عشية عرفة
تعرف على الله؛ مما لابد أن يحضر بقلب الداعي أن كل شيء بيد الله سبحانه من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، وحقيق بدعائنا ألا يفارقه ذلك. ربك سبحانه يحيي الإنسان ويميته ثم يحييه فما بالك بما دون ذلك من شل يد الظالم عن ظلمه؟!
مورد
ثوان معدودة .. ما إن يرفع يديه إلا ويخفضها .. لا تتغير معالم وجهه ولا قلبه .. ولا حتى رطوبة عينه .. أعادةٌ أصبحت؟ .. أين المشكلة؟!
كم يحزن الفؤاد أن يرى حاجاً بذل وقته وماله وجسده في سبيل حج بيت الله العتيق ثم هو في تلك العشيّة الشريفة نائماً أو مقهقهاً أو عابثاً بجواله منتظراً أفول الشمس!!!
مقر
خذها مختصرة محبّرة، مرقومة مرقّمة؛ لتوقظ رغبتك في الدعاء، وتنعم بالعيش معه، وتردد قلبك في مقاماته:
1- تعرَّف على معنى ما ورد من الأدعية والأذكار؛ ومن ذلك أن الهداية إلى الصراط المستقيم -التي تسألها ربك في كل صلاة- = هداية مجملة وهي ظاهرة، وهداية تفصيلية في كل عمل من أعمالك (انظر: مجموع الفتاوى 14/ 320-321) وللعلماء تآليفٌ في شرح الأدعية والأذكار منها: (فقه الأدعية والأذكار للدكتور: عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر).
2- استحضر سعة المعاني؛ فحينما تدعو ربك طالباً السعادة لا يقصر قلبك عن الآخرة مطبقاً على الدنيا بل اجمع سعادة الدنيا والآخرة. وحينما تقول: (فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) = تفكر في جميع شؤونك دقيقها وجليلها، ثم انظر إلى طرفة العين، كم جزءً من الثانية تستغرق؟! ومع ذلك دعا ألا يكله لنفسه قدرها لكي يبقى القلب معلقاً في جوف العبودية، متعطراً بأريجها الفواح .. هكذا تتحرك نبضات فؤادك مع حروف دعائك.
3- ألحّ على الله في الدعاء؛ ولن يذهب الذوق بل يزيده توحيداً فليس لك رب غيره تطلبه وترجوه تفر منه إليه وهذا مقام عالٍ في سلم العبودية. أرأيت الطفل وهو لا يفتر عن سعيه في نيل مطلوبه؟! هلا حملنا روحه وفطرته ..
4- توسل وأظهر فاقتك؛ للزوم خضوع القلب في ذلك، والحمد والثناء من التوسل وهو فتح من الله، ففي حديث الشفاعة: «
»، ومما هو على الافتقار معيناً: تذكر المبدأ والمعاد.5- استحضر أن الله يسمع دعائك؛ فبمشهد الإحسان حلاوةُ المناجاة، وذوقُ الدعاء، يقول الحق في الحديث القدسي فيما رواه مسلم: «الفاتحة وتدعو بها؟!
» هل استحضرت يوماً هذا الحديث وأنت تقرأ سورة6- تذكر حاجاتك الدنيوية والدينية؛ فهي مما يدفعك للدعاء ومنه مادة دعائك. تذكر ماضيك وما عليه أسدلت السُتُر، ومستقبلك الذي ينتظرك وتنتظره في دنياك وفي أخراك. كل ما يكتمه قلبك من هموم قد يعجز لسانك عن البوح بها اطرحه على طاولة الدعاء وتناوله على مائدته.
7- تذكر نعمه عليك؛ فبها لن ترفع رأسك يوماً معجباً بنفسك أو عملك، بل ترفعه طالباً راجياً مبتهلاً مستمطراً رحمته وعفوه وفضله.
8- تعرف على الله؛ مما لابد أن يحضر بقلب الداعي أن كل شيء بيد الله سبحانه من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، وحقيق بدعائنا ألا يفارقه ذلك. ربك سبحانه يحيي الإنسان ويميته ثم يحييه فما بالك بما دون ذلك من شل يد الظالم عن ظلمه؟!
9- ليكن دعاءك تضرعاً وخفية؛ لو عدنا قليلاً لنعرف لم سمي التضرع بذلك سنجد أن أصله وهو: (ض ر ع) يدل على لين في الشيء ومنه سمي الضرع لأنه لين. سل نفسك: أين هذا اللين في دعائك؟ أين تذللك وانكسارك وشدة افتقارك؟ وادعوه خوفاً وطمعاً: إنها مشعل القلب ومدفعه لذوق حلاوة الدعاء.
10- اقتبس من النصوص عباراتها وعبيرها؛ وكن فطناً وأنت تقرأ أدعية الأنبياء -وهم أعرف الناس بالله-. كيف دعوا؟ كيف ابتهلوا؟ بم شفعوا دعاءهم؟ فقد آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، وهداهم فبهداهم اقتده.
11- لا يغفل ناظرك عن آثار رحمة الله وإجابته؛ ليتحقق مقام القرب من الله في قلبك {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة من الآية:186]، إجابة دعائك وتحقيق مطلوبك، تزيد يقينك عيناً وقلبك اطمئناناً، تنظر بحواسك إلى آثار رحمة الله، ترى بنور بصيرتك أنه سميع مجيب؛ ليعود ذلك إلى المناجاة حلاوة وذوقاً.
12- تناس كل معالم الحضارة المادية ثم ارفع أكفك لتعلم أن غناك إنما هو بربك، وتدرك أن تلك الحضارة ليست كل شيء، بل الشيء كله عبوديتك لربك. احمل روح مزارع قبل ١٠٠ سنة فقط ثم اقرأ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك:30] ستجد جسدك يرتفع ويتوجه إلى الله: ليس لنا إلا أنت يا الله.
13- (الدعاء هو العبادة) يُسمع الحديث دائماً أليس كذلك؟! لكن دعنا نقف معه، نؤمن بأنه عبادة لكن في طي تعريفه بالألف واللام عظمة وجلال، ولنتساءَل: ما العظمة التي جعلت الدعاء بمنزلة جميع أنواع العبادة مع أنه عمل واحد؟! ستجد الجواب في فؤاد الداعي. نعم .. فؤاده الذي يتقلب في كل الأعمال القلبية .. وأعلاها وأشرفها: تحقيق توحيد رب البرية.
14- تدعوه فيجيب، تسأله فيعطي، هل هذا هو الموقف فقط، لا، بل دع الحمد والشكر على طرف الثمام، وذرب اللسان، ولا تكن مثل الذين لما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون، بل أعلنها كأولئك الحمد لله الذين صدقنا وعده، وقل آمنت بالله، ثم استقم على هداه: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس:89].
مصدر
مشهد لم يغب عن ناظري في حج مضى .. كثر المطر فأغرق، وادلهم الخطب فأفزع .. التقط شيخ الحملة مكبر الصوت المتنقل، واتجه إلى القبلة ورفع يديه داعياً ومتوسلاً ومبتهلاً ..
ما بدأ إلا وتوقف الناس كأنما صب عليهم ماءً بارداً .. والتفوا إلى القبلة مؤَمّنين .. ووالله ما سمعت دعاء قط أكثر ابتهالاً من ذاك الدعاء، وما رأيت مشهد الداعين كذاك الموقف، قلوبهم وأبصارهم وأيديهم مرتفعة لخالقها، والدنيا ملقاة خلف ظهورهم وتحت أقدامهم، يالجلالة المشهد.
في تلك الساعة .. عرفت أن حقيقة الافتقار: اليقين بالاضطرار {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل من الآية:62].
عبدالله بن عمر العمر
- التصنيف: