هل كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مصلحًا اجتماعيا أم قائدًا سياسيًا أم أنه خاتم المرسلين من رب العالمين؟
في ليلة الاثنين من أواخر الشهر الكريم جاءه جبريل بأمر الله تعالى، وحينئذ بدأ الوحي وبدأت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف كان العالم وقتها؟ وكيف تهيأ النبي الكريم لتغيير هذا العالم؟
- المسجد النبوي في المدينة المنورة:
عندما بلغ سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الأربعين من عمره خرج في رمضان كعادته إلى غار حراء متأملاً مفكرًا مقلبًا وجهه في السماء، وفي ليلة الاثنين من أواخر الشهر الكريم جاءه جبريل بأمر الله تعالى، وحينئذ بدأ الوحي وبدأت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف كان العالم وقتها؟ وكيف تهيأ النبي الكريم لتغيير هذا العالم؟
كانت الوثنيات بأشكالها المختلفة تسيطر على العالم من الهند والصين وفارس شرقًا إلى أوروبا وأفريقيا غربًا، فمن عبادة النيران في بلاد فارس إلى عبادة الأحجار والأشجار في أفريقيا، إلى الجدل الذي وصل حد الاضطهاد الديني والتقاتل بالسلاح حول حقائق العقيدة المسيحية في بيزنطة، بل والإغراق في الجدل الفلسفي العقيم حتى صار اسم بيزنظة علمًا على كل جدل عقيم، الوثنية والجدل العقيم حتى في الألوهيات سيطرا على العالم شرقًا وغربًا، وتدهورت القوى العسكرية لكل من إمبراطوريتي فارس والروم حتى صارتا تعتمدان على حراس من عرب الجزيرة العربية ليحرسوا حدودهما الجنوبية وتمثل ذلك في مملكتي المناذرة والغساسنة..
العالم تعمق في الوثنية والضلال والشهوات حتى انغمست الكعبة بيت الله الحرام في الأوثان، ذلك البيت الذي كان قد أعاد بناءه إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام على أسس التوحيد الخالص {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:127-129].
وكانت جزيرة العرب منغمسة في هذه الوثنية من عبادة الحجر والشجر، مع وجود بقايا قليلة من أهل الكتاب اعتراهم ما اعترى أهل الكتاب في ذلك العصر من خلاف وجدل حول حقائق العقيدة، وزاد العرب على وثنيتهم تفككهم السياسي ولم يختلفوا كثيرًا في تحللهم الاجتماعي عمن حولهم من أمم فارس والروم والحبشة، إلا أن مظاهر هذا التحلل ربما اختلفت بشكل أو آخر من وأد البنات وكثرة الحروب والسلب والنهب والعصبية القبلية البغيضة، التي طالما أشعلت الحروب وقطعت الأواصر فضلًا عن الطمع والخمر والقمار والمتعة المحرمة وتسخير الأقوياء للضعفاء.
- مكة قلب الجزيرة:
كانت مكة قلب الجزبرة العربية معنويًا واقتصاديًا ومن ثم سياسيًا، ففي مكة بيت الله الحرام الذي يقدسه كل العرب بجميع قبائلهم وعقائدهم، وعبر مكة كانت تجارة الشرق والغرب تمر من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس عبر رحلة الشتاء والصيف، حيث كان تجار مكة يتجهون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام لتناقل التجارة من هنا لهنا وبالعكس، فضلاً عن تسويقهم جزءًا كبيرًا من هذه السلع في موسم الحج ببيعه لسائر قبائل الجزيرة العربية من حجاج البيت الحرام، ومن هنا تمتع أهل مكة وهم قبيلة قريش بفروعها العديدة بمكانة سياسية ومعنوية واقتصادية كبيرة بين سائر العرب..
وكانت قريش تنقسم اجتماعيًا إلى شعبتين -كما يقول العقاد- واحدة من أصحاب الترف والطمع وهذه كانت تحرص على استبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه لأنه يوافق هواها، أما الشعبة الثانية فكانت من أصحاب السماحة وكانوا أناسًا وسطًا بين مقام الطغاة الظالمين من رؤوس الشعبة الأولى وبين الضعفاء الذين لا يملكون إلا الإذعان للسادة الكبار الطغاة، ومن هذه الشعبة الوسط ذات النسب الكريم كان بيت عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا جاء نسب النبوة العريق الذي خرج منه الصادق الأمين لينقذ العالم من تيه الضلال، في هذا الجو العالمي والإقليمي البائس أوحى الله تعالى إلى سيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ليغير الدنيا من حال إلى حال.
وكما قال العقاد: "قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة، وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة"، وهكذا كان العالم على موعد مع إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، ولكن كيف صلح أن يكفي رسول واحد لهداية البشرية جميعًا، وكيف استمرت هذه الهداية في مرحلة ما بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم؟
يقول الشيخ محمد الغزالي: "في المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين: أغمض عينيك واتبعني، أو لا تسلني عن شيء يستثيرك! وربما تكون السلامة في طاعته، فأنت تمشي وراءه حتى تبلغ مأمنك، إنه في هذه الحال رائدك المعين، الذي يفكر لك، وينظر لك، ويأخذ بيدك، فلو هلك هلكت معه، أما لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم لك خط السير، وحذرك مواطن الخطر، وشرح لك في إفاضة ما يطوي لك المراحل ويهون المتاعب، وسار معك قليلًا ليدربك على العمل بما علمت، فأنت في هذه الحال رائد نفسك، تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك".
إن الوضع الأول أليق بالأطفال والسذج، أما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولي الرأي من الناس، والله عز وجل عندما بعث محمدًا عليه الصلاة والسلام لهداية العالم، جعل في رسالته الأصول التي تفتح للعقول منافذ المعرفة بما كان ويكون، والقرآن الذي أنزله على قلبه هو كتاب من رب العالمين إلى كل حي، ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد.
- قوة من قوى الخير:
لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام إمامًا لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه في خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها في عالم المعاني ما لاكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة، وإن بعثته لتمثل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني، كان البشر قبلها في وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه، ثم شب الطفل عن الطوق ورشح لاحتمال الأعباء وحده، وجاء الخطاب الإلهي إليه -عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم- يشرح له كيف يعيش في الأرض، وكيف يعود إلى السماء، فإذا بقي محمد صلى الله عليه وسلم أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته، إن رسالته تفتيح للأعين والآذان وتجلية للبصائر والأذهان، وذلك مودع في تراثه الضخم من كتاب وسنة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:174-175].
ومن هنا فنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن كان جاء لإصلاح العالم في فترة دقيقة من الزمن فإنه لم يقدم نفسه كمصلح اجتماعي ولا كقائد سياسي يسعى للتغيير والتطوير، إنما قدم نفسه كنبي وخاتم للمرسلين، فأي عبقرية تمتع بها في مجالات السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد إنما هي عبقرية الدعوة المنزلة من عند الله عز وجل، ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة بشكل موضوعي ودقيق، لأن الموضة التي جرى عليها الكثيرون من المستشرقين ومن لف لفهم في عصرنا الحديث هي مدح النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره قائدًا سياسيًا أو عسكريًا عظيمًا أو مصلحًا اجتماعيًا نابغًا، وذلك كله بعيد عن حقيقة أن الله بعثه نبيًا ورسولًا للعالمين كافة..
وفي ذلك ما فيه من عدم الصدق والموضوعية فحقائق القرآن ثم حقائق التاريخ تفصح بجلاء عن أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم نفسه بأي صفة للناس سوى صفة الرسالة والنبوة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28]، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
وبالتالي فرغم ما في ظاهر دعاوى عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وعبقريته في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب من مدح، فإنها تعتبر طعنًا في الرسالة المحمدية إن اعتبر ذلك هو حقيقة النبي الوحيدة دون إرجاع ذلك لطبيعة الرسالة الإسلامية التي بعث الله بها نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
صحيح أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم عظيم في كل ميزان، عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم في ميزان من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية -حسب تعبير العقاد- لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم نفسه إلا بصفة واحدة هي أنه محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له صفات خيرات حباه الله بها قبل النبوة، مهدت لتصديق الناس له وإيمانهم بما جاء به من دعوة التوحيد وشريعة الإسلام، كما جهزته صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي الوحي الإلهي والقيام بواجباته، فالله تعالى قد هيأ الظروف البيئية والوراثية التي تسهم معًا في تكوين الإنسان وتمنحه صفاته الخَلْقية الخُلُقية، وتصوغ بنيانه الجسدي والنفسي، وتحدد قدراته العقلية واستجاباته العاطفية، لتجتمع بشكل يجعل من نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان المهيأ لتحمل المسؤولية التي أنيطت به بعد أربعين سنة من ميلاده، -وحسب عماد الدين خليل فإن أربعة عقود في حياة الإنسان المحدودة تمثل امتدادًا زمنيًا طويلًا أريد به أن يستكمل محمد الإنسان كل مساحات تكوينه الذاتي، ونضجه البشري قبل أن يتاح له أول لقاء مع الوحي الأمين، وما أصعب اللقاء الأول بين ممثلي السماء والأرض وما أشق الحوار..
- العقود الأربعة:
طيلة هذه العقود الأربعة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ويتلقى ويجابه ويهضم، ويتمثل شتى المؤثرات الوراثية والبيئية لكي يحولها إلى خلايا تبني كيانه، وسمات مادية وروحية تهيئه لليوم العظيم، فعن أصالة أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصالة الشخصية ووضوحها ونقاءها، وكسب على المستوى الاجتماعي احترامًا وتقديرًا في بيئة كانت تستهجن مجهولي الأنساب، وتحتقر الخلطاء، ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصلابة والاستقلال، والقدرة على التحمل والإرادة النافذة والتحدي الذي لا تنكسر له قناة، وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدًا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الواجدين..
وعبر رحلته الأولى إلى الشام في رعاية عمه فتح محمد صلى الله عليه وآله وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها، إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطًا وقلقًا، والجماعات العربية التي فصلتها عن شقيقتها في الصحراء الأم سلطات أجنبية أحكمت قبضتها على الأعناق، وساقت الشيوخ والأمراء العرب إلى ما تريد هي وتهوى لا ما يريدون ويهوون..
وفي رحلته الثانية إلى الشام مسؤولًا عن تجارة السيدة خديجة تعلم الرسول الكثير والكثير، عمق في حسه معطيات الرحلة الأولى وزاد عليها إدراكًا أكثر بما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب والسيد والمسود، وإفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب وكنه العلاقات بينها، واختلاف البيئات والأوضاع، ويزدادون مرونة وقدرة على التعامل المنفتح الذي لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع وفهمًا لما يتطلبه الإنسان في عصر من العصور، بعد اطلاع مباشر على عينات من هذا الإنسان في سعادته وهنائه أو تعاسته وشقائه..
وفوق هذا وذاك فقد أتيح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رحلته هذه تنمية وامتحان قدراته الخاصة التي تعلمها أيام الرعي صبيًا، وها هو الآن يدير تجارة لسيدة تملك الكثير، فيعرف كيف يحيل القليل كثيرًا، ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة، أمينًا لا تلحق أمانته ذرة من غبار، قديرًا على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة، ثم يجىء إسهامه في القضايا الكبرى التي عاشتها مكة آنذاك متنوعًا شاملًا مغطيًا شتى مساحات العمل البشري الجماعي، وكأنه أريد له أن يجرب كل شيء، أن يسهم عاملًا في كل اتجاه وأن يبني عبر أنشطته المتنوعة جميعًا شخصية قادرة على التصدي لكل مشكلة، والإسهام الإيجابي الفعال في كل ما من شأنه أن يعيد حقًا أو يقيم عدلًا..
في حرب الفجار مارس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شؤون القتال، وفي حلف الفضول شارك في تجربة السياسة والحكم، وفي بناء الكعبة أعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب في حل المشاكل التي تلعب فيها المعتقدات والقيم والمقدسات دورًا كبيرًا، وخلال هذا وذاك يتزوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويمارس في أعقاب زواجه ذاك كبرى التجارب الاجتماعية في حياة الإنسان وينجح في التجربة.
هكذا بدت حياة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه، سلسلة مترابطة الحلقات منطقية التعاقب من التجارب والخبرات في شتى المجالات لتهيئه لتلقي الوحي والقيام بأعباء الرسالة.
ولكن ماذا عن خبراته الروحية والدينية والأخلاقية؟
هذا له حديث آخر إن شاء الله.
- التصنيف: