حول (فيديوهات) الوعظ والتذكير
تنبيهات وملاحظات على (ظاهرة فيديوهات التذكير والوعظ) التي انتشرت في مواقع التواصل.
وقد يكون الميكروفون داء!
الخطاب الديني خطاب علماء، وكل من يضع نفسه موضع الدعاة يجب أن يكون على علم ودراية بدينه بمستوى يؤهله للتصدر، مهما كان عنوان الحديث الذي يتحدث فيه ما دام ذلك الحديث دينيًا، ومهما كان المتحدث مخلصًا وذا نية طيبة، بل يجب أن يكون دارسًا ومُجازًا فيما تعلم، حتى لا يصير الخطاب الديني كلأ مباحًا لكل جاهل أو مدعٍ أو مبتدئ.
أقول هذا بعدما لاحظت ما يمكن أن أطلق عليه مجازًا لفظ (ظاهرة فيديوهات التذكير والوعظ) التي انتشرت في مواقع التواصل.
ولست ابتداءً أشكك في النية الطيبة لغالب هؤلاء الطيبين المتحدثين فيها، كما أؤكد أن في بعضها خيرًا ظاهرًا ونفعًا واضحًا، وللحق فقد لاحظت أن كثيرًا من المتحدثين فيها يجتنبون الحديث في مسائل العلم العميقة، وبالطبع فأنا أتحدث في دائرة الأعمال الصالحة، فلا يقارن ذلك بحال بأعمال المزاح أو تضييع الأوقات أو مثاله مما انتشر.
لكنني مع هذه الموجة الواسعة من انتشار هذه المقاطع، لي معها عدة ملاحظات:
فهذه المقاطع هي خطاب ديني على كل حال، وحتى لو كان الموضوع موضوعًا وعظيًا سهلًا فيما يبدو للبعض، أو موضوعًا أخلاقيًا أو مثاله، فهو يتحدث في إطار ديني شرعي.
والخطاب الديني هو خطاب علم، يقوم به علماء بالأساس، لا تصح فيه مجرد الهواية بغير علم، ولا يقبل فيه الأداء مهما كان جاذبًا بغير معرفة وفهم وفقه.
وقد لاحظت بعضًا من تلك المقاطع، وقد ألحن المتحدث فيها بلغته، وأدخل فيها ألفاظًا غير لائقة بذلك المقام بل بعضها يعد إسفافًا لا يناسب المعنى الدعوي الراقي، وفي بعض قراءة الحديث النبوي الشريف لاحظت اللحن الظاهر وعدم القدرة على قراءة اللفظ النبوي كما ينبغي، بل قد وجدت بعض من يصف بعض الأفعال بالحرمة وهي بعيدة عن ذلك، وكذا بالوجوب وهي ليست كذلك.
كذلك فقد اعتمدت تلك المقاطع على عنصر الجذب والإخراج والمونتاج، وهو بالعموم شيء حسن في جذب المشاهد والسامع، إلا أن الشيء السلبي الذي يجب مراعاته أن يكون ذلك على حساب المادة العلمية، مع ضيق وقت المقطع، فتأتي منقوصة غير تامة، كحديث قد اقتطع سياقه، أو حكم قد بتر من مقصده، أو عرض لتوجيه مرجوح بغير بيان الراجح أو حتى المخالف فيه أو غيره.
ولست أتمنى أن أرى ذلك اليوم الذي أجد فيه الموعظة الإيمانية وقد تحولت إلى منافسات في الجاذبية والإخراج، عبر دقائق أو ثوان. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعملها بحرص وتركيز وفقه تام وإدراك كامل للمواقف، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا" (أخرجه البخاري).
إن لأوصاف الخطيب والواعظ قيمتها الرفيعة -عند الله سبحانه وفي نفع الناس وتوجيه الأمة وصيانتها- إذا أخذت بحقها فتحلت بالإخلاص التام والعطاء الدائم والتجرد النبيل. إلا أن الحاصل في بعض الأحوال أن تحيد العملية التربوية عن مسارها المتفرد إلى حالة من التزين والتجمل أمام الناس فيتربى الشخص على حب ذلك التصدر والرغبة في الألقاب وتنمو فيه محبة الإفتاء والتعلق بالشهرة قبل أن يكون أهلًا لذلك. هذا فضلًا على كون هذه المقاطع خطاب عام يسمعه آلاف الناس، قد تنتشر به أخطاء سلبية ببساطة ويسر، خصوصًا وقد صار الإنترنت هو المصدر الرئيس لتلقي المعلومة عند كثير من شبابنا.
ما أريد قوله باختصار، أنه لا بأس بهذه المقاطع كوسيلة دعوية لتذكير الناس بالخير، لكن أرجو أن يراعى فيها: أن يقوم بها أهل علم متفقهون، وأن تقتصر على القصة والحكاية، أو قراءة الحديث قراءة صحيحة، أو نقل كلام العلماء، أو تبسيطه بصورة غير مخلة، أو التحدث في نطاق الآداب والذوق ومثاله، بعيدًا تمامًا عن القضايا العلمية، وأن تعطى وقارها، ويراعى شرفها، وأن تنتمي دائمًا للكتاب والسنة وكلام العلماء الأئمة.
وأعلم أن كلامي قد يكون ثقيلًا على بعض الشباب المتحمس الذين يريدون أن يبلغوا ولو آية، لكن ليعذرني هؤلاء الكرام، فمقصدي ها هنا هو الحفاظ على جلال هذه الدعوة الكريمة، وحماية جنابها من عبث الجاهلين بالعلم الشرعي، أو أن تصير مادة فيلمية تقضى بها الأوقات الترفيهية السريعة، لذلك فأرجو منهم -إتمامًا للخير الذي يريدونه من تبليغ الهدى للناس- أن يعودوا إلى أصله ويلتزموا بحقوقه وآدابه، فلا يتصدر أحد إلا لما يناسبه ويكافئه علميًا وثقافيًا، ثم لتعرض هذه الأعمال على متخصصين لمراجعتها ونقدها وتوجيهها الوجهة المثلى.
ثم إن كان القائم بهذه المقاطع والمتحدث فيها على دراية وعلم، أو كان من الدعاة الأكفاء، فعليه هو الآخر أن يراعي ما بقي من ملاحظات حول: إتمام توصيل المعنى غير مقتطع ولا مجتزأ، والاهتمام بالمعنى قبل الاهتمام بالجذب وطريقة العرض والتأثير، وكذلك لا بد له أن يعرض طريقة التطبيق العملي لما يذكر به ويعظ لئلا يصير الأمر مجرد كلمات حلوة عابرة.
إن الدعوة إلى الله تعالى هي أشرف الأعمال، وإذا كانت مشروعة لكل مسلم بقدر ما يعلم؛ فإنه لا يصح أن يكون المتصدرون له من فاقدي الحد الأدنى من الأسس الشرعية التي تسوّغ لهم القيام به.
كما لا يصح لنا أن نترك العمل الدعوي يتحول إلى مجرد مهارات وقدرات وتأثيرات، فهو بُعد بذلك المقام الشريف عن قيمته وقدره ومقصده، بل الأصل والأساس في الدعوة إلى الله هو العلم بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح والأئمة والعلماء.
قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: "ولا يأمر ولا ينهى في دقائق الأمور إلا عالم، فليس للعوام ذلك... ويُنكر على من تصدى للتدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله"(1).
وقال ابن القيم: "وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها؛ فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلـم إلى حد يصل إليه السعي"(2).
---------------------------------
(1) مغني المحتاج للشربيني ج4ص212
(2) مفتاح دار السعادة، ابن القيم، ج1ص154
د. خالد روشة
- التصنيف: