المشاركة الثانية في مراجعات الجماعة الإسلامية (4)
كان هذا اللقاء من اللقاءات التي تركت بصمتها في نظري وقراءتي لواقع بعض رؤوس الحركة الإسلامية المحتفى بهم إعلاميًا، والحائزين على رضا الأجهزة القمعية، وكيف تستطيع هذه المؤسسات الجبارة من خلال الدراسات النفسية والعلمية ترويض الأسود وصناعة النمور.
في ساعة متأخرة من إحدى ليال صيف ألفين وثلاثة ميلادية وتقريبًا في يوليو، بينما أنا في غرفتي إذ حضر إلى الغرفة اللواء (أحمد رأفت) رحمه الله وخلفه موكبه الذي كان يصاحبه دائمًا من القيادات الفرعية ومساعديه، كما كان بصحبته أعضاء مجلس الشورى للجماعة الإسلامية الموجودون داخل المعتقل باستثناء السيد (عصام دربالة)، والمهندس (عاصم عبد الماجد) كما ذكرت سابقًا كما كان موجودًا باللقاء كثير من قيادات الصف الثاني بالجماعة معه، على رأسهم النائب الدكتور (صفوت عبد الغني) فك الله أسره وإخوانه جميعًا.
أصر اللواء أحمد رأفت أن يجلس بجواري على سريري الذي لا أبرحه، وبطريقة وهيئة فيها نوع من التعاطف الإنساني، الذي كان سلوكًا فرديًا منه ولم يكن أحد في هذا الجهاز يشبهه فيه، كما إننا لن نذهب بعيدًا إذا قلنا إن الجهاز الأمني المصري الآن ليس فيه ولا من بينه من هو في أخلاق أحمد رأفت، ولا في مروءته ولا ذكائه ولا احترافه الأمني أو السياسي، يوجد بالطبع محترفون؛ لكنه الاحتراف الذي يكون منتجه النهائي سيناريوهات (فاطمة يوسف) ومثيلاتها.
بعد السلام والجلوس ابتدأ اللواء في الحديث والإفصاح عن سبب الزيارة؛ والذي كان خلاصته أنهم يريدون تفعيل مبادرة وقف العنف إعلاميًا وبشكل أكبر وعلى نطاق واسع، وأنهم يريدون مشاركتي في حوار صحفي مهم مع الكاتب الصحفي (مكرم محمد أحمد)، وإنني لي كامل الحرية والخيار فيما أقول ودون إكراه ولا توجيه، ولا نريد غير قناعاتك في هذا الأمر بل وبنفس روح المشاركة السابقة في حفل الختام للندوات دون حرج في ذلك.
تذكرت يومها أن الدكتور (صفوت عبد الغني) كان قد أبلغني أن كلمتي في الندوة كان لها دوي وردود فعل على مستوى القيادة الأمنية والمخلوع مبارك شخصيًا، إذ كان حبيب العادلي قد حملها إليه كنموذج لاقى قبولاً عندهم بما قطع الشك باليقين في نفوسهم تجاه أمر المشاركين في هذه المراجعات، فقد تم التعامل مع كلمتي بنوع خاص من التدقيق والتحليل والنظر، حيث كانوا لا زالوا مرتابين؛ هل هذه المبادرة هي قرار تكتيكي أم هي خيار إستراتيجي وتحول حقيقي؟
وقد صرح اللواء (أحمد رأفت) بذلك شخصيًا في كلمته بسجن الفيوم، إذ قال للمعتقلين هناك: "كنا حتى الوقت الأخير نظن أن قرار المبادرة قرار تكتيكي، حتى وجدنا مشاركة أناس لا ناقة لهم فيها ولا جمل"، يقصد المحكوم عليهم بالإعدام، وقد تعمّد أن يذكر النص الحرفي لعبارتي في كلمة الحفل، ثم تطور الأمر أن أعادوا عرض الكلمة على بعض المعتقلين الذين لم يحضروا، وجعلوها نموذجًا يستدلوا به على أنهم يحبّذون الوضوح والصراحة والصدق، أيًا كانت قناعات الشخص على أسلوب المناورات والمراوغات، والدليل على ذلك قبولهم لهذه الكلمة التي جاءت خارج السياق المتعارف عليه أثناء الندوات والمحاضرات، كما إنهم يحملون كثير الاحترام لشخص قائلها بصرف النظر عن الاختلاف البين بينه وبينهم، ويكفي فقط الاتفاق على أصل الأمر وهو أنه ليس داعية إلى صدام أو انتقام.
كان اللواء (أحمد رأفت) يريد التأكيد على أن المبادرة ليست وليدة إكراه، وأن المشاركين فيها لا يخضعون لأي ضغط من الضغوط، وأن يتم إقرار ذلك من خلال الخبراء النفسيين المختصين المتابعين، والجهات والأجهزة السيادية الأخرى التي كانت تشرف على الأمر وقد كان الاتحاد الأوربي يراقب ويتابع التجربة كما المجتمع الدولي عبر أجهزته النافذة والمتواصلة مع نظام المخلوع.
كل ذلك لم يكن يعنيني في شيء، فلا أنا زعيم معني بخروج جماعتي ولا أنا حتى عضو فيها سيعود علي من النفع ما يعود عليهم، فقط ما يعنيني هو إنسانيتي، وكوني إنسانًا أسيرًا موجودًا عند الذين يأسرون أمة بكاملها، وما أنا إلا رجل حر في أمة تبحث عن فكاك نفسها من استعباد هؤلاء الجلادين.
فرغ اللواء من الإفصاح عن سبب مجيئه وأجبته بالإيجاب والترحاب، وقد وفيت بما وعدت في الحوار الصحفي الذي ربما لم يكن (مكرم محمد أحمد) دقيقًا في نقل كلماتي وأدخل عليها ما ليس منها، لكنه كان منفعلًا إيجابًا بالمشاركة، فأراد أن يضفي عليها مزيدًا من الإيجاب الذي لا أحبه ولا أحبذه ولا أجيده.
ما الشاهد وبيت القصيد في هذا اللقاء؟
بعد أن فرغ اللواء من حديثه سألته سؤالا هو:
إنني أرى الجماعة الإسلامية قد أسهبت في اعترافها بخطئها ورجوعها عن أخطائها، فهل أنتم لم تخطئوا في حق هؤلاء؟
جاءت إجابة اللواء رحمه الله في وضوحها وصراحتها وكلماتها كالصواعق، التي كانت تنزل على رؤوس بعض الحضور من المنتسبين إلى المدرسة سالفة الذكر سلبًا، والتي كانت تعتبر أن الوقوف على ما أوقفني عليه اللواء أحمد رأفت في شخصياتهم وطبائعهم هي من الأسرار التي لا ينبغي لأحد من الناس أن يطلع عليها!
وأن الصورة الملائكية التي نجحوا في رسمها لدى القواعد والأفراد لا ينبغي أن تُخدش تحت أي ظرف من الظروف، وقد فقد أحدهم توازنه بعد أن غادر اللواء المكان وانهال عليّ لومًا وتقريعًا ووصفًا للحوار الذي دار بيني وبين الرجل الذي جاء إليّ في غرفتي، ولم أذهب إليه، ولم أطلبه، بأن حديثي إليه كان نوعًا من الفلسفة وإنني "عامل نفسي فيها مفكر".
كنت أنظر إليه وأشفق عليه وأقول في نفسي: إلى هذا الحد يمكن أن يبلغ أناس هذه الدرجة من التقمص والتنكر والتزين بثياب الزور للظهور أمام الأتباع بثوب الفضيلة؟
كان هذا اللقاء من اللقاءات التي تركت بصمتها في نظري وقراءتي لواقع بعض رؤوس الحركة الإسلامية المحتفى بهم إعلاميًا، والحائزين على رضا الأجهزة القمعية، وكيف تستطيع هذه المؤسسات الجبارة من خلال الدراسات النفسية والعلمية ترويض الأسود وصناعة النمور.
كما إن الاحتكاك والتعامل المباشر مع شخصية اللواء أحمد رأفت أتاح الفرصة الكاملة لفهم طبيعة وإدارة الصراع، وكيف تدار الدول والمؤسسات، ونظرتها وأسلوبها في التعامل مع هذه التنظيمات والجماعات، بما جعل كاتب هذه السطور يقرأ الأزمة في مصر قبل وقوعها والتحذير منها بما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله.
- التصنيف: