المشاركة الأولى في مراجعات الجماعة الإسلامية (3)

منذ 2015-05-14

كيف يسوغ لمن أصغى له الناس سمعًا ألا يرفع في وجه الظالم مظالم قوم رحلوا على يديه، وما رحلوا إلا لأنهم نبلاء ولم يجدوا من يدافع عنهم ولم يجدوا من يدشن لهم "هشتاجات" وحملات لوقف إعدامهم؟

بعد صلاة الفجر فاجأني السيد المهندس الشيخ (أسامة حافظ) بطلب الكلمة مني في حفل ختام الندوات الفكرية، التي عقدوها مع سجناء ومعتقلي الجماعة بالعقرب في طرة، وأنهم سيرحلون عن هذا المكان إلى معتقل آخر ويريدون أن ألقي كلمة عن موقفي في هذا الشأن.

كان يومها السيد المهندس الشيخ (علي الديناري) المختص بشئون التربية في الجماعة الإسلامية موجودًا وقد كان -ولا زال- من النفوس التي يستريح في التعامل معها من يخالفها الرأي، فاستشرته فيما لو استشرت فيه غيره من القيادات التي أشرت إليها سلبًا في المقالة الماضية لرفض إلقائي للكلمة.

فقد كنت أعلم أن قناعاتي وطريقتي وأسلوبي لن تلقى قبولاً عند أمثال الدكتور (ناجح إبراهيم) ومدرسته أو من يوافقه، وأن هذه المدرسة لا يصلح معها في الرأي إلا أن تباغتها برأيك بكل حق وصراحة ووضوح أيا كانت التبعات، كما إن الحسابات التي كانت تلك المدرسة تراعيها في حلها وترحالها أو قولها وصمتها لا مكان لها عندي غير مكان المهملات أو النفايات الفكرية والبشرية.

أنا صاحب رسالة؛ وسجين رأي، وأتحدث في المحافل منذ الخامسة عشر من عمري، حين كنت رئيسًا لاتحاد الطلاب بالتعليم الإعدادي بقطاع القوصية، وصعدت المنابر ولم أجاوز السابعة عشر من العمر، واخترت حقل التربية مجالاً لدراستي لصناعة العقول والوعي، ولم أشأ أن أعيش شيئًا من هذا الوضع داخل المعتقل في ظل وجود أمثال المدرسة سالفة الذكر سلبًا، كما إنني مظلوم علي يد الظالمين الذين يسجنوني، وأنتظر رحيلي في أي وقت على أيديهم..

وقد كنت لا زلت أرتدي بدلة الإعدام الحمراء التي كانت بمثابة الكفن الذي ننام ونقوم فيه، ولا ناقة لي ولا جمل في هذه المراجعات إلا ما يكتبه الله في صحائفي مما قد يختم به على عملي، وليس شيء أسوأ على المرء من أن يبيع آخرته بدنيا غيره، كما إنه لا ينبغي ولا يسوغ لمؤمن على عتبات الآخرة بدلاً من أن يبحث لنفسه عن فسيلة خير يغرسها تكن لسان صدق له من بعده وآثارة خير له في آخرته؛ أن يذهب ليحرق الأخضر واليابس، أو أن يهدم المعبد على رؤوس من فيه ما دام لا بقاء له فيه.

والشاهد فيما سلف: أنني لم أكن راضيًا عن خطاب هستيري مبتذل في تزلف بعض أفراد المدرسة سالفة الذكر إلى السلطة الحاكمة أو المؤسسة الأمنية، وقد كان للحق والأمانة السيد (عصام دربالة) ونظراؤه أيضًا على رفض هذا الابتذال، كما إنني أرى أن قرار وقف الصدام المسلح بين هذه الجماعة وبين النظام ليس اجتهادًا فقهيًا عظيمًا يستوجب الإشادة بأصحابه ودقة وعمق علمهم، بقدر ما هو تطور فطري وصلت إليه النفوس والعقول وفقًا لتطور الإنسان مع مراحل عمره المختلفة، ولكن ما يستحق الإشادة هو الإنابة إلى الحق والرجوع إلى سواء السبيل، حتى ولو استوجب ذلك أن يعترف المرء بخطئه في بدهيات الشريعة فهمًا وعلمًا.

جاءت ساعة الظهيرة؛ وبدأ الحفل في الساحة المخصصة وفي حضور اللواءات الكبار بالجهاز وأجهزة التصوير الفني العالية التقنية، وسار الأمر طبيعيًا في فقرات الحفل بين المرح والفرح والدعابة، ثم جاءت فقرتي وتم تقديمي بالكرسي المتحرك أمام مكبر الصوت.

وقد كان الموقف صعبًا؛ نعم. لكنه أبدًا ليس في صعوبة أن ترى عيناك أناسًا أبرياء يساقون بين الحين والآخر إلى مقاصل الإعدام، والله يشهد إنهم أبرياء، وأنا أشهد وأقسم بالله أنهم أبرياء، وجلادوهم ومعدموهم يعلمون أنهم أبرياء، وليس السجين (محمود مصطفى، ومحمد فوزي، وطه عبد الرازق) وغيرهم إلا نفرًا من كثيرين من هؤلاء الأبرياء، الذين سيقوا أمام ناظري إلى مقاصل الإعدام، وكان من الممكن أن أكون واحدًا من هؤلاء، فكيف بالله عليك يقبل إنسان حر على نفسه لديه بقية من إنسانية ويشهد لله بالوحدانية، وللذي بعثه الله بحق إخوة هؤلاء بالرسالة ألا يجهر بكلمة حق في هذا المحفل، وأمام هؤلاء القتلة الذين ساقوهم إلى مقاصل الإعدام؟

كيف يسوغ لصاحب رسالة ألا يقول للقاتل في وجهه ألا تتذكر قتلاك وضحاياك؟
كيف يسوغ لمن أصغى له الناس سمعًا ألا يرفع في وجه الظالم مظالم قوم رحلوا على يديه، وما رحلوا إلا لأنهم نبلاء ولم يجدوا من يدافع عنهم ولم يجدوا من يدشن لهم "هشتاجات" وحملات لوقف إعدامهم؟

قلت كلمتي والتي أثبت فيها موقفي الداعم لمبادرة وقف العنف، وكل ما من شأنه أن يحقق للأمة وحدتها وأمنها، غير إنه ما لا يقل أهمية عن ذلك هو مقالة الحق في الذين رحلوا ظلمًا على يد هؤلاء الظالمين.

على إثر وقع الكلمات والتي لعلي لم أتمالك نفسي وتدافعت العبرات خلالها؛ بكى القوم حتى اخضلت لحاهم، فالذين ذكرتهم لهم هم رفقاؤهم هم وإخوانهم هم، بل كانوا من أفاضلهم وأحاسنهم أخلاقًا، أما المفاجأة التي كانت في الأمر فإن تأثر الجلاد يومها لم يكن أقل كثيرًا من تأثر الضحايا.

انتهيت من كلمتي وذهبنا لصلاة العصر بعد أن تجاذب اللواء أحمد رأفت رحمه الله معي طرف الحديث، ثم عمد للصلاة بجانبي على الأرض في ساحة الملعب الكروي، وكانت تلك هي المشاركة الأولى لشخصي في هذه المراجعات، والتي كانت على حدتها ووضوحها محل قبول من الأعداء قبل الأصدقاء.
الموقف الثاني في المقال القادم بإذن الله.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حسن الخليفة عثمان

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 1,548

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً