من داخل الزنازين!
وفي السجن كان الفرج!
قُتل أخاه فبكاه دمعًا ودمًا! وخبأ وهج كلُّ شيء في حياته إلا ما كان يجده من حقدٍ قاتلٍ نحو قاتل أخيه، وودَّ لو أنه تمكَّن منه ليشتفي لغيظه منه، وليطفئ ما بين ضلوعه من نار محرقة التهمت سعادته وراحته، وكدَّرت عليه عيشه، ونغَّصت حياته.
وكلَّما مرَّت الأيام وتعاقبت الأعوام زاد حقده وتعاظم غيظه؛ فكان ينتظر ساعة القصاص الحاسمة ليرى فيها خصيمه بين يديه، يعاني من لواعج الموت، وغصص المنايا كما أذاقها لأخيه من قبل!
جاء المصلحون إليه، وطرقوا بابه، فأغلق في وجوههم الأبواب، واستقبلهم بأسوأ ما يُستقبل الزائر، وما كانت مواعظهم إلا لتزيده صلابةً وقسوة، وفظاظة وغلظة. وكان يخاف على إخوانه من الاختراق، فينكسر الطوق في يده، وينقلب الرمح إلى صدره، فأخذ بتغذية الحقد في نفوسهم، وتنمية حبِّ الانتقام في قلوبهم، فقام بعرض الأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن حبِّ الانتقام والتشفي من الخصوم ليستثير ما كمن في صدورهم من حقد دفين على خصيمهم، وينشد في أسماعهم قصائد التوجع وأناشيد الحماس ليذكي جذوة الخامد في النفوس، ويتوعدهم بالويل والثبور وسيئات الأمور لو لانت قسوتهم أو ضعفت قوتهم فأنالوا عدوهم ما يتمنَّى من عفو وصفح. وما زال أولياء الجاني يرسلون له بالوفود، ويُعاقِبون الشفاعات، وما زال كالجبل الأشمِّ لا تزيده المحاولات إلا صلابة وفظاظة.
وتمر الأحداث ليقع وليُّ الدم في جناية شرعية، فيُحكم عليه بالسجن لمدة عامل كامل. وفي غياهب السجن تقع العجائب. فقد مرَّت به الأيام كئيبة حزينة، يجترُّ أيامها الطويلة المملة، فلم يكن يُخفِّف من كمده ونكده إلا من كانوا معه في عنبر سجنه، فقد ألف صحبتهم، ونشأت بينه وبين بعضهم علاقات وثيقة مع طول المجالسة والمؤانسة، وكان من بين هؤلاء الأصحاب ثلاثة قويت علاقته بهم، فحدَّثهم أن عدوَّه اللدود وخصيمه العنيد يقبع في العنبر المجاور منذ ستِّ سنين لأنه قاتل أخيه، وسكب في أسماعهم قصَّته معه وأحداث الواقعة المولمة.
والعجيب في الأمر أن هؤلاء الثلاثة ممن حُكم على كلِّ واحدٍ منهم بالقصاص لقتله غيره، فصادف قلوبًا مكلومة بجرحه الغائر، واستطاعوا من خلال حديثهم معه ليالي متعددة أن يسلُّوا سخيمة نفسه، ويرقِّقوه على خصيمه، ويُشعروه بفضل العفو ونبل الصفح.
فكان يسمع بأذنه منهم المواعظ كالنوائح الثكالى، ويرى من خوفهم وشدَّة فزعهم عندما يُناديهم المنادي أو يدخل عليهم السجَّان أو يُفتح عليهم باب السجن ما أحزنه على أحوالهم وآسفه على مآلهم، فقد كانوا ينتظرون لحظة القصاص منهم مع كلِّ صباح جديد، فشعر بألمهم، وأحسَّ بندمهم، وأدرك لوعتهم، فقذف الله الرحمة في قلبه، ورقَّ لخصمه، وفي لحظة قوَّة إيمان وضعف شيطان، نادى بأعلى صوته من داخل السجن: أين لجنة العفو وإصلاح ذات البين؟!
فذهبنا إليه مسرعين، وفي السجن كان الفرج!!
- التصنيف: