تجربة أردوغان إسلامية أم علمانية، وما علاقتها بالإخوان؟ (1)
ومن هنا بدأ رجب طيب أردوغان وعبد الله جول (وهما من أبرز القادة الصاعدين وقتها الذين تربوا في أحزاب أربكان منذ 1972) يفكران تفكيرًا آخر لمواجهة الوضع فشكلا حزب العدالة والتنمية عام 2001.
ما هو التقييم الصحيح لتجربة أردوغان في تركيا؟
لا شك أن التقييم ليكون صحيحًا يجب أن يرتكز على عدة محاور، هي:
الأول: هو واقع تركيا قبل تولي أردوغان وحزبه الحكم.
الثاني: فهم ما حدث فعلًا في الواقع العملي لتجربة أردوغان في الحكم.
الثالث: تقييم هذا الواقع وفقًا لفقه وقواعد السياسة الشرعية.
هذا إذا كنا نريد أن نقول عن تقيمنا أنه وجهة نظر إسلامية، إذ لا يعقل أن نقول أننا نتكلم وفقًا للإسلام، ونحن نتكلم كلامًا لم يراع فقه السياسة الشرعية، وقواعدها أو دون أن ندرك الواقع الحقيقي للتجربة.
وكثير من الإخوة كلما ذكروا تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا يستدعون ما يعتبرونه علاقة هذه التجربة أو تبعيتها لجماعة الإخوان المسلمون، ولذلك فإننا مضطرون لتناول هذه النقطة بالتحليل في محور رابع.
وسوف ننشر هذه المحاور الأربعة عبر عدة مقالات إن شاء الله ليسهل قراءتها، ولئلا نطيل على القارئ فيشعر بالملل.
عندما ألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية أقام دولة علمانية شديدة العداء للإسلام، ومنع كافة المظاهر الإسلامية، وحَوَّل مسجد أيا صوفيا إلى متحف، وفرض العلمنة، والانسلاخ من الإسلام بالحديد والنار، وفي سبيل ذلك حاصر وضيق على أي مظاهر أو شعائر إسلامية، ومنع أي أنشطة إسلامية حتى لو كانت لا تمت للعمل السياسي بأي صلة.
ودور وأفاعيل كمال أتاتورك في إزالة ليس الجانب السياسي للإسلام في تركيا فقط، بل وكل ما يمت للإسلام بصلة أمر مشهور ويطول وصفه، ويمكن لمن شاء التوسع في قراءتها أن يرجع الى عدد من المراجع الموثوقة (مثل: محمد قطب، واقعنا المعاصر، محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر عبد الله عبد الرحمن، مترجم الرجل الصنم، ..وغيرها) لكننا هنا نود أن ننظر إلى ما آلت اليه الأوضاع في تركيا عشية تولي أردوغان للحكم.
تحولت دولة الخلافة الى دولة علمانية متعصبة، تحظر أي نشاط إسلامي سياسي وتضيق وتحاصر أي نشاط إسلامي أخلاقي بعيدًا عن السياسة، وأصبح منتشرًا فيها الانحلال الفكري والأخلاقي، وباتت تعادي المسلمين وقضاياهم، وتوالي اليهود والأمريكيين والأوروبيين على الساحة الدولية والإقليمة.
أمسى فيها ممنوع رفع الآذان بغير اللغة التركية، وأحيانَا يمنع إعلان الآذان أصلًا، ومنعت الدولة اللحية والحجاب في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجامعات فلا يدخلها ملتحٍ ولا محجبة حتى لو كان داخلًا لمرة واحدة لقضاء شيء عابر كما يجري منع أي شخص لديه ميول إسلامية من دخول أجهزة الدولة المؤثرة كالجيش والأجهزة الأمنية والقضائية ونحوها، وكل من يظهر عليه أي ميول إسلامي في هذه الأجهزة يتم فصله منها، وكل ذلك مقنن بالقانون والدستور، ولا يمكن لأحد تغييره، وفي نفس الوقت فإن أشكال الفسق والفجور والانحلال والانحرافات الخلقية والفكرية مباحة بالقانون والدستور.
وفوق ذلك كله فإن الدستور يوجب وضع مؤسسة الجيش فوق كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك فوق رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المنتخب، بدعوى حماية تراث أتاتورك، وتقاليد وأسس الدولة العلمانية، فيمكن لقائد الجيش أن يوجه إنذارًا علنيًا إلى رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء المنتخب في أي وقت لدفعه للتراجع عن قرار ما أو توجه ما، واستعمل العلمانيون أيضًا مؤسسة القضاء لضرب أي أحزاب إسلامية عبر أحكام قضائية تصدر بحلها كلما قامت وحاولت العمل في ظل النظام الحزبي الذي يدعي الليبرالية.
إذن فنحن أمام وضع علماني متطرف جدًا في معاداته للإسلام، ومتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وعضو بحلف الأطلنطي (لاحظ كانت سماء تركيا هي ساحة تدريب دائمة للقوات الجوية الإسرائيلية بسبب ضيق مساحة الكيان الصهيويني، وحاجتها لمساحة أوسع للتدريب).
ويسهر في النظام التركي على حفظ استمرار الحكم العلماني كل من الجيش والقضاء وأغلب وسائل الإعلام، ولم يكن هذا الوضع يتم الحفاظ عليه ضد رغبة ذوي التوجه الإسلامي فقط، بل كان يتم الحفاظ عليه ضد إرادة الشعب في الكثير من المواقف التي لا يقبلها عامة الشعب لمصادمتها لبعض توجهاته الإسلامية، أو لمصادمتها للحرية الحقيقية، كان الوضع مفروضًا بالحديد والنار، فانقلب الجيش على رئيس علماني ليبرالي هو عدنان مندريس عام 1960؛ بسبب أنه خاض حملته الانتخابية على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة بالبلاد.
وكان من بين هذه الإجراءات التي تعهد بإلغائها:
- الأذان بالتركية وقراءة القرآن وإغلاق المدارس الدينية.
وحينما فاز قام مندريس بإلغاء هذه الإجراءات حيث أعاد الآذان إلى العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال، إلى جانب افتتاحه مراكز تعليم القرآن الكريم، ولكن الجيش أطاح به وأعدمه هو واثنين من وزراءه، وسجن آخرين.
وفي عام 1980 استعرض نجم الدين أربكان قوة الإسلاميين بحشد مظاهرة مليونية في قلب استانبول ضد إسرائيل، وكان قبلها قد حصل على نسبة لا بأس بها من مقاعد البرلمان التركي مما أرعب عسكر تركيا العلمانيين فقاموا بانقلاب بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، وحلوا حزب أربكان، واعتقلوا العديد من الزعماء السياسيين، وحلوا البرلمان والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وفرضوا دستورًا منح قادة الجيش سلطات غير محدودة.
وبعد ذلك شكل أربكان حزبه باسم آخر ليتحايل على قرار حل حزبه الأول وحصد نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان أهلته لتولي رئاسة الحكومة، لكن الجيش التركي تدخل مرة أخرى عام 1997 ليطيح بحكومة نجم الدين أربكان، ويحل حزبه (حزب الفضيل).
ومن هنا بدأ رجب طيب أردوغان وعبد الله جول (وهما من أبرز القادة الصاعدين وقتها الذين تربوا في أحزاب أربكان منذ 1972) يفكران تفكيرًا آخر لمواجهة الوضع فشكلا حزب العدالة والتنمية عام 2001، وخاضا به أول انتخابات قابلتهم بعد تشكله، وهي انتخابات نوفمبر 2002، حيث اكتسح الحزب الانتخابات بنسبة أهلته لتولي الحكم، وهنا بدأ العمل الضخم الذي قام به أردوغان وحزبه.
وهو ما سنتناوله في الحلقة التالية إن شاء الله.
- التصنيف: