خرق الناموس
الدعاء عبادة، وهو مناجاة وصلاة وقرب من الله؛ يربي على الصبر واحتساب الأجر، ويقوّي العزيمة على الطريق، ويرفع الهمة، ويعزز المقاومة، ويصنع التحفيز، ويفتح باب الأمل في حالات ومواقف شخصية، وأزمات نفسية وصحية وخاصة وعامة، ويهدئ النفس، ويريح الخاطر، ولو لم يكن من بركته إلا أنه يمنح طاقة عظيمة على انتظار الفرج ولو بعد حين أو جيل أو أجيال، ويحمي النفوس من سطوة الكآبة والحزن، والهمّ والغم، واليأس والقنوط والاستسلام.. لكان ذلك كافيًا.
قال لي صاحبي: أما ترانا كل يوم نفقد عزيزًا، ونخسر أرضًا، وننسحب من موقع، ونفاجأ بكارثة؟
قلت: بلى.
قال: ما الخطب؟ ولمَ؟ وإلى متى؟ وما المخرَج؟ وأين المفرّ؟
قلت: لا مفرّ من الله إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا به.
قال: ها نحن ندعوه ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا فلا يستجاب لنا!
قلت: إنه لا يخلف الميعاد، والدعاء أحد الأسباب الشرعية، ومعه أسباب شرعية أخرى؛ كالعدل، والإحسان، ورد المظالم، وحسن التعبُّد، والتوكل، وثمَّ أسباب طبيعية كونية وضعها الله نواميس تجري بها العادة، وهي سنن محكمة قائمة لا تكاد تتخلَّف.
كما الشمس في مطلعها ومغيبها، والقمر، والنجوم، وقوانين الذرة، والمجرة، والفيزياء، والكيمياء، وما بثّ الله في الكون من أحياء ودواب تجرى كلها وفق ناموس واضح محكم؛ في أكلها، وشربها، وتزاوجها، وصحتها، ومرضها، وكثرتها، ونفوقها، وتنوعها، أفترى شيئًا من ذلك عبثًا لا نظام له؟
قال: لا؛ وربي!
قلت: وهل جعل الله هذا الناموس متفاوتًا بين عباده في الدار الدنيا، فهو يجري بطريقة ما على الكافر، ويجري بطريقة أخرى على المؤمن؟
قال: كلا؛ هو ناموس واحد مطّرد يجري على العباد كلهم، ورحمته وحكمته اقتضت أن يكونوا أمام قانون الدنيا والكون سواسية.
قلت: فلماذا نحن في كل مرة نواجه أزمة تندرج ضمن هذه النواميس، نستغيث بلهجة من يريد من ربه خرق الناموس، وإحداث المفاجأة، وإجراء النتيجة التى لا تنسجم مع المقدِّمات والأسباب؟ كيف نتعلم إذا كان منا من يقول كما قالت بنو إسرائيل: {نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]؟
نعم؛ هو لا ينطقها بلسان المقال بل بلسان الحال. ويعتبر نفسه كالابن المدلل؛ الذي يفعل ما يشاء، ولا يُؤاخذ، ولا يُعاتب، ولا يُعاقب، ولا تجري عليه القوانين؛ التي تجري على بقية الشعب! أليس نقرأ في كتاب ربنا: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا . وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124:134]؟
أليس قد قال الله لأهل الكتاب: {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} [المائدة:18]؟ أليس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح مسلم:204].
أليس يقول حذيفة بن اليمان: "نِعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مُرة ولكم كل حُلوة، فلا والله لتسلكن طريقهم قِدَّ الشراك"؟ (رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه). كيف سنصحح تفكيرنا المعوج وطريقنا المائل إذا كانت الأمور تطاوعنا وتجري لنا كما نشتهي، ونحن ممعنون في الغلط، غافلون عن التصويب والتسديد، غارقون في مألوفاتنا وما وجدنا عليه آباءنا؟
قال لي صاحبي: صدقت.. ولكن ما قيمة الدعاء إذن؟ ولماذا يحركنا الدعاة والوعاظ إليه ليل نهار كلما ألمَّت ملمّة أو وقعت كارثة؟
قلت: الدعاء عبادة، وهو مناجاة وصلاة وقرب من الله؛ يربي على الصبر واحتساب الأجر، ويقوّي العزيمة على الطريق، ويرفع الهمة، ويعزز المقاومة، ويصنع التحفيز، ويفتح باب الأمل في حالات ومواقف شخصية، وأزمات نفسية وصحية وخاصة وعامة، ويهدئ النفس، ويريح الخاطر، ولو لم يكن من بركته إلا أنه يمنح طاقة عظيمة على انتظار الفرج ولو بعد حين أو جيل أو أجيال، ويحمي النفوس من سطوة الكآبة والحزن، والهمّ والغم، واليأس والقنوط والاستسلام.. لكان ذلك كافيًا.
الدعاء يمنح اللطف في الأزمات، ولذا كان بعض الصالحين يقول: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه! ويا ليت أن صيغ الدعاء تكون ملهمة ومحفزة على التدارك والتصويب والبحث عن أسباب الهزيمة في داخلنا كما كان أحدهم يقول: "اللهم بصِّرنا بمواطن الضعف في نفوسنا"
قال صاحبي: وهل ورد مثل هذا عن سيد المتعبِّدين؟
قلت: نعم. كان أول ما يقول في دعائه وخطابه: «الشافعي:2/200]. وكان يقول:« » [مسند أحمد:1/43].وكان يقول: « » أو كما قال صلى الله عليه وسلم [صحيح الترمذي:3492].
» [شرح مسند- التصنيف:
- المصدر: