إلى أحبتي مدرسي الحلقات - (4) معاصي طلاب الحلقة
وليس من الجيّد لا لك ولا لهذا الميدان الذي تنتمي إليه أن يكتشف هذا الشابُ -الذي يسمع كلامَك الآن، وهو غير قادرٍ على البحث أو الاطلاع- فيما بعد أنك كنتَ تدلِّس عليهم أو تكذِب على الشريعة باسم الغيرة على الدِّين!
يشكو عددٌ من مدرسي الحلقات مِن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت عمومًا على أكثر الطلاب، ويجد المعلمُ صعوبةً في التعامل مع هذه الأجهزة التي غزتْ البيوت، وجذبتْ أكثرَ البالغين والكبار فضلاً عن الأطفال، والذي أقوله من واقع معايَش: إن الحل ليس هو المنع، بل البحث عن وسائل عملية للاستفادة من هذه الوسائل في خدمة الحلْقة، وتطوير مهارتهم في تحقيق أهدافِ الحلْقة.
والمدرّس الحاذقُ هو الذي يبحث عن طرقٍ تجعل هذه الوسائل عوناً له على تحقيق مقصوده، ومِن ذلك:
- أن يستشير أقرانَه من المدرسين، ويرتب لقاءً خاصًا بهذه المسألة.
- أن يطرح استبيانًا على طلاب الحلقة: ما أفضل الوسائل والطرق التي تجعلنا نستفيد من هذه الأجهزة والوسائل في تطوير مستوانا؟
فسيصلك مقترحات لم تخطر على بالك، والمهم أن تحرص على ابتكار الأساليب التعليمية التي تُنافس تلك المغريات أو تجاريها، ولا تجمد على الأساليب التقليدية؛ حتى لا يحس الطالب أن وقت درس القرآنِ إنما هو سجن ينتظر فك أسره بفارغ الصبر!
ومن القضايا الشائكة التي يعاني منها بعضُ المدرسين وخاصة طلاب الثانوي والجامعة مسألةُ رؤية بعض المعاصي الظاهرة على بعض الطلاب، وأشد منها تذرّعُ الطالب بوجود خلافٍ فقهي في المسألة! فما الحل؟ وكيف نتعامل مع هذه المشكلة؟
وبدايةً أنبّه إلى قضية مهمة جدًا، وهي: أننا معشر المعلِّمين حين ننبّه على معصيةٍ ما، يجب أن ننتبّه إلى أمورٍ، منها:
ما منزلة هذه المعصية من الشريعة؟ أهي من الكبائر أم من الصغائر؟ لأن التهويل للصغائر أو التهوين من الكبائر كلاهما مذموم.
وأضرب لذلك مثلاً: فبعض المعلِّمين حينما يتحدث عن مسألة الاستمناء، وأنه محرّم، ويذكر بعض مفاسده؛ فقد يكون حماسُه لهذا الموضوع أشدّ مِن حماسه وتأثّره من الحديث عن موضوع الغيبة! مع أن الغيبة من الذنوب التي حُكي الإجماعُ على تحريمها! بخلاف الاستمناء؛ فالخلاف فيه بين الكراهة والإباحة والتحريم موجودٌ بين أهل العلم.
وليس المقامُ مقامَ حديثٍ عن حكمها، وإنما عن فقه الحديث عن هذا النوع من المسائل، وفي كلا الحالين لا يَصحّ أن نفهم من ذلك التهوينَ من المعاصي! فكلّها شؤمٌ وبلاءٌ على العبد، وضررُها في الدنيا والآخرة، لكن من الفقه أن تُنـزَّل مسائلُ الشريعة منزلَتَها، فلسنا أغيرَ مِن الله على محارِمِه، بل وتهويلنا لما لم يهوّله الشرعُ فيه نوعٌ من القول على الله بغير علم، وأثَرُ هذا تربويًا سيء، كما ثبت في الواقع من حالات عديدة، حيث يَشعر الشابُ أنه بسبب اللغة الترهيبية الزائدة منافقٌ بل وراسخٌ في النفاق! فيحدوه هذا إلى ترك الحلقة، لأنه لا يَحتَمل أن يعيش فيما يشعر أنه تناقضٌ صارخ بين الظاهر والباطن.
وليس من الجيّد لا لك ولا لهذا الميدان الذي تنتمي إليه أن يكتشف هذا الشابُ -الذي يسمع كلامَك الآن، وهو غير قادرٍ على البحث أو الاطلاع- فيما بعد أنك كنتَ تدلِّس عليهم أو تكذِب على الشريعة باسم الغيرة على الدِّين! بل سيكون أكثر احترامًا لك إذا علم أنك طرحتَ هذه المسألة وتلك باعتدال وإنصاف، كما لا يصح أبدًا أن نتصور أن التهويل هو الذي سيردعُ الشاب! كلا.. فالهداية بيد الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
ومما يتصل بهذه المسألة المهمة: معرفة هل هذه المسألة فيها خلاف معتبرٌ أم لا؟ فمسألةٌ مجمَع على تحريمها ليست كمسألة مختلف فيها، وعليك أن تكون أيها المعلّم عارفاً بحدود المسائل التي يحتاج طلابُ هذه المراحل الحديثَ عنها، ومستَعداً للإجابةِ على ما قد يوردونه عليك؛ فالشباب الثانوي والجامعي سيستمع لك وسيستمع لغيرك، وأكثرُ ما يأسِره إن كان صادقًا في طلب الحق هو قوّةُ الحجة، ووضوحُ البرهان، والاعتدالُ في طرح المسائل.
وثمة مسلكٌ تربوي وإيماني ينبغي أن يستعمله المعلّم في هذا المقام، وهو مقام التربية بترك المتشابِه، والحذَر من تتبّع الرخص، والعنايةُ بصلاح القلب، وتنميةُ مبدأ الورع في نفسه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع سبطه الحسن رضي الله عنهما الذي كان يومها طفلاً: « » [2]، وللحديث قصة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم وجده يأكل تمرةً من تمر الصدقة؛ فنهاه، ولم يتركه يأكل مع أنه كان طفلاً حينها!
ختاماً.. فإن مسيرتك أيها المعلّم الفاضل مسيرة ذاتَ أعباء، ومهمتك مهمةٌ ذات تكاليف؛ فاستعن عليها بالدعاء الصادق لك ولطلابك، والضراعة بين يدي الله، ومراجعةِ المسيرة بين فينةٍ وأخرى؛ فلن يخيب من تعلّق بمولاه، واستشار إخوانَه، وتهيّأ للإصلاح.
---------------
[1] أشرتُ في المقال السابق (ج3) إلى جملةٍ من المعالم التي يحتاج معلّم القرآن استصحابها في طريق تعليمه، وفي هذا المقال تتمة.
[2] مسند أحمد ح(1723)، المستدرك ح(7046)، سنن الترمذي ح(2518)وقال: حسن صحيح.