أصحاب التفكير الظاهري يمتنعون! فأنا شافعي حنفي
من هنا فأحببت أن أنبه إخواني وأخواتي القراء لماهية منطلقي في الكتابة، كي تتضح لهم صورة ما أكتبه جيدًا، فأنا في أصول الفقه أميل لمنهج إمام الدنيا الإمام الشافعي رحمه الله، وفي الفروع الفقهية أختار مرتكزًا على الدليل وفقًا لهذا المنهج الأصولي، ومن هنا أختار كثيرًا من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -الذي بدأ حنبليًا- لأنه متأخر، فأطلع على صحيح الأدلة التي تجمعت في العصور المتأخرة..
أرجو من الأخوة الذين يفكرون وفق المنهج الظاهري ألا يتعبوا أنفسهم بمتابعة ما أكتبه، لأنهم لن يعجبهم كلامي، ولن يدركوا مراميه لأنني لا أتبع المنهج الظاهري في التفكير الفقهي، ومن التفكير الفقهي التفكير السياسي والاستراتيجي -أقصد الاستراتيجية الشاملة لا الاستراتيجية العسكرية-، فهذان العلمان في الواقع هما نوع من التفريع في فقه السياسة الشرعية التي هي جزء من الفقه الإسلامي بمدارسه ومناهج بحثه المعروفة..
وأنا أسير على هذا المنحى، ليس فقط لأن التفكير الظاهري لا يصلح كمنهج تفكير في السياسة والاستراتيجية، ولكن أيضًا لإيماني بأن المذهب الظاهري هو مذهب غير صحيح وغير ملتزم بالهدي النبوي، ولذلك يعتبر أكثر علماء السلف أن المذهب الظاهري لا يعتد باتفاقه وخلافه عند حساب الإجماع.
المذهب الظاهري انتشر في عصرنا هذا بين أبناء الصحوة الإسلامية دون أن يشعروا، وقصم ظهر الصحوة في أدائها السياسي والاستراتيجي ويرجع انتشاره لسببين:
الأول: أن الشيخ الألباني -وهو من هو انجازًا في علم الحديث النبوي- أحياه ودعا للعديد من مفاهيمه في كتاباته مسميًا له باسم آخر وهو اتباع الدليل، وهذا الاتباع هو أمر مغري، لكن من يقرأ دعاوى الإمام الألباني في كتبه ثم يقارنها بدعاوى الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابيه (المحلى والإحكام في أصول الأحكام) سيجدها دعاوى واحدة وبأسلوب واحد، وهو استثارة عاطفة القارئ من حيث حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه من أجل توجيهه لتبني الرأي الفقهي الذي يرجحه ابن حزم -أو الألباني- بمنهجه الظاهري الذي يخالف منهج أئمة الفقه من السلف..
هذا رغم أن أئمة الفقه من السلف الصالح -دع عنك متأخري أهل المذاهب- ما طلبوا العلم ولا نشروه إلا من أجل اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنهم يأخذون بظاهر الدليل ما دام الدليل يقتضي ذلك، ولا يعدلون عن ظاهر الدليل إلا بدليل صحيح قوي يقتضي ذلك، فهم أتبع للدليل من ابن حزم رحمه الله -بحسب تعبير الإمام محمد الأمين الشنقيطي في نهايات مذكرة أصول الفقه الشارحة لروضة الناظر-.
الثاني: أن هذا المنهج الظاهري سهل المأخذ، فأي مبتدئ يمكنه أن يفتي بظاهر آية أو حديث أو حتى ظاهر حكم شرعي تضمنه فرع فقهي موجود بأحد كتب الفقه، لكن أن يجتهد وفقًا لمعايير الاجتهاد الفقهي ليفتي فهذا أمر يصعب عليه الوصول إليه.
فهو حتى لو كان سيفتي بتنزيل فرع -قول لأحد العلماء في حكم فقهي- موجود بكتب الفقه على الواقع وفقًا للمعايير العلمية المعروفة في هذا المجال فهذا صعب عليه، بينما القول بالظاهر أسهل عليه، ولا يحتاج طول دراسة ولا عناء تفكير، ومن هنا ينكر هذا الشخص كل المقتضيات التي تمنع القول بالظاهر في بعض النصوص والأحكام.
إن دراسة الفقه ومناهج بحثه أمر صعب لا يدركه غير المتفقهين، ومن ثم فبعض المبتدئين متعجلون لإطلاق الأحكام قبل الوصول لدرجة الفقه الكافية والمؤهلة لأن يصيروا ممن يستنبطون فرعًا -حكما شرعيًا- أو حتى ينزلون فرعًا -موجودًا في أحد كتب الفقه- على الواقع وهذا التعجل يدفعهم لاستسهال الآخذ بالظاهر دون تعمق في طبيعة الحكم من حيث الأوصاف الملغية، والأخرى المعتبرة، أو إدراك الأقرب والأوفق لمقاصد الشريعة ومراميها العامة، والمصالح التي اعتبرتها والمصالح التي ألغتها، وحقيقة الضروريات المعتبرة والملغية في الشريعة، إلى آخر هذه المعايير المعروفة في علوم أصول الفقه وقواعده وفروعه.
الرغبة في التصدر، أو التسرع في إصدار الرأي السياسي والاستراتيجي -الذي هو في حقيقته فقهي-، أو التعصب لاجتهاد إمام حركة إسلامية معاصرة ربما لو عاش صاحبه لغيره، أو ربما ما زال صاحبه حيًا لكنه صار يتميز بجمود في التفكير، فلا يقبل أن يطور نفسه مع تطور الأحداث، أو التحزب لحركة إسلامية ما تجمد فكرها السياسي والاستراتيجي وتكلس، أو التعجل في أن يصير المرء موجهًا سياسيًا أو فكريًا قبل أن يستكمل أدواته العلمية وخبراته العملية بالواقع، كل هذه أسباب يدفع كل منها البعض لتبني أراء ظاهرية في السياسة والاستراتيجية -وهما من فروع الفقه لمن كان ملتزمًا بحاكمية الشريعة الإسلامية-، حتى دون أن يشعر أنه بهذا يفكر بأسلوب المذهب الظاهري لابن حزم والألباني.
ومن هنا فأحببت أن أنبه إخواني وأخواتي القراء لماهية منطلقي في الكتابة، كي تتضح لهم صورة ما أكتبه جيدًا، فأنا في أصول الفقه أميل لمنهج إمام الدنيا الإمام الشافعي رحمه الله، وفي الفروع الفقهية أختار مرتكزًا على الدليل وفقًا لهذا المنهج الأصولي، ومن هنا أختار كثيرًا من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -الذي بدأ حنبليًا- لأنه متأخر، فأطلع على صحيح الأدلة التي تجمعت في العصور المتأخرة، ومع هذا أشعر بأن بعض فروع الفقه -خاصة في السياسة الشرعية- عند أبي حنيفة مفيدة جدًا لنا، لأن الفقه ينتج من تفاعل المجتهد مع طبيعة ومتغيرات عصره..
وكان أبو حنيفة يعيش في مجتمع العراق الذي كان فيه تطورات ومتغيرات لم توجد في عصر الرسالة ولا عصر الخلفاء الراشدين، كما لم توجد في نفس العصر داخل مجتمع الجزيرة العربية، وبالتالي فمدرسة أبو حنيفة الفقهية تقدم لنا -خاصة في مجال المعاملات والسياسة الشرعية- فروعا فقهية -فتاوى وأحكام- تتصدى لقضايا قد لا نجدها في بدايات فقه إمام المدينة، وانطلاقًا من ذلك كله تأتي طريقة تفكيري وكتاباتي، ومن هنا أيضًا أنصح أصحاب المنهج أو الطريقة الظاهرية في التفكير بألا يتابعوا ما أكتبه.
إلى هنا فكلامي قد يكون نظريًا ومعقدًا، أو بالتعبير المصري الدارج -مكلكع- ولكن للتوضيح أريد أن أنبه أن أشخاصًا قد يستدلون بقول للإمام الشافعي أو أبو حنيفة أو شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن بتفكير ظاهري، فالظاهرية من وجهة نظري هي منهج تفكير أكثر منها مسمى على مذهب داود الظاهري أو ابن حزم..
فكل من يفتي في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاستراتيجي دون مراعاة التفريق بين الأوصاف المعتبرة والملغية فقهًا، ودون مراعاة الأقرب والأوفق لمقاصد الشريعة ومراميها العامة، والمصالح التي اعتبرتها والمصالح التي ألغتها وحقيقة الضروريات المعتبرة والملغية في الشريعة ونحو هذا، فهو ممن يفكر بمنهج ظاهري غير سديد وغير صحيح، حتى لو اجتر أقوالاً لأحمد بن حنبل أو الشافعي أو مالك أو غيرهم..؛ ليستدل بها لأننا لا ننتقد ما اجتره من أقوال هؤلاء النجوم الأفاضل، وإنما ننتقد ونطعن في منهجه في الاستدلال وفي التنزيل على الواقع، فضلاً عن أن مدى سلامة إدراكه لحقيقة ومنطق الواقع يحتاج بحث وتقييم آخر.
هامش مهم:
تأتي عظمة الإمام الشافعي من أمور كثيرة، ولكن من أبرز المعالم التي تشير لعظمته أنه تتلمذ على إمام أهل السنة ودار الهجرة (مالك)، ثم تتلمذ على إمام الرأي في العراق -تلميذ أبو حنيفة- الإمام (محمد بن الحسن الشيباني) ثم أسس بناء على جمعه بين النقل -كما عند مالك- والرأي -كما عند أبي حنيفة- للعديد من مناهج البحث في العلوم الشرعية، فكان هو أول من قعد لها وكتبها بشكل متكامل، ومنها علم أصول الفقه وعلم الناسخ والمنسوخ في الحديث، وعلم تأويل مختلف الحديث وغيرها كثير، ثم جاء علماء كافة المذاهب من بعده ليكملوا ما بدأه ويطوروا فيه.
- التصنيف:
ahmed41
منذ