مـــــدمـــن

منذ 2015-11-06

يسير بخطوات واهنة، يتعثّر ويتمايل متكئًا على أقرب جدار له، يلملم بتواضع أطراف ثوبه المرقع، يجر قدميه من شدة التعب وتبدو على وجهه علامات الإرهاق.

يتلفّت يمنة ويسرة قلقًا واضطرابًا، إنّه يُخفي شيئًا ما.
لم يقتل، لم يسرق، ليس مطاردًا لثأر أو لدين .. لكنّه خائف!
كان السبب الوحيد لخروجه في مثل هذا الوقت -وقد بدأت أشعة الشمس تُلهب بشرته بلسعاتها القاسية -هو أن يبيع ما صنعه بيده التي لا يعلم كيف رفعها وحمل بها هذا الثقل الرهيب، إنّه يتألّم.
وصل أخيراً إلى التاجر الذي اعتاد أن يبيعه بضاعته، وجه عبوس، حاجبان غليظان، صوتٌ أجشّ وكأنّه يصدر من بئر عميق.
وقف أمامه ومدّ يده ببضاعته ثُمّ فتح فمه بصعوبة وطلب منه المال.
رمقه العبوس بشراسة، ثُمّ زفر في وجهه بأنفاسه الكريهة، بدت أسنانه القذرة كمخالب لوحشٍ كاسرٍ ينهش في ملامحه البريئة بضراوة ونهم، قال بصوت متحشرج:
لا مال لك عندي إلا بشرط واحد!
تنفس الصُعداء، أي شرط يهون طالما أنه سيحصل على المال، كاد أن يهز رأسه موافقا ألا أنه عندما سمعه يطالبه بالإقلاع عن إدمانه وترك الطريق التي سلكها طوعًا بكامل إرادته، سارع بإدارة رأسه وانصرف عنه.
عاد بلا مال، وبلا بضاعة فقد سلبه إياها وصاح في وجهه أمام الجميع.
اقترب من داره وهو يقدم ساقًا ويؤخر أخرى خوفاً من أمه التي يحبها وتحبّه .. ولكن!
كان يتساءل في نفسه لماذا صارت قاسية عليه؟؛ ما زالت علامات التعذيب على جسده، توجعه، تؤلمه؛ أرادت أن تمنعه عمّا يفعله، لم تعلم أنّه لا يستطيع، فالأمر ليس بيده!
طرق الباب بأصابعه الواهنة ووقف ينتظرها أن تفتح له الباب وتسمح له بالدخول، هربت منه الكلمات ووقف حائرًا يقلّب وجهه في السماء.
سمع صوت خطواتها تقترب، تسارعت دقات قلبه وتخشّب لسانه، فوقت الجَرعة قد حان لكنه لا يستطيع الحصول على مبتغاه الآن، أُمّه ستمنعه لأنّه لم يجلب لها المال.
فتحت "أم أنمار" باب عرينها وبصقت في وجهه فور أن رأته ويداه خاليتان من المال ومن البضاعة وجرّته من شعر رأسه وقيدته ثُمّ أشعلت النار.
بدأت تكويه في جسده مرات ومرات وهو يبكي بصمت وقد سدت أنفه رائحة لحمه المحترق والمختلطة برائحة دمائه التي كانت تغلي في عروقه.
تعبت، ويئست، وكلّت يدها فقد أطفأ الدهن السائل من جسده وهج الجمرات، تركته وانصرفت وهي تسبّه وتلعنه.
لم يكرهها، ولم يؤذها، حتى عندما مرضت واضطر لكيّ رأسها بالنار كان يتألّم من أجلها...
حياك الله يا حبيب رسول الله
حياك الله يا "خبّاب بن الأرت"
ما زالت نسائم الصبر والثبات على الحق تهب علينا كلما ذكرناك.
أي شاب كنت؟ وأيّ رجولة تلك؟ وكيف صبرت على لسعات النّار؟
أدمنت قراءة القرآن، وعشقت ترتيله، فأحببت حروفه و أخفيت وريقات تحوي آياته خوفًا من أن ينزعوها منك فتُنتزع روحك التي تعلّقت به.
لم تردّك النار عنه، ولم يمنعك الألم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلّم، لم تنفّرك رائحة لحمك المحروق وأطراف جلدك الملتهبة عن تعلمه وتعليمه لمن يحبّ!
علمنا أيّها الشريف بقصّتك عندما اختبأت هربًا من "عمر بن الخطّاب" عندما كُنت تعلّم شقيقته و زوجها تلاوة الآيات.
لم يهنأ جسدك بأفخر الملابس، ولم تطأ قدماك أفخر أنواع السيارات.
صدأت النجوم وانطفأ بريقها عندما ذكرناك.
حيّاك الله يا حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حيّاك الله أيها الطيّب.
نزل "خباب بن الأرت" في الكوفة وبنى لنفسه بيتاً متواضعًا عاش فيه حياة زاهدة، وبالرغم من هذه الحياة البسيطة، كان يعتقد أنه أخذ من الدنيا الكثير، فكان يبكى على بسط الدنيا له، وكان يضع ماله كله في مكان معروف في داره لكي يأخذ منه كل محتاج من أصحابه الذين يدخلون عليه.
كان خباب مدمناً .. نعم؛ أدمن القرآن لتلك الدرجة التي جعلته لا يلتفت لكتفه وهو يكوى بالنّار، تلك التجاويف الخالية من اللحم الذي احترق وتساقط من ظهره لم تحجب قلبه عن التحليق مع الآيات وهو يرتلها، حفظ حروفه في قلبه وعقله .. بل وعلمه لمن حوله.
ليتنا مثل خبّاب، نتحمل بعض المشقة، بعض الألم، نشتاق، نرتجف عندما نبتعد عن تلاوة آيات الله، نشعر أننا في حاجة لجرعة مباركة من الأمل، تُسكن الألم فتهنأ أرواحنا، فنركض، ونهرع لنتوضّأ وتهدأ خواطرنا، فتصعد أرواحنا وترتقي ونحن نتنقل من آيةٍ لأخرى. إحساس رائعٌ أن نُدمن تلاوة القرآن، إحساس رائع ذاقه "خباب بن الأرت" فليتنا نذوقه. 
 

 

حنان لاشين

كاتبة إسلامية ملقبة بأم البنين

  • 22
  • 1
  • 3,089

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً