (حيض الأرنب)، حيث الفتوى المعتمدة في ذلك قول العلماء: "الأرنب حلٌ ولو حاضت، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكلها، وأكلها الصحابة، فلا بأس بذلك، فالأرانب حلٌ مطلقاً ولو حاضت، ذكر بعض أهل العلم أنها تحيض، ولو حاضت، لا يضر ذلك"، (ولو حاضت)! أليس من العجب في عصر الثورة العلمية أننا لم نحسم الأمر في حيض الأرنب من عدمه، ونصل بعد سؤال علماء التخصص التشريحي للحيوان إلى قول قاطع في هذا الشأن.

مؤخرة الرحل:
روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل»، وروى أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «مثل مؤخرة الرحل».

قال شراح الحديث: (مؤخرة الرحل) هو العود الذي يستند إليه راكب الرحل، وقالوا أيضًا: هو العود الذي يكون خلف ظهر الركاب في الشداد الذي كان يستعملونه في الإبل، وهو نحو ثلثي ذراع، قال النووي في شرح مسلم: "في هذا الحديث بيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع هو نحو ثلثي ذراع".

وقال آخرون: الرحل مقداره ذراع كما صرح به قتادة والثوري كما في (مصنف عبد الرزاق:2272) بإسناد صحيح، والذراع ما بين طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى. يقدَّر بـ(46.2) سم.

وأنا في اعتقادي أن وصف السلف للرحل كان مختصرًا بحكم شهرته في عصور كانت تستخدم الدواب بصورة أساسية في حياتهم اليومية، لكن يظل الرحل وفق هذه التعريفات مبهمًا لدى الأجيال المعاصرة البعيدة غالبًا عن حياة الحيوان في عصر السيارات والقطارات والطائرات، فما يضير كتب الفقه المعاصرة أن ترفق صورة للرحل في طيات حديثها عن هذا الأمر، خاصة أن لغة الصورة لغة عالمية، وإدراجها من السهولة اليوم بمكان لا يخفى على أحد، ويختصر ركام كبير من الكلمات والتعريفات، التي مهما أسهبت وأوجزت لن تعطي تصور حقيقي للرحل مثلما تعطيه الصورة.

إن الصورة تحسم التصور عن كثير من الأشياء التي تستعصي على التعريفات اللغوية كـ(القطمير، والنقير والخطام، والبردة، والشملة، والنطاق..)، وغيرها من المكونات التي يحكمها عنصر البيئة والزمن، أنصابة الزكاة.

أشهر قضية تواجه كاتبي الفقه المعاصر هي تحويل الموازين والمكاييل القديمة إلى ما يعادلها من المقاييس الحديثة، ولقد ألفت في هذا الشأن رسائل دكتوراه عديدة ولكنها ظلت بمنأى عن غالبية كتب الفقه المعاصرة التي تتحدث بواد والقارئ بواد آخر.

وتجد مشقة معهودة في مطالعة أبواب الزكاة نتيجة إهمال أغلب الكتاب إفادة القارئ بأنصبته المعاصرة، التي يتوجب فيها الزكاة، فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وهو ما يقدر بالوزن الحالي، بخمسة وثمانين جراماً تقريباً، إلا أن هذا خاص بالذهب العربي الخالص عيار 24 حيث لم يعرف القدامى طريقة خلط الذهب بمعادن أخرى كما هو عليه الحال اليوم الذي تنوعت فيه أعيرة الذهب.

فما الضير أن نلزم أنفسنا عند التطرق لمثل هذه الموضوعات أن نشير إلى أن طريقة استخراج الوزن الصافي من أي عيار من أنواع الذهب تكون بضرب الجرامات الموجودة منه في العيار وقسمة الناتج على أربعة وعشرين فيتحصل وزن الصافي.

ولماذا نتجاهل الحديث عن مقدار صاع النبي صلى الله عليه وسلم بالكيلو، والذي يبلغ كيلوان وأربعون غراماً من البر الرزين، والوسق وهو الحمل، ومقداره ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فيبلغ ثلاثمائة صاع، فيكون نصاب الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم (612 كجم).

إن النمطية في الكتابة ظاهرة باتت تقلق القارئ، وتضني الباحث في عصر يجرى وراء المعلومة الرشيقة والإفادة السريعة، والمواكبة الفعالة لمجريات العصر وظروفه، وإن كان هم الكاتب في كتابه والداعية على منبره أن يفيد القارئ والمستمع فلا أقل من حمل كل إفادة على موجة العصرية؛ لكي تتناغم مع الزمان والمكان، وتنفذ إلى الأسماع والقلوب بما يحقق الغرض منها، ويحبب الناس في العلم ولا ينفرهم من مصطلحات أشبه إليه بالطلاسم، والتي من شأنها أن تجافي المرء عن المعلومة والانتفاع بها، فيضيع المجهود وتذهب الجهود سدى، نتيجة انفصال عن العصر لا مبرر له البتة.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 3,022

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً