آداب الهاتف المحمول

منذ 2015-07-28

واعلموا عباد الله: أنَّ فضل الله عظيم، ورحمتَه وسعتْ كلَّ شيء، فأقبِلوا على التوَّاب الرحيم؛ قال ربُّكم - جل وعلا-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، والله لا يُعذِّب مستغفرًا تائبًا؛ قال - جل وعلا -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. ومَنْ لم يَتُبْ من معصيته نَدِم إن أقبل على الله؛ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}.

الخطبة الأولى

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] أيُّها المسلمون: - خَلَق الله- سبحانه - الإنسان، ووهبه العقل، وسخَّر له كلَّ شيء بُقدرته وإرادته، فسبحان مَن هدى العقول والأفكار.

{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
عباد الله: بفضل الله ومنه -اخترعَ البشرُ جهازًا صغيرًا، يُسمَّى الهاتف المحمول، أو (النقال)، وفوائده كثيرة ومنافعه عظيمة إذا أحسن استعماله، نحتاج إليه في الملمات، ينقل الخواطر والمشاعر، يقرب البعيد، يُطفئ نار الأُمّهاتِ لتأنس بسماع صوت الأبناء والبنات، في لحظاتٍ يسيرة نصل به الأرحام البعيدة، ونتواصل مع الأصدقاء والأحباب، يُسعِف المريض والمصاب، ويَدفع المنكر والجريمة والحريق، ويُوفِّر جهدًا ووقتًا ومالاً، وإلى غير ذلك من المنافع.

أيُّها المسلمون: والهاتف المحمول له آدابٌ وأحكام، وله ايجابيات وسلبيَّات، ولا ريبَ أنَّ الهاتف نعمة إذا حسن استعماله، ونقمة إذا أسيئ استعماله ولشكر هذه النِّعمة العظيمة، التي من الله علينا بها، وهدى عقل البشر لصنعه، أن نسخره فيما يرضي الله - عز وجل - ويعود علينا بالنفع دينا ودنيا، لذا يحسن التنبيه على أمور منها:

أولاً: على المتَّصل البدءُ بتحية الإسلام (السلام عليكم)، فهي شعارُ المسلمين وتحيتهم، وهى من أسباب المحبة بين المؤمنين - قال النبي صلى الله عليه وسلم، «أَوَلاَ أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم»؛ أخرجه مسلم، وكذلك الخِتام ينبغي أن يكون بالسَّلام، كما بدأ بالسلام. ثانيًا: الاقتصاد والاختصار في المكالمة، فعَلَى المتصِل ألا يُضيع مالَه، وأن يقتصد في كلامه، وأن يتجنَّب التطويل في المقدِّمات والسؤال عن الحال، فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا، ويَكره لكم ثلاثًا»، إلى أن قال - عليه الصلاة والسلام -: «ويَكرهُ لكم: قِيلَ وقالَ، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال» (أخرجه مسلم).

ومن آداب المهاتفة: عدمُ رفْع الصوت، وفي هذا أدب رفيعٌ مع الوالدين، ومَن كان في قدرهما، فإنَّ هذا أدعى للاحترام والمحبَّة؛ قال - جل وعلا -: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19].

ثالثًا: وعلى المتَّصَلَ ألا يحرج المتصل عليه بقوله: هل عرفتَني؟ فينبغي على المتصل إذا اتصل أن يُعرِّف باسمه، وأن يبتعد عن تلك الأساليب التي فيها إحراجٌ للآخرين، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعوتُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن هذا؟ فقلت: أنا، فخرج وهو يقول: أنا أنا» (البخاري ومسلم).

رابعًا: وعلى المتَّصِل ألاّ يسيءَ الظنَّ بالمتصَل به إذا لم يرد، أو ردَّ ردًّا مقتضبًا، فعليه مراعاة حال المتصَل عليه، والْتماس العذر له؛ فقد يكون مريضًا، أو في المسجد، أو في المقبرة، أو في دَورةِ المياه، أو موقف لا يستطيع الردَّ، أو الرد باختصار، وإذا لم يردَّ فلا تلِحَّ عليه، وقدِّر زمنًا ثم اتصل به.

خامسًا: وينبغي أن يتحرى المتصل أوقات الاتصال مراعياً أحوال الآخرين، فلا يتصل من غير ضرورة في وقت متأخر في الليل أو وقت النوم والراحة..

سادسًا: وعلى المسلم أن يحذر ويَتثبت من الاتِّصال الخاطئ أو العابث، فَكَم من اتِّصال خاطئ أو رسالة خاطئة أثارتْ شكوكًا وحطَّمت بيوتًا! قال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

سابعًا: والداخل للمسجد يجب قفل هاتفه، لا يُشوِّشَ على المصلين ويؤذيهم، ويقطعَ عليهم صلاتَهم وخشوعهم وإذا نسي ولم يغلقْه، فليبادرْ إلى إقفاله وإسكاته إذا اتَّصل به أحد؛ كما ينبغي العذرُ لِمَن نسي قفلَ هاتفه، ونصحُه بالقول اللَّين والموعظة، لعلَّه يتذكَّر، والبعد عن أسلوب التجريح والإهانة، ولكم في رسول الله أسوة حسنة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابيٌّ فبالَ في المسجد، فتناولَه الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم: «دَعوه، وأَهْريقوا على بَولِه سَجْلاً من ماء - أو ذَنوبًا من ماء - فإنَّما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين» (البخاري).

ثامنا: البُعد عن استعمال الأغاني والنغمات الموسيقيَّة؛ لِمَا في ذلك من الحُرمة، ولما فيها من التشويش والأذى، ويقبح استعمالُها إذا كان في المساجد، أو الأماكن العامَّة، وكذلك حُرْمة وضع صور فنَّانين أو فنانات، أو مشاهير على واجهة الهاتف، ولا يجوز جعل جَرسَ الهاتف آيةً من كتاب الله أو الآذان، فإنَّ ذلك امتهان لها غير جائز.

تاسعا: ومن الأفعال الخبيثة القذرة البغيضة شرعًا وأدبًا: فتح مُكبِّر الصَّوت بحضرة الآخرين، أو تسجيل مكالمتهم، دون عِلم المتَّصل وإذنه؛ وذلك لتضمُّنِهِ الخيانة، قال العلماء: "لا يجوز لمسلم يَرعى الأمانةَ ويُبغض الخيانة أن يُسجِّل كلامَ المتكلِّم دون إذنه وعلمه، مهما يكن نوع الكلام

العاشر: ولا يجوز استعمال رسائلَ تحتوى على كلام فاحش، أو نكت سخيفة، أو صور ورسومات غير أخلاقيَّة، فهذا كلُّه ممَّا يخالف الشَّرع، وينافي الأدب، ولا يتلاءم مع شُكر هذه النِّعمة.

الحادي عشر: ولا يجوز التجسُّس على هواتف الآخرين، وفحصُها والاطلاع على رسائلهم دونَ رضاهم فإنه خيانةٌ لهم، وهتكٌ لأستارهم، وفي الحديث قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تَحسَّسوا، ولا تجسَّسوا» (البخاري ومسلم)، قال العلماء: التحسُّس: الاستماع لحديث القوم، والتجسُّس: البحث عن العورات.

الثاني عشر: الحذرُ من استعمال الهواتف في التصوير؛ تصوير المحارِم، خصوصًا في المناسبات العامَّة، وعلى الآباء منعُ أولادهم من استعمال الهواتف التي بها ميزة التصوير؛ درءًا للمفاسد، أيُّها المسلمون: والانشغال بالمهاتفة أثناء قيادة السيارة من أكثر أسباب الحوادث المروريَّة، وإزهاق الآلاف مِن الأرواح: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].  وهذا الجهاز كما استفاد به أناسٌ في الأعمال الطيبة، استغلَّه آخرون من أهل الفساد والشرِّ في الإجرام والترويج، وبيع المخدرات والإضلال؛ وهذا من أعظم أسباب الفساد في الأرض وقد توعد الله المفسدين فقال -: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

الخطبة الثانية

أيُّها المسلمون: ومن الاستعمال السيئ والفاسد لهذه الهواتف من بعض النفوس المريضة والخبيثة، بث الفضائح والفواحش وتتبع العورات، ونشرَ الموبقات، فكُشفت عورات، وهُتك سِترُ الغافلات، وأُشيعت الفواحش والمنكرات، ونُشر الفساد، وتُسُلِّط على أعراض العباد، كم من فتاة كانت ضحية، فنُشرِت سوءتُها على ملأٍ من الناس على حين غفلة! وكم مِن أسرةٍ تشتَّت شملها! جرائم وفواحش، صُوِّرت، ونُشرت. عنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» (رواه الترمذي وأبو داود وأحمد البيهقي الكبرى صححه ابن حبان){إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

ولو أنَّ واحدًا أرسل صورةً واحدة، فمِن واحد إلى واحد ستصل إلى الملايين، قال الله - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.

واعلموا أيُّها المسلمون: أنَّ الذنوب والمعاصي تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في الماء والهواء والزُّروع والثِّمار والمساكن وغيرها؛ قال - جل وعلا -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وما في الدنيا والآخرة شرٌّ وداء، إلاَّ وسببه الذنوب والمعاصي، فسبب المصائب والفِتن كلِّها الذنوبُ، فالذنوب والمعاصي ما حلَّت في ديار إلاَّ أهلكتْها، ولا في قلوب إلاَّ أعمتْها، ولا في أجساد إلاَّ عذبتْها، ولا في أمَّة إلا أذلَّتْها، ولا في نفوس إلاَّ أفسدتها.

قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صِغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عِظَم مَن عصيت.

وقال بِشر: لو تفكَّر الناس في عَظمة الله، ما عَصَوُا الله - عز وجل -.

قال وُهيب بن الورد: اتَّقِ أن يكون الله أهونَ الناظرين إليك، وفي المسند من حديث أمِّ سلمة - رضي الله عنها -: «إذا ظَهرتِ المعاصي في أمَّتي، عمَّهم الله بعذابٍ مِن عنده».

واعلموا عباد الله: أنَّ فضل الله عظيم، ورحمتَه وسعتْ كلَّ شيء، فأقبِلوا على التوَّاب الرحيم؛ قال ربُّكم - جل وعلا-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، والله لا يُعذِّب مستغفرًا تائبًا؛ قال - جل وعلا -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. ومَنْ لم يَتُبْ من معصيته نَدِم إن أقبل على الله؛ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}.


محمد أبو عجيلة

  • 15
  • 3
  • 23,691

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً